الفصل الثاني

هناك نوع من الصمت يكون أشبه بالحاجز الذي إذا حدث وانكسر، تدري أنه سيتسبب بفيضان يجرف معه الأخضر واليابس، قالبًا حياتك رأسًا على عقب، وغامرًا روحك لدرجة لا تدري إن كان بإمكانك النجاة بعدها.

هذا بالضبط ما كنا نشعر به بعد أن عدنا الى بيت (كونُر)، ونحن نحدق بالكبسولات ومحتوياتها المفرغة أمامنا على الطاولة، دون أن ينبس أحدنا ببنت شفه، فلم يرد أي منا أن يكون المسؤول عن إطلاق دانة المدفع التي بدورها ستدمر ذلك الحاجز الذي حافظنا عليه طيلة العشر سنوات الماضية.

ولكن قد فات الأوان على ذلك، فالطوفان قد وصل بالفعل...

"ألدى أحدكم تفسير منطقي لما يحدث؟" كان سؤالي كالسكين الذي قطع الصمت أخيرًا، فنظرا لي كليهما كأنهما قد عادا لأرض الواقع للتو.

امتعض (كونُر) وهو ينظر لي بطرف عينه. "لما لا تنورنا أنت وتعترف بما فعلت، فهذه المزحة باتت سخيفة."

شعرت بالدم يغلي في عروقي، وحاولت كبح نفسي قدر المستطاع حتى لا أقوم من مكاني وأهشم وجهه. "لا اهتم إن كنا في بيتك يا (كونُر)، ولكن إن لم تتوقف عن هذا الهراء، فسأجعلك تندم."

ضحك باستهزاء. "لم لا تريني ما لديك يا دكتور."

لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقفز من مكاني وأتجه نحوه، رافعًا قبضة يدي، استعدادًا للكمه، ولكن (إيدين) أسرع من مكانه ووقف حائلًا بيننا.

"أنتم تتصرفون كالأطفال، ونحن على أعتاب كارثة قد تدمر حياتنا الى الأبد!" صاح فينا (إيدين) بطريقة لم أعهدها عليه قبلًا، ربما هذا ناتج عن تعامله بكثرة مع المراهقين الجانحين والمندفعين بسبب التستوستيرون.

طريقته نجحت في جعل كلانا يهدأ، فقد كان علينا التفكير بروية فيما نحن بصدد مواجهته.

أطلق (إيدين) تنهيدة ومرر أصابعه المرتعشة بين خصيلات شعره الأشقر قبل أن يقول. "ماذا لو أن أحدهم رآنا في ذلك اليوم؟"

"أي يوم فيهم تقصد؟" نظر له (كونُر) بسخرية.

نظرتُ لـ(كونُر) بتوعد، فأشاح بنظره بعيدًا، ثم ركزت على (إيدين) الذي بدا في حالة يرثى لها، وسألت. "ولم يكشر عن أنيابه الأن بالتحديد وبعد أكثر من عشر سنوات؟"

"لحظة." قال (كونُر) مندفعًا كأنه تذكر شيئًا ما. "لقد قلت يا (إيرين) أن موقع دفن الكبسولات كانت فوقه نباتات نمت منذ زمن بعيد، وأن المكان بدا وكأنه لم يتم الحفر فيه لمدة لا تقل عن العشر سنوات."

ضحكت باستهزاء. "وأخيرًا تصدقني؟"

تجاهلني تمامًا كأنني لم أتكلم وأكمل. "لابد إذًا أن تلك الأشياء كانت بداخل الكبسولات طيلة هذا الوقت."

نظرت له باستغراب. "ولكن هذا يؤكد نظرية أن أحدهم كان شاهدًا على ما فعلناه، فهل نسيت أننا من وضعنا تلك الكبسولات تحت التراب بأنفسنا." ثم أردفت وأنا أشير بسبابتي ناحية الكبسولات." لا أدري عنكم، لكني متأكد أنني لم أضع هذه القاذورات في كبسولتي."

دفن (كونُر) رأسه بين يديه وأطلق سبة، ثم هب واقفًا من مجلسه فجأة. "سأصب لنفسي كأسًا من السكوتش." ثم اتجه ناحية البار الذي كان بجانب غرفة المعيشة وأمسك بزجاجة سكوتش بدت باهظة الثمن الى حد كبير.

وهنا لاحظت لأول مرة أن (كونُر) بالتأكيد يجني الكثير من المال من عمله كمحامي لأحدى الشركات الكبيرة بعد أن عانى في بداية حياته كمحامٍ عام بالكاد يكفيه قوت يومه، وبمجرد أن سنحت له الفرصة، قرر ترك العمل الجنائي للأبد والتركيز على عالم الشركات الكبرى وما تدر به من ربح وفير.

فكانت شقته مترفة ومزينة بأثاث حديث وحوائط زجاجية، ولوحات وتحف أعلم أنهم كلفوه الكثير—حتى وان كنت لا أفقه شيئًا عنهم.

عاد (كونُر) ممسكًا بالزجاجة بإحدى يديه، وفي اليد الأخرى ثلاثة كؤوس. "هذه الزجاجة هي هدية ثمينة وكنت أحتفظ بها لفتحها مع امرأة جميلة أو في مناسبة مميزة." ثم أطلق ضحكة عالية. "ولكن قد لا يكون هناك مناسبات أخرى بعد هذا اليوم، فعلى حد علمي كمحامي، الويسكي المعتق شحيح في السجن."

ثم شرع بصب السكوتش، ولكن أوقفه صوت (إيدين) الذي أخبره بأنه لا يريد كأسًا، فنظر لي (كونُر) فأومأت له، وأخذت منه الكأس، فقد لا تسنح لي الفرصة مرة أخرى لتذوق مشروب كهذا.

"أنا أفكر في أمر ما..." قال (إيدين) الذي بدا على وجهه الشحوب. "أثناء دراستي لعلم النفس وخلال سنوات عملي، مرت عليّ حالات كثيرة كان الندم فيها قد تمكن تمامًا من بعض الأشخاص حتى أنهم قاموا بأفعال لا يتذكرون عنها شيئًا، بسبب أن عقلهم الباطن يصنع ما هو أشبه بالسرداب الذي يدفن فيه تلك الذكريات؛ ولهذا يخيل لهم أنها لم تحدث أبدًا."

"ماذا تقصد؟ أنا لم أفهم شيئًا." قال (كونُر) وهو يرتشف من كأسه.

أما أنا فقد فهمت ما قصده (أيدين)؛ فأثناء فترة عملي كطبيب مُقيم، مرت عليّ حالات كثيرة مشابهة، فمنهم من تعرض لحوادث عنيفة، ومنهم من تعرض لصدمات نفسية، وفي الطب، نسمي تلك الحالة بفقدان مؤقت للذاكرة ناتج عن صدمة، ولكن في أحيانٍ كثيرة، بعض أجزاء الذاكرة لا تعود أبدًا.

"إنه يقصد أن أحدنا قام بوضع تلك الأشياء داخل الكبسولات، ولكنه لا يذكر فعل هذا." كنت أنا من جاوبت على سؤال (كونُر).

نظر لي (كونُر)، رافعًا أحد حاجبيه، وكأنني فقدت عقلي. "ما هذا الهراء؟"

"ليس ذنبنا أنك جاهل." كان ردي.

نظر لي ببرود قبل أن يكمل. "أنا متأكد أنني لم أقم بهذا الجنون."

وأنا أيضًا، لكنني لم أقلها بصوت عالٍ، مراعاة لشعور (إيدين).

ربما تكون ذاكرتي المتعلقة بالأيام التي تلت ما حدث مشوشة قليلًا، ولكنني متأكد أنني لم أفعل هذا.

نظرت الى (إيدين) بطرف عيني وقد بدا عليه التوتر، وكان وجهه متعرقًا رغم أن مكيف الهواء كان يعمل بشكل جيد، وازداد توتره أكثر عندما لاحظ أنني و(كونُر) كنا ننظر له؛ فكلانا يعلم أنه كان أكثرنا تأثرًا بما حدث، والندم والشعور بالذنب ظل مسيطرًا عليه لفترة طويلة.

لاحظت شفة (إيدين) السفلى وهي ترتعش فعض عليها بأسنانه وأغلق عينيه، ووضع رأسه بين كفيه قبل أن يهمس. "أنا حقًا لا أذكر."

ثم رفع رأسه، وكانت عيناه الزرقاوان ممتلئتان بالدموع. "لا أذكر أي شيء عن الأيام التي تلت الواقعة. لا أذكر الحالة التي كنت عليها، ولا أذكر ما الذي قمت بفعله، فربما كان أنا. حقًا لا أذكر!"

لم يقل (كونُر) أي شيء، وأنا كذلك. فكلانا كان يعلم أن (إيدين) كان على بعد خطوة واحدة من حافة الانهيار.

وحقًا لا أجد تفسيرًا للذي جمعنا بـ(إيدين) في صغرنا؛ فقد كان مثالًا للطالب المثالي والمسالم، وكنت أنا و(كونُر) كالمغناطيس الجاذب للمشاكل، ولكن وبرغم هذا، تكونت صداقتنا منذ الطفولة وكنا كثلاثة توائم لا تفترق، وساعدنا في هذا أننا كنا نسكن بالقرب من بعضنا، وطوال سنوات صداقتنا، لم ننجح أبدًا بتغيير طباع (إيدين)، حنى حدث ما حدث...

قررت أن أغير الموضوع. "دعونا نلقي نظرة على ما بداخل الكبسولات، قد نجد شيء يذكرنا أو يدلنا على ما حدث بالضبط."

أومأ (كونُر) رأسه وقد فهم ما كنت أفعله. اقترب كلانا من موضع الكبسولات ودعونا (إيدين) أن يرافقنا، فانضم لنا بعد أن مسح دموعه وحاول جاهدًا أن يلملم شتات نفسه.

كنا بالفعل قد أفرغنا محتويات الكبسولات على الطاولة، فكانت كل واحدة من الكبسولات تحتوي على بضع أشياءٍ قديمة كانت تعود لنا أيام الدراسة، وكل كبسولة كانت تحتوي على رسالة كتب عليها اسم واحد من ثلاثتنا، وأيضًا كانت تحتوي على ملابس قديمة ومهترئة، وملطخة بالدماء...

"لم لا نقم بفتح الرسائل؟" اقترح (كونُر) ووافقته الرأي.

أخذ كلٌ منا رسالته، وقام بفتحها.

عندما وقع عيني على المكتوب في رسالتي لم أفهمه، ولكني شعرت بأن الدم قد تجمد في عروقي وبكل شعرة في جسدي وهي تنتصب، وفجأة شعرت بدفيء غريب على رقبتي وكأن أحد ما يتنفس بالقرب مني، ولكن لم يكن أحد بجانبي...

نظرت الى (كونُر) و(إيدين)، وكان الفزع باديًا على وجه كليهما، وكانا يحدقان الى رسائلهما بأعين متسعة.

بلعت ريقي، وحاولت أن أهدئ من روعي قبل أن أتكلم. "من يريد أن يبدأ؟"

تفاجأت حين وجدت أن البداية كانت من عند (إيدين) الذي شرع في قراءة رسالته.

"كشجرة صماء، وقف يحدق من بعيد.

وروحه الأن تستغيث وسط العذاب الأبيض المهيب.

وفي عتمة الليل، تلاشى وما بقيَّ إلا الدمار واللهيب."

بعد أن انتهى، عم الصمت قليلًا، فلم يفهم أحدٌ منا معنى الرسالة، وكان الشيء الذي قطع الصمت هو صوت الورقة في يد (كونُر) الذي تنحنح قبل أن يبدأ في القراءة منها.

"وهل للندم مكان، حين يصبح كل ما حولك شتات؟

فالأن تهوي الى الأعماق، وما من مفر أو خلاص.

يثقل كاهلك ذنب عظيم، وها قد اقتربت لحظة الإنصاف."

بمجرد أن انتهي نظر لي وقال. "دورك يا (إيرين)."

نظرت مجددًا لمحتوى الورقة التي كانت في يدي، وتمنيت لو حدثت معجزة وتبدل ما فيها من كلام، ولكن الكلام ظل منقوش عليها، كالقدر الذي لا مفر منه.

بدأت أقرأ.

"شاهدت من بعيد، العالم وهو بالسواد يغيم.

شاهدت من بعيد، عيون الشيطان ترمق لي من أعماق الجحيم.

والأن أشاهد من بعيد، أرواحهم الموصومة وهي تفيض."

بعد أن انتهينا، قمنا بحرق الرسائل وكل ما كان بداخل الكبسولات، وبتنا في بيت (كونُر) تلك الليلة، واتفقنا على أن ننسى كل ما حدث تمامًا ولا نتحدث فيه مرة أخرى.

بعد تلك الليلة كان لابد لي من الفرار من تلك البلدة الملعونة، فلم يكن يربطني أي شيء بها. فقد توفي أبي وأمي وانا في المدرسة الإعدادية، وربتني جدتي التي تمكنت منها الشيخوخة بعد انتهائي من الثانوية، ولهذا قررت أن ارحل، ولا أعود أبدًا، حتى أنني قمت ببيع منزل العائلة.

ويا ليتني تمسكت بقراري.

ولسبب ما لا أعلمه قررت البقاء في البلدة بضع أيام أخرى بعد ما حدث في بيت (كونُر)؛ فكان حدسي يخبرني أن الأمور لم تصل لنهاية بعد.

وللأسف، أثبتت الأيام أنني كنت محقًا، فما حدث كان البداية فقط.

بداية نهايتنا.

فالطوفان بالتأكيد قد وصل بالفعل...

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top