الفصل الأول

"إذًا ما فهمته من حديثك أنك هنا للإبلاغ عن جريمة قتل..."

رمقني المحقق بنظرة باردة، خالية من أي مشاعر، فعلى الأغلب ما يحدث هو سيناريو تكرر معه عشرات المرات.

لم أعطه جواب في الحال. فقط حاولت أن أهدئ من نبضات قلبي المتسارعة، وأسكت ذلك الصوت الداخلي الذي لا يكف عن أن يحثني على الهرب... الهرب بعيدًا جدًا. ولكن الى أين؟ فأنا أعلم جيدًا أن كل محاولاتي للفرار من القدر الذي ينتظرني - ومن قبضة مخالبه - ستكون كلها دون جدوى.

أخذتُ نفسًا عميقًا ورفعت رأسي ببطء لتتلاقى نظراتي مع نظرات المحقق الثاقبة قبل أن أجيب. "ليس تمامًا. في الحقيقة، أنا هنا للاعتراف بجريمة قتل..."

***

لم أستطع أبدًا فهم ألية تفكير العقل البشري طوال سنوات عمري الثلاثين، خاصةً جزء الذكريات التي طالما شبهتها بأرفف المكتبة التي تحتوي على العديد والعديد من الكتب.

ففي الأرفف السفلية تقبع ذكرياتنا الجميلة التي لا يسعنا إلا معاودة قراءتها مرارًا وتكرارًا، رغبة منك في تكرار تلك المشاعر التي تجعل للحياة طعمًا. ولكن من المؤسف أن الزمن من عاداته إتلاف كل ما هو جميل. فبمرور الأعوام، نجد أن بعض أوراق تلك الكتب قد مُزقت تمامًا، وأخرى بدأت كلماتها تبهت حتى ينتهي بها الأمر أيضًا في طي النسيان.

ولكن الشيء الأغرب أن الكتب التي نضعها بمحض إرادتنا في الأرفف العلوية؛ رغبةً منا بطمسها للأبد، وحتى يتمكن منها تراب الزمن وتتلاشى رويدًا رويدًا هي وكل ما تحمله من آلم... لا تختفي أبدًا.

فمن حين لأخر، نجد كتابًا منهم يسقط فوق رؤوسنا، فاتحًا معه تلك الجروح القديمة، لنوقن حينها كم كنا سذجًا حين ظننا أن الزمن بمقدرته محو ما ألم بنا من آذى، محولًا تلك الجروح لمجرد ندبة؛ كتذكير بسيط لما مررنا به، كالجندي الذي يصاب في معركة، وتظل ندوبه شاهدةً على أنه قد نجى. ولكن كلما يحدث ويُعاد فتح واحدٌ من تلك الكتب، نجد دومًا أن الجرح مازال غائرًا... تتدفق منه دماء الذكريات دون أمل في التوقف.

و ها هو جرح جديد يُفتح، بعد مرور أكثر من عشر سنوات على ذلك الجحيم وما خلّفه من دمار...

***

يجب علينا الذهاب نحن الثلاثة لحفلة لم الشمل التي تنظمها مدرستنا الثانوية. لا أصدق أنه قد مرت أكثر من عشر سنوات.

كانت تلك رسالة من (كونُر). لا أدري كيف له أن يكون بهذا القدر من الحماس بعد كل ما حدث في ذلك المكان.

ولكنه دومًا كان أكثرنا صخبًا، فقد كان هو الشخص الذي لا يلبث دومًا على أن يعطى رأيه في كل الأمور حتى وإن كان لا يفقه فيها شيئًا. وقد كان قائد فريق المناظرة أيام الدراسة؛ ولهذا الأمر لم أستغرب أبدًا عندما اختار دراسة المحاماة، فلم أتخيل أي مهنة أخرى قد تليق به.

أنت تمزح، صحيح؟ لا أريد أبدًا العودة الى ذلك المكان مجددًا.

ذلك كان (إيدين) الذي طالما كان صوت العقل بين ثلاثتنا وكان أكثرنا طيبة، ولكن ولسوء الحظ، أعتقد أنني و(كونُر) قد نجحنا بتلويث روحه الى الأبد. ولكنه آبى أن يستسلم حتى بعد كل ما حدث وحاول جاهدًا الحفاظ على ذلك الجزء النقي فيه بكل ما أوتيّ من قوة. ولذلك قرر دراسة علم النفس وقرر أن يعمل كمصلح اجتماعي بإحدى سجون الأحداث؛ في محاولة منه أن يساعد المراهقين المضطربين نفسيًا، وربما أيضًا كتكفير منه عما حدث.

لا تكن مفسدًا للمرح يا (إيدين)؟ دعنا نأخذ رأي (إيرين)، أراهن بأنه سيشاركني الرأي؟

ما رأيك يا د. (إيرين)؟ هل وقتك الثمين الذي تقضي أغلبه في المستشفى - ربما حتى تصبح شيخًا وتموت وحدك - سيسمح لك أن تأتي أخيرًا للبلدة حتى تقابل أصدقائك القدامى وتحظى ببعض المرح في الحفل؟

تجاهلت رسالة (كونُر) الاستفزازية تمامًا، وكتبت لهم رسالة ذات محتوى مختلف.

أتذكرون تلك الكبسولات اللائي قمنا بدفنهم خلف مبنى المدرسة، وتعاهدنا على إخراجهم سويًا بعد مرور عشر سنوات على الأقل؟

لا أدري لما تذكرت ذلك الأمر الآن بالذات، فقد غاب عن بالي لسنوات عدة. ثم أنني لم أكن متأكدًا من استعدادي الكامل لنبش ذكريات الماضي أو حتى العودة مجددًا لمسقط رأسي وذلك المكان الذي كان شاهدًا على كل شيء. فيا ترى ما الذي دفعني لفتح ذلك الموضوع إذًا؟

يا إلهي، لقد نسيت أمرهم تمامًا. كان (إيدين) أول من رد على رسالتي.

وأنا أيضًا. إذًا فقد حسم الأمر، سيذهب ثلاثتنا للحفل، وسنقوم بإخراج تلك الكبسولات ونرى ما وضعنا بداخلهم. لم أعتقد أن بإمكاني أن أتحمس أكثر للحفل، ولكني الآن لا أطيق الانتظار. أراكم في ذلك اليوم يا رفاق.

لم يستطع أحدٌ منا أن يتعارض مع (كونُر) أكثر من ذلك، فحث الفضول قد تغلب تمامًا على رهبتنا من الماضي...

***


جاء اليوم الموعود، وتقابل ثلاثتنا خلف مبنى المدرسة وتحديدًا في المكان الذي دفنا فيه كبسولات الماضي، فقد كان تحت شجرة بلوط كبيرة تميزت بها المدرسة.

"أليس علينا على الأقل إلقاء التحية على زملائنا القدامى؟" قالها (إيدين) الذي بدا وجهه شاحبًا قليلًا على غير العادة، مما جعل عيناه الزرقاوان يبرزان أكثر.

"أراهن أنهم يتكلمون في تفاهات ليس إلا. فأغلبهم قد أنشأوا عائلات بالفعل وأحضروا أطفالهم معهم، وأنت تعلم كم أكره الأطفال." رد عليه (كونُر) الذي كانت عينيه الداكنتين تلمعان من شدة الحماس.

رده جعلني أضحك قليلًا. "لماذا إذًا كنت متشوقًا لحضور هذا الحفل السخيف حتى قبل أن أذكركم بالكبسولات؟"

أمتعض (كونُر) ونظر لي بطرف عينه. "كفاك تحاذقًا، (إيرين). فقط دعنا نقوم بذلك الأمر." وبالفعل أمسك بالمجرفة التي أحضرناها معنا، وبدأ بالحفر.

لم يأخذ الأمر وقتًا طويلًا حتى اصطدمت المجرفة بشيء معدني، وعلى الفور قمتُ أنا و(إيدين) بمساعدته في إخراج الكبسولات الثلاثة.

نظر ثلاثتنا الى بعضنا البعض دون أن نلفظ بكلمة لبعض الوقت.

وكان (إيدين) أول من تكلم. "أيذكر أحدكم ما وضعه في كبسولته؟"

هز (كونُر) رأسه وتنهد قبل أن يقول. "لا أذكر حتى لماذا قمنا بدفن تلك الكبسولات بعد... بعد ما فعلناه ذلك اليوم."

صاح (إيدين) غضبًا. "(كونُر) لقد تعاهدنا ألا يذكر أحد منا ذلك اليوم مجددًا. لقد قمنا بدفن ذلك اليوم مع..." توقف (إيدين) فجأة عن الكلام وابتلع ريقه، فربما شريط ذكرياته قد أخذه في رحلة غير محمودة الى الماضي.

"أنا أتذكر..." قلتُ أنا من دون أن أشيح نظري عن الكبسولات، ولكني شعرتُ بنظراتهم الثاقبة والتي بدت وكأنها خناجر مدببة موجهةٌ نحوي. "كلٌ منا أخرج كل ما كان يكبته من مشاعره على ورقة في ذلك اليوم؛ فعلنا ذلك حتى يتثنى لنا العيش مع أنفسنا بعد ما حدث. ذلك بالإضافة الى بعض الأشياء التي كانت عزيزة علينا في المرحلة الثانوية."

نظر لي (كونُر) بعينين متسعتين. "أتقصد أننا وضعنا أدلة قد تديننا في تلك الكبسولات؟ أحقًا كنا بهذه الحماقة؟"

هززتُ رأسي بالنفي. "لا، كان شرطنا الوحيد هو ألا نذكر أي من تفاصيل ما حدث. ثم لا تنسى أننا كنا مجرد أطفال. أطفال في محاولة للتعايش مع بشاعة ما اقترفت أيديهم."

"لا أدري عنكم، ولكن لا أريد أي شيء قد يذكرني بذلك اليوم الملعون." قالها (إيدين) الذي همّ بالنهوض.

"انتظر قليلًا، أعتقد أنه علينا تفقد محتويات الكبسولات، فلو كان هناك أي شيء يمكن أن يكون دليل ضدنا، فلا يمكننا المغامرة وتركه مدفونًا تحت الثرى وحسب، بل علينا حرقه والتخلص من للأبد." قال (كونُر) بعصبية، ممسكًا بكبسولته، وقد بدأت شخصية المحامي بداخلة بالظهور.

"أنا أتفق مع (كونُر)." قلتُ ومددتُ يدي لأمسك بالكبسولة التي كانت تعود لي.

افترش (إيدين) الأرض مجددًا على مضد، وأمسك هو أيضًا بكبسولته.

بدأ ثلاثتنا بفتح الكبسولات التي بقت دفينة تحت تراب الزمن لأكثر من عقد كامل، ولكن لم يكن هناك شيء في العالم بإمكانه أن يجهزنا للصدمة التي وجدناها في الداخل...

عم السكون أرجاء المكان، فقد علق كل الكلام في حناجرنا، وتجمد الدم في عروقنا، وظللنا نحدق دون حراك لما وجدناه داخل الكبسولات.

(كونُر) كان أول من كسر السكون، ولكنه لم يكتفِ بذلك وحسب فقد انقض عليّ بحركة مباغتة وفاجئني بلكمة للوجه.

"(كونُر) ما الذي تفعله، هل جننت؟" صاح عليه (إيدين) الذي أسرع بالوقوف بيننا؛ ليمنع أي صراع أخر محتمل.

"ألم تفهم بعد، (إيدين). ذلك المتعجرف هو من دبر كل هذا." قالها، موجهًا سبابته نحوي. "إنه من ذكرنا بتلك الكبسولات اللعينة، وهو من أحضرنا الى هنا."

"أحقًا فعلت ذلك، (إيرين)؟" سأل (إيدين) بنبرة حادة.

بصقتُ بعض الدماء التي تجمعت في فمي جراء اللكمة، ووجهت نظري إليهم. "بالتأكيد قد فقدتم عقلكم، لما قد أفعل ذلك؟ تلك الأشياء ستدينني أنا أيضًا، وبالتأكيد لا رغبة لي في قضاء ما تبقى من حياتي داخل السجن." ثم نظرت نحو (كونُر) بغيظ. "أنت أول من بدأ بالحفر، أيها الأحمق. ورأيت بنفسك أن مكان الكبسولات كانت تغطيه العديد من النباتات التي تأخذ سنينًا لتنمو، كيف لي بتدبير ذلك وقد عدتُ لهذه اليلدة اللعينة فقط من أجل هذا التجمع الغبي." قلت وأنا أستشيط غضبًا، فهم يعلمون تمامًا أنني اخترت دراسة الطب في ولاية أخرى بعيدة؛ حتى يتثنى لي الابتعاد عن هذا المكان قدر الإمكان.

(إيدين) اكتفى بأنه نظر لي بتفهم، أما (كونُر) فقد ركل الأرض بعصبية قبل أن يأخذ بِضعة أنفاس عميقة متتالية، كمحاولة منه للتهدئة من روعه.

"إذًا علينا أن نرى كل ما بداخل تلك الكبسولات اللعينة حتى نعرف ما نحن بصدى مواجهته بالضبط." اقترح (كونُر) أخيرًا.

اتفقتُ أنا و(إيدين) معه، وقررنا أن نأخذ الكبسولات ونذهب كلنا لبيت (كونُر) فلم يكن بإمكاننا فعل ذلك في العراء، والمخاطرة بأن يرانا أحدهم. فالأمر لم يكن يحتمل أي كوارث أخرى...

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top