~الفصْلُ الثَّالث: إتِّهامْ~
لطالمَا أردْتُ الدِّفاعَ عنْ الرِّجال، فهُمْ في نظري يتحمَّلونَ ما لا طاقةَ لهُمْ به منذُ الطفولَة
الأمُّ التي يُزاحُ ثقلٌ عنْ كاهِليْها ما إنْ تَلِد ذكرًا، و بذلِكَ تكونُ مهمَّةُ الرجل الحياتيَّة الأولى قدْ تمَّتْ بنجاحْ...إنقاذُ أمِّهِ منْ غضبِ أبيه
الأبُ الذي يضْرِبُ طفلَهُ ما إنْ تعْبَس الشفتان و توشكُ الدُّموعُ على التجمُّعِ بالمحْجريْنِ و قبلَ سيلانها على الخدَّين
و الوالدانِ كلاهُما اللذانِ يُدْرجانِ مادَّةً أُخْرى في برنامجِ الطفلِ الدراسي...ألا و هيَ 'الرجولَة'
لطالما آمنْتُ بأنَّ جميعَ الأطْرافِ مذْنَبونَ و لهمْ دخْلٌ في هذا العُنْفِ الكبيرِ ضدَّ المرأة...أنا أصلًا لمْ أؤمِنْ بهذا المفهومِ يوْمًا
لكنَّني حاليًّا، أرى أنَّ الرجالَ فقطْ همْ المذنبون...مجرَّدُ شياطين على هيأةِ بشر
~
في تلْكَ اللحظَةِ التي ماتَتْ فيهَا أُخْتي، و معَ سقوطِ أبي على ركبتيْهِ انكسارًا و قهْرًا مزيَّفيْن، قمتُ بتعْزيَةِ نفْسي داخليًّا...و رفضتُ التعزيَة
فأنا على يقينٍ من أنَّهُ و بعْدَ سويْعاتٍ قليلةٍ سيتمُّ الإعْلانُ عن وفاةِ رسيلْ...مُنْتحرةً لا مقتولةً، لأسباب مجهولةٍ معلومةٍ، و أُراهنُ على أنَّ جميع المجْرمينَ هنا سيتظاهرونَ بالحزنِ و الصدمةِ أمامَ نسائهمْ
بكلِّ جرءةٍ سيقفونَ أمَامي خافضينَ رؤوسَهُمْ توتُّرًا و ارتباكًا لا حزنًا عليَّ، قصْدَ مواساتي بكلماتهمْ المسمومَة المزيَّفة
جميعُنا سنكونُ أبطالَ المشهدِ التمثيلي الذي لن تلتقطه عدساتُ آلات التصوير، للأسف
في لحظاتٍ كهذهِ أحسِدُ الجاهلَ على جهْلِه، و المعتوهَ على عجْزهِ
آملُ أن يضرِبَني الجنونُ مرَّةً بقسْوةٍ كي أُعاقَب، و أنْ يضْرِبني مرَّةً أُخرى مواليةً للأولى كيْ أُعاقَب على رغْبَتي الملحَّة في الحصولِ على عقاب...بينما همْ المذنبونَ هنا
~
تمرُّ الأيَّامُ و تمرُّ الأشْهُر و قلمي يبكي حبرًا بدلًا عنِّي، أكتبُ عبثًا و أنا على علمٍ بأنَّني أمرُّ بمرحلةٍ عظمى من الكبْت، كما أعلَمُ أنَّني قدْ أسيرُ و أنا نائمَة لشدَّةِ ما أخزنهُ بداخِلي...و أتمنَّى أن تأخُذني دارينْ النائِمَة إلى مكانٍ آخرَ أفضَلَ من هذا
لكنَّني غيَّرْتُ رأيِي هذا اليوْم، عنْدَما نادانِي أبي أنا و ترانيمْ...و أعلنَ عنْ زواجنا القريب
زواجي أنا من ابنِ أخيه إيادْ و زواجُ ترانيمْ من ابن أخيه الآخر آمن...أخواهُ لا عمَّاي
انظروا مليًّا إلى كلِمَةِ 'أعلنَ' ، فهوَ لمْ يسألْ و لمْ يستشِرْ أحدًا في الموضوع...فقطْ قالهُ ببساطَةٍ قبل أن يتناولَ جهازَ التحكُّمِ في التلفاز مجدَّدًا و يستأْنِف التظاهُر بالتنقُّلِ بينَ القنواتِ لأنَّني ظللتُ واقفةً أمامهُ دونَ أنْ يرفَّ لي جفنٌ، مكتوفة اليديْنِ و حاجبي الأيمن مرفوعٌ إلى الأعْلى قصدَ استفزازِه
ابنةُ المجرمِ وقحة و هكذا يمكنُ أن نقولَ أنَّ الحياةَ شبهُ عادِلَة
«لماذا؟»
نبسْتُ بها بهدوءٍ تامٍّ، لكنْ بصوتٍ قابلٍ للسَّمع و قادرٍ على الإغْضاب
«لأنَّهُ قرارٌ اتَّخذهُ والدُكِ»
أجابني هوَ بقولهِ اللَّامنْطقي ذاك، منيرًا لي بذلِكَ الزرَّ الأخْضرَ لأبدأ بالنِّقاشِ الذِّي أعلمُ جيِّدًا أنَّ الحِزامَ الذي يلفُّ خصرهُ الآنَ هوَ ما سيُنْهيه
«هذا الكلامُ ينطبقُ على الشريعَة و العقيدة، نفعلُ ما أمرنا به اللَّهُ و رسولُه لأنَّهُما الآمرانِ و نحنُ المستجيبونَ، و لكن في وضعنا الحالي مع بقية سنوات حياتي على المحك و بيدِ شخصٍ لا أرغبُ في أن أقاسمهُ إيَّاها، أظنُّ أنَّني أحتاجُ توضيحًا مقنعًا لما قيلَ لي توًّا»
ينهظُ عن مقعدهِ فأتراجعُ لا شعوريًّا إلى الخلفِ
'اصعدي إلى الأعلى قبلَ أنْ يحدثَ ما لا تحمدُ عقباه'
أراهنُ أنَّهُ سيقولُ هذا ، و قدْ فعل، و نفَّذتُ أنا بغيظٍ
أقرعُ الأرضَ أسفلي بأقْصى قواي، فهذا كلُّ ما يمكنُني فعلهُ وسطَ زوبعةِ الظلامِ الذي أغرقُ بداخلِها
~~~
أنا عاجزَةٌ و خاسِرَة، أبدِّدُ الوقْتَ بلا فائِدَة، لا يُمْكِنُني حبْسُ أنفاسي و لا يمكنُني التقاطُها في آنٍ واحدٍ
كلُّ شيءٍ يثقِلُ صدْري، كلامُ النَّاس و الهواء و الطعام...أي و باختصارٍ كلُّ ما يجعلُ من البشرِ بشرًا
أنفصلُ عنْ الوجودِ و تنفصلُ خلايا جسَدي عن بعضِها البعض فأضحى مجرَّدَ أشلاءٍ مرهفةِ الإحْساس، عبقريَّةً
و في خضمِ معاركي الذاتيَّة التي تجبرُني على الارتِجافِ و صنعِ تعابير بوجهي قدْ تبْدوا لمَنْ يراها مضحكَة
بغتةً تلوحُ في ذهْني فكرَة... فكرةٌ شيطانيَّة
خبيثةٌ جدًّا
الهربُ من هنا
~~~
أنزلُ الدرجَ رافعةً حقيبَتي فوقَ رأْسي كي لا أحدثَ صوتًا، لا أشعرُ بالخوْفِ أو بالندَم بل بالنشوة
أعلمُ أنَّ العالمَ الخارجيَّ ليسَ سوى نسخةً لسجنٍ آخر مسمَّى بالمنزل، و لكنْ لو كانتْ ميزتهُ الوحيدَة هيَ مساحتهُ الشاسعَة فسأستمتعُ بها لأعلى درجة يمكنُ لعقلي بلوغُها
اللَّيلُ حالكٌ و الأضواء مطْفأة و الأبواب موصدَة و كمْ أعشقُ هذا...حقيقة أنَّهُمْ نيامٌ هي بلسمٌ شافي لعقلي
أسيرُ الهويْنا نحْوَ البابِ لا تردُّدًا، بل لأنظرَ إلى كلِّ ركْنٍ فيهِ و أسترْجِع أسوأ ذكرى وقعتْ في كلِّ زاوِيَةٍ...و بهذا أضمنُ لنفْسي عدمَ العوْدَة
«ستهْرُبينَ لاستِكْمالِ مسيرَةِ أُخْتِك...صحيح؟»
صوتُ أبي طعننِي من الخلْف، فهل ألوذ بالفرار أم أبقى و أذوق أشدَّ العذاب؟
______________________________________
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top