P23
مبعثر 23
.
.
.
مُلتزم الصمت يُحدق في ركن غرفته التي لازمها لعِدة أيام ، لم يُجبره والده حتى الآن على مُغادرتها و رغم أنَّها أصبحت سِجنًا له الّا أنَّهُ لم يُمانع إذ أنَّ سديم كان يتسلل كل يوم لأجله كي يراه .. هو يمُر بحالة اكتئاب شديدة و هذا وحدَهُ منعَه عن منعِ سديم مِن المجيئ خَشيةٍ عليه مِن الامساكِ به!
استلقى على سريرهِ دون رغبة لفِعل شئ و هذا وحدَهُ كان كفيلٌ بجعلهِ يُغمض عينُه بتعبٍ و إرهاق ، يسمح لتِلك الأفكار السوداوية بأن تنبثِق و تتكاثر كما تتكاثر الخلايا ، و لكن هذه لم تكن سوى خلايا سرطانية تنبعث على هيئة ذِكرياتٍ و أفكارٍ مُميتة لصاحبها! .. و لقد كان يُعاني بالفِعل مِن أفكارِه! لذا و بكُل استياء رمى ظهرَهُ للخلف يُحدق في مظهر السقف بينما تَتتَابع تِلك الأفكار المُهلكة و التي لم تكُن سوى نِيَّتِه بأن ينتهي مِن حياته ككُل .. لكنه ليس بضعيفٍ ليفعل! .. قَطعًا الانتحار لم يُخلق سوى للضُعفاء! .. فكيف به هو مَن مرَّ بتجارُبٍ عِدة أسوأ ، أن يُفكر بالانتحار؟!
طرقات خفيضة على زُجاج نافذته جعلته يلتفِت برأسهِ نحو المعني ليتنهد بضيق قبل أن ينهض سائرًا نحو النافذة في خُطواتٍ كئيبة ، هو وقف للحظات قليلة ينظر فيها لرفيقِهِ ثم هَمَّ يفتح له النافذة ، و ما إن فعل حتى شهق الأصغر بتفاجؤ عندما قفز سديم فوقَهُ ليسقطا أرضًا!
هو تأوه بألم يُحاول الإعتدال قبل أن يَدفَعُ صاحبه عنهُ بغيظِ ، و الذي ما إن إرتمى أرضًا حتى أطلق ضِحكته المكتومة مما جعل الأخر يعبس و هو يرمقه بنظراتٍ غاضبة!
اعتدل أحدهُما و نهض ، فتبعه الأخر يُوقف ضَحِكته اللطيفة قائلًا باستنكارٍ حينما تركه و سار مُبتعدًا:
" لما أنتَ غاضب أيُّها المزعج؟ .. ألم تُحب رؤيتي؟! "
أوقف خُطواته الغاضبة للسرير و استدار بعُنف مع توَقُف صاحبِه العابس بدورِه ، ليجيب بتذمر:
" ليس بتِلك الطريقة!.. ألا تخشى أن يُمسك بكَ أحد؟!"
نفى بهز رأسِه للجانبين ثم ابتسم بخفة يقترب مِن ساجد ليُمسك بيده فقط رادفًا:
" حتى لو حدث ، فسأكون سعيدًا ما دامَ لأجلك."
و إجابته لم تُزِد الأمر الا سوءً! .. و هذا ليس ما أرادَهُ ساجد ، أن يُزهَق روحٌ أخرى بسببهِ و خاصةً لو كانت لشخصٍ أصبح جُزء لا يتجزأ مِن عالمِه!
هو جلس على طرفِ السرير يُحدق في الأرض بعُبوس و رفض للرد عليه ، بينما تحرَّك صاحبه ليُجاوره هاتفًا لمُراضاتِه و كأنَّه يُحدِّث أخيه الصغير ذو السبعِ سنوات:
" ماذا أفعل إذًا لتشعُر بتحسُّن؟ .. ساجد حقًا أعتذر!"
هنا انفجر بعصبية في وجهِه:
" سديم لما لا تفهم وحسب أنني خائف عليك؟!"
ظل سديم صامتًا يتركُه لينفجر بما في قلبِه و هذا ما حدث حين نهض بانفعالٍ يطرُق الغُرفة بخطواتِه الغاضبة، كعصفورٍ غاضب لأنَّ صاحبَهُ سجنه و لم يرغب بإطلاقِه لأجل إطعام إخوتِه:
" لما تتسلل إلى هنا كل يوم؟! .. لما تفعل ذلك مُنذ ذلك اليوم؟! .. أعرِف أنًّك رأيتَ ما حدث .. لا أعرف كيف؟! . و لا أعلم كيف وجدتني! .. أو مِن الممكن بسبب ذلك القلم لكني لا أريد! .. لما لا تفهم أنني لا أُريد! .."
تهدج صوتِه و ارتعش يُواجهه بعيونٍ حمراء رادفًا بكسرة و إنهيار:
" أنا خائف سديم! لما لا تفهم خوفي هذا و ترحل؟! .. لما تعود إليّ!؟ .. لما لا تزال ترغَب بتكملة صداقتك مع فتى مِثلي؟! .. فتى كل ما رآه في هذه الحياه هو فُتات مِن الذكريات المريرة؟! .. و عِندما يشعر بأجنحتِه تكاد تنمو ليُرفرف بها للسعادة، تصدمني بشاعة الحياه بصدمة عنيفة تُعيدني للواقع المُخيف! .. أجد فجأة حُريتي مسلوبة، أكتشِف أنني لم أُكوِّن الَّا صداقات فاشلة .. ثم أُصدم بأنَّ عائلتي ليسَت عائلتي، و أنَّ أبي الحقيقي كان السبب بموت أمي! و أنني ابنًا لمُجرم خطير! ..."
سكَت يبتلِع خصتِه، يشعر أنَّ زوبعة رمادية مُخيفة تُحيط بهِ و تبتلعُه في جوفها ببطء باعثة داخله شرارات لاذعة تفتِك به!
أعاد رُباطة جأشِه ينظر نحو رفيقَهُ الصامت لينطق بنبرةٍ حاول جعلها قوية:
" عُد سديم ، لا تأتي مُجددًا .. أرجوك! "
_" انتهيت؟ .."
استرخى يبتسم بسُخرية ثم ابتسم بلُطف:
" إن فعلت، فتعال لأنني أحتاج للتحدُث معك."
عبس ساجد ، لكنَّهُ لم يستطع أن يرفُض بينما يستوي بقُربه على طرف السرير لينتفض فجأة على عِناق مِن سديم الذي همس جُوار أذنه:
" أخبرني أنتَ يا ساجد ، هل لو كُنتُ أنا مكانَك هل كنتَ ستتركني خوفًا على نفسِك؟ .. ثم أخبرني لما خُلِقت الصداقة؟ .. هل لأن نتخلى عن رفاقِنا في لحظاتِهم العصيبة أم نتمسَّك بأيديهم لننجو سويًا أو لنغرق؟ .. "
مسح على خُصلاتِه ببطء جعلت عيني ساجد تتبلل بالدموع مع سماعِه لصوتِه مجددًا يهمس بنبرةٍ حانية:
" لن أتخلى عنك ساجد .. لم أجِدك لأتخلى عنك في أول مُشكلة تواجهنا .. لذا انسى الأمر، فمغناطيسي سيظل مُلتصِق بِك."
و رغم مشاعره الفائضة ، ابتسم بلُطف يُبادل عِناق رفيقه ، مُمتن و بشدة لأجل كلماتِه، و شعورًا ما حُلوً بدأ ينبُت داخلُه.
ابتعد سديم فجأة بمرح ساخرًا:
" أوه تبًا! بدوت كمُسنَّة الآن تقوم بإلقاء تهويدة للنوم لإبنها الذي عاد حزينًا لكسر قلبِه مِن فَتاتِه الحمقاء."
ربت على خُصلاتِه كأمٍ تُهدئ ابنها بينما يُكمل بشغب:
" لا تنظر لي كوالدة يا صبي! .. أنا هنا لتهدأتك فحسب .. لتَعُد جمائلي كلها لأني سأستغلُها ضدُك!"
رمش ساجد قبل أن يميل رأسه بضِحكة مِن قلبهِ جعلت سديم يكاد ينهض ليصرخ بمرح لكنه أسرع بإمساكِه بينما تنطلِق قهقهاته بعذوبة رادفًا:
" لو فعلتها سأستعير مُسدس أرسلان و أقتلَك. "
شاركَهُ ضحكاتِه بخفة حتى هدئا لينطِق ساجد بجدية فجأة:
" الآن أخبرني كيف عرفت بما حدث، و كيف تأتي من بين الحُراس؟ "
ابتسم يهُز كتفيه بحركة عفوية:
" لا شئ تحديدًا .. أنا أستطيع التهكير و اللعِب في الحواسيب و كل ما يتعلق بالإلكترونيات و بسبب ذلك استطعت تحديد موقعك مِن القلم أولًا و السير خلفكم بعدما درستَ كل شئ عن والدك ، أي كم عدد حُرَّاسه و متى يتغير مواقعهم و غيره مما لن تفهمه .. طبعًا بذلك المكان كنت هناك أراقب و في نفس الوقت لستُ هناك .. أعني، لقد هكرتُ كاميرات ذلك المبنى و استطعت رؤية ما يحدث ثم هرولت بسرعة أستغل توقيت التغيير بين الحُراس لأتسلَق الشجرة بجوار غُرفتك، لآتي و أجدك بتلك الحالة .."
سكت يُراقب اندهاش صديقه ثم ابتسم بخفة:
" ألم تنتبه على مواعيدي؟ .. إنَّها تقريبًا نفس الوقت .. كما أنَّ والدك يعرِف ، فهو مَن شَجعني على ذلك كما و أعطاني هذا ..."
مادًا إياه بظرفٍ جعل عيناه تُحدق في تلك الكريستالات المُتوهجة! .. و صاحبها شجعَهُ بنظراتهِ على أخذِه للرسالة ففعل ، يبتسم بشوق حين لمح اسم والده عليها ، و سُرعان ما فتحها ليقرأها ، و اتسعت ابتسامته تدريجيًا مع كل حرفٍ عيناه احتضنته فوق تِلك السطور!
حين انتهى هو شعر و كأنَّ جبال العالم توشِك على التلاشي مِن فوق كاهليه! .. و هذا ما جعله يبتسم بنوعٍ مِن الصدقِ و هو يتجه نحو صاحبه الذي ابتسم له بود و كاد يتكلم لولا أن جفل كِلاهما و بالكاد ثبَتا و الباب يُفتح ، و بطريقةٍ ما وجد ساجد نفسُه يدفع بجسد صاحبه أسفل السرير مع الرسالة ثم اعتداله بذعر و هو يتواجه مع جسد والده الذي حدق به ببرود ثم نظر حوله بريبة ، و بالكاد عاد ليجلس ساجد مُبعدًا نظراته عنه مع تمنيه أن لا يكون والده رأى شيئًا أو يكتشف وجود سديم هنا و الا لن يحدُث خيرًا أبدًا!
ترك الباب بعدما أغلقَهُ وراءَه و اقترب ليُجاوره بالجلوس مُبعثرًا بأناملهِ خُصلاته السوداء لكن الأصغر لم يستجب له ، ذلك الحنان الذي يُرسله له بحركاتهِ تِلك لم يعُد يُجدي نفعًا معه فهو لم و لن يقبل أن يعيش مع والدٍ كهذا! .. صحيح هو والده و تفكيره بما يُريده تجاهِه خاطئ لأنَّهُ في المقام الأول يبقى أبيه لكن ما رآه منه و لو كان بسيطًا يجعله يرتجف أن يبقى بقُربه! .. بل يجعلَهُ يفعل ما بوسعِه لأجل الاختفاء مِن أمامِه!
انتفض بتوتر عندما قرصَهُ ذلك المُزعج فحرَّك قدمه بحركة هُجومية و ابتسم حين علِم أنَّ سديم تألم مِن ركلتِه القصيرة لكنَّهُ أبعد يده مُحتملًا للألم ، و هو عاد ليُنصت لصوتِ والده الذي نطق:
" هل أنتَ مُتضايق مِما حدث؟! .. تعلَم جيدًا أنَّهم كانوا يُخططون لك بأشياءٍ سخيفة يُريدون بها الانتقام منك."
اغمض عينيه دون الاهتمام لكلامه بينما يُبعد رأسه عنه بضيق يرُد و قد نفذ صبره:
" و لو كانوا اختاروا قتلي فأنا مُقتنع بالفكرة .. كما و هذا ليس سببًا بجعل ذلك القاتل يقتلهُم أمامي! .. قَطعًا لا أحد يجرؤ على فعلها و قتل انسان! .. ليس الأمر سوى إجرام! "
هو أنهى عبارته يُحدق في والده بأعينٍ مُشتعلة جعلت الأكبر يقطِب حاجبيه بضيقٍ و الأصغر راح يُردف ببرود و قد وقف يبتعد عنه دون ترك تِلك النظرة المُواجهة لحدقتيّ الأكبر التي جعلته يُدرك أنَّ الفتى أمامه لن يتغير أو يقبل به بينما يكاد سديم يصفع خديه مِن عصبية و غباء صاحبه:
" لنتواجه أبي .. كلانا لسنا في نفس الطريق .. و كِلانا يُدرك الأمر! .. فقط لتتركني أعُد أو أذهب للجحيم فقط إن كنتَ تُحبني ستفعل و تُلبي رغبتي! "
و المعني حدق به ببرود قبل أن يستقيم يقترب مِن الفتى خُطوتين ردًا على حديثِه:
" و ماذا تُريد أنت؟ .. أتُريد العودة لتِلك القُمامة المُسمية بالعائلة؟ أم لإكمال حُلمك كطفل أحمق فقط؟ .. "
هو سكت ينظر لملامح ابنه التي انقلبت باعتراض و غضب مع كلماته و أردف بسخرية:
" يا فتى .. الأحلام في واقعنا هذا لا تتحقق بهذه الطُرق السِلمية ، في الواقِع دائمًا ستجد أحلامَك تتحطم بكل يُسر أمامَك لذا، الطريقة المِثالية أن تُحققها بأبشع توقُع .. و أنتَ لن تعلم مِقدار أن تمتلِك كل شئ ما دُمت مُعدم التفكير هكذا! .. إنَّك مِثل والدتك ، و ماذا نالت؟ .. لقد نالت الموت و التي قد اختارته بعدما رفضَت أن أُجري لها تِلك العملية لأني وببساطة لم أكن أصلُح لزوج و لأني مُجرد مجرم حقير و وضيع يمتلِكُ أموال غير شرعية! و مُحرَّمة! "
هو ازداد غضبًا من الماكث أمامه ، و الذي أردف بضِحكة خافتة مريضة:
" لم تتخيل ضِحكتي التي لازمت رؤيتي لها و هي ميتة! .. و ربما ذلك لتَذَكُري أنَّها مجرد إمرأة غبية ، لقد تزوجت بي و أغلقت على نفسها و عاندت أُسرتها لأجلي! .. في البِداية لقد ظننتها بسبب أموالي لكنها كانت غبية لتسير خلف حُبٍ أبله يُعمي بصيرتها! .. بل المُضحِك في الأمر أنَّها قد خانتني بعدها و حاوَلَت جمع الأدلة للإيقاع بي! .. لكنَّها باتت مكشوفة ، و رغم عِقابي لها و حِرماني لها الدائم مِنك كانت عنيدة و هربت لتموت بعيدًا عن حياتها و هذا القصر .. و أوتعلَم ماذا؟ .. لقد أرسلتُ قناصًا ليفعل، كنتُ غاضبًا للدرجة التي جعلتني لا أُفكر بك! .. جعلتني غاضبَا للدرجة التي رفضت بها رؤيتها ميتة في نفس اللحظة، و حينما هدأت نوبة غضبي ذهبتُ لها، كانت قد ماتت و أنتَ اختفيت! "
ازدادت ضحِكاته تَرُج جُدران الغُرفة و تُزيد مِن غضب الأصغر الذي بالكاد لم ينفجِر بوجّهِ هذا المسخ! .. و هو مَن كان يُريد مُسامحته؟! .. لقد كان يتكلم عن والدته بكل هذا السخف!!! يعترِف بجريمتِه في حقها؟!! .. دون ذرة ندم واحدة!!!
تنهيدة مُريحة أطلقها و هو يُدفن كفيه بجيبيّ بِنطاله و تحرَّك نحو ابنه الذي ابتعد عنه خُطوة بحذر و ملامحه الغاضبة عبَّرت عن كم هو يحقِد عليه الآن و يكرَهُه! .. و ذلك لم يجعله سوى أن يجذبه مِن قميصه بحركة عنيفة و يُمسِكُه مِن رقبتِه بقسوة لتتلاحم نظراته المشحونة مع خاصِة الفتى المَذعور ، و الأخر يُكمل كلماته بعُنفٍ و انفعال:
" يومها ذلك الطبيب الذي تُفضلُه عليّ كذَب! .. كذَب و قال أنَّك لم تكُن معها ثم أخذك ليُربيك ،و أنتَ أحببتَه أكثر مني أنا! .. لا يُدرك حجم الجحيم الذي سينالَهُ إن قرر أخذك مُجددًا .. أقسم لأقتلَهُ أمامك هو و عائلتِه ثم أقتلَك! .. سمعتني؟!! .. إن فكرت أن تسير أنتَ كذلك نحو ذلك الطريق الذي اتبعتهُ روزان فسوف أنسِفُك و عالمُك و كل مَن كنتَ تهتَم بأمرَهُم مِن على وجه هذه الأرض! "
أنهى كلماتِه يدفَعَهُ بقوة ، فارتد جسده نحو الأرض مرميًا بعُنف ليتركه يُغادر الغرفة صافقًا الباب خلفَهُ بعُنف حتى كاد ينكسِر! .
جسدَهُ كان يرتجف بنوبة بُكاء، يعُض على شفتيه باللحظة التي لمَح فيها جسد رفيقه يخرُج مِن أسفلِ السرير قبل أن يُغمِض عيناهُ بيأسٍ و ألم بينما تقدم سديم منه ليُساعده على النهوض بينما يربت على ظهره مُخاطبًا إياه بقلقٍ و حُزن:
" لا بأس، لا تتضايق .. كل شئ سيكون .."
" لن يبقى أي شئ بخير يا سديم، لا شئ! "
قاطعه بيأس و تعب بينما يجلس فوق السرير يُحدق في الأرض بضيق و خوف شديد ، قد يفعلها إن هو تمرد! .. لذا هو حقًا نادم لمُواجهتهِ قبل دقائق! .. كان عليه أن يسير ضِمن الخطة فقط و لكنَّهُ كالأبله فعل ذلك ظنًا أنَّ مَن أمامه يمتلك قلبًا ، لكنّه قَطعًا لم يمتلِكُ واحدًا سابقًا كي يمتلك و لو جُزءًا مِنهُ الآن!
تنهد باستياء ماسحًا عينيه ثم نظر لرفيقه الذي يُجاوره متمسكًا به بقلق ، ليبتسم ساجد مربتًا على خصلاته قائلًا بشئٍ مِن الشُحوب:
" إذهب الآن ، سأحاول تغيير الوضع و لو قليلًا ، لكن لا تعُود مُجددًا إلى هنا حتى لا يُمسِك بك أحد و يُقدِّر لي خسارتك ، فلست أنوي خسارتك يا أخي. "
هو أومأ بالايجاب، لعل الأمر فقط يصلح، لكنه قطعًا لا ينوي تركه هنا و حالته بشكلٍ أو بِـ أخر ستنهار بهذا المُعدل! .. لذا و قبل أن يرحل هو أخرج مِن جيبهِ عُلبة الدواء التي أعطاها له مروان قبل مجيئه إلى هنا قائلًا:
" حسنًا سأفعل ، لكن خُذ هذه ، انَّهُ دوائك أرسلَهُ لكَ العم مروان لأجل حالتك. "
هو ابتسم يأخُذها منه بينما نهض ليبتسِم له بقلق ثم التفت ليرحَل لكنَّهُ يتوقف حين أمسَك ساجد بمعصمه فجأة و ما كاد يلتفِت حتى ارتد للخلف خطوةٍ بتفاجؤ للحظاتٍ قليلة قبل أن يستقِر جسدُه و يبتسم مُبادلًا صاحبُه العِناق مُجددًا كاتمًا دموعِه لبقاءِه في هذا السجن وحيدًا درن رِفقة بعد مُغادرتِه ، و رُبما هذا العِناق كانا الاثنان أكثر ما يرغبانِه بهذه الفترة العصيبة!
.
.
.
لا أحد يمُر بأمرٍ خاسر الا و قد اشتد عزمَهُ ألا يخسرُ فيه مرةً أخرى!
هنا كان مايكل يجلِس خلف مكتبِه في شركته و يشرُد في الماضي بكل مشاعره. مَن قال أن الزمن يُنسِي؟!
فلازال يتذكر كل تِلك المشاعر التي لازمته عندما ماتت زوجته حُور! .. هو بالأصل ازداد فقط كُرهًا لمُسببها!
مُسببها الذي يعرفَهُ جيدًا، الشخص الذي حاول العديد مِن المرات انقاذِه لينتهي به مُلوثًا في وحلِ الشر!
و لأنَّهُ ربما كان لا يُدرك ما حوله بسبب الشرود فهو عاد ليتذكر ذلك اليوم و كأنَّه يُعاد في ذاكرتِه كأنَّهُ حدث بالأمس ، بكل تفاصيله!
.
.
.
قبل عِدة سنوات ....
حينما كان سديم طفلًا بالسابعة ، منزل مايكل كان هادئًا بحياةٍ لطيفة تمامًا .. رغم ذلك و رغم مرور ثماني سنوات على موت أكبر أبناءِه بسبب تعاطيه لجُرعات مِن المُخدرات بسبب جهلِه و ثِقتِه العمياء بذلك الشخص ، و لأن سديم جاء بعدَه بعدة سنوات بشئ مِن الصعوبة لذا كان لسديم كل الحُب فوجوده المُلازم لهما بعد موت ماثيو ابنهم الأكبر ، كان يُنسيهم الحزن و المأساة التي عاشوها و لو للحظاتٍ قليلة!
ذلك الصغير المُشاغب كان يركُض بممراتِ تلك الشركة عابثًا هنا و هناك حتى جُذِب مِن ياقة عُنقه مِن الخلفِ و صوت إمرأة تهتف به باستياء:
" أيها المُزعج! ألا تجلس في مكان دون تكسيرَك للأشياء؟! .."
و الصغير عبس يُكتف ذراعيه إلى صدرهِ بتهكم يُرسِل لها نظرات غاضبة طفولية بينما تُكمل والدته بعبوس أشد مِنه و هي تُشير نحو إيثان الجالس بجِوار شقيقته دون حركة:
" أُنظر! حتى إيثان العابِث لا يفعل مِثلك يا سديم! "
و إيثان غرَّ فاهِه بصدمة غير مُستوعبًا أنَّها نعتتهُ بالعابِث لتَوِّها!! .. لينظُر لڤيينا بعبوسٍ حين وجدها تضحك بخفة ، فراح يُحدق في والدته التي جذبت المشاكس خلفها نحو مكتب والده ، لينظرا الشبيهان لبعضهما للحظات قبل أن تنطلِق قهقهة لطيفة تشاركنَها سويًا على تِلك المواقف العابثة بين شقيقهم الأصغر و والدتهما! .. و كِلاهُما صمتا حين تذكر ايثان أنَّهُ ربما هذا يُشبه كثيرًا أخاه الأكبر الذي لم يرَهُ سديم للأسف .. فلازال يذكره رغم أنه كان صغيرًا وقتها! .. بينما ڤيينا ما كانت تذكُر شيئًا عن أخاها فبالكاد كانت بعمر السنتين تقريبًا! .. رغم ذلك كِلاهما كانا يعلمان أنَّ سديم هو المفضل لأنه يشبه ماثيو.
هي اقتحمت المكتب بضيقٍ لتَحّمرُّ خجلًا من رؤيتها لزوجها في اجتماعٍ مُهم ، فهدأت سريعًا و إعتذرت بلباقة و يدها تجذِب الصغير الذي يُحاول المُراوغة دون جدوى! .. و حين كادت تُغادر مع تنهيدة زوجها اليائسة جفلت تتصنم مكانها و سديم يُخرج لسانه لمَن بالاجتماعِ و يسخر منهم ، لذا سُرعان ما حملته تُغلق فاهه و هو تحدق به بعبوس فيبادلها بابتسامة لطيفة بريئة بينما تخرج من ذلك المكتب مُتجاهلة تلك الضحِكات بالخلف!
" هذا عيب! لا تُكرر فِعلتك أيُّها المُشاغب! "
هي صرخت تُوبخه بينما يجلِس بجانب أخويه! .. و حين تعِبَت مِن شئ لن يُجدي نفعًا لهذا الفتى التفتت تتنفس بهدوء دون أن تنتبِه لحركاته الساخرة منها و هو يُقلدها ببراعة!
لكنه تلقى صفعة من ايثان على رقبتِه جعلته يُمسِدها بعبوسٍ حاد بينما يرمقَهُ بغِلظة لكنَّهُ تلقى كلماتِ ايثان الجادة:
" كلام والدتنا يُسمع دون أن تعترض أيها الغبي! "
" أنتَ هو الغبي! .. لتعلَم فقط أخي، أنني حين أكبر سأكون مِثل بابا و أصنع رجال آليُّون بديلًا عنك و ماما و ڤيينا الحمقاء!"
" لا تتشاجرا وحسب "
نظر الجميع نحو مايكل الذي يقترب منهم بقهقهه على صغيره الطموح ، بينما اتسعت ابتسامة سديم مُتناسيًا ما قاله و هو يقفز راكضًا نحو أبيه الذي تلقاه بعِناق مُشتاق ضاحكًا بخفة على مُشاغبة ابنه التي لا تنتهي مُطلقًا!
نظر تاليًا لحُور العابسة و ابتسم قائلًا:
" لا تغضبي منه فلازال طفلًا كما تعلمين! "
هي تنهدت بتعبٍ و ردت:
" هو مُشاغب و أنتَ فقط تُدلِلهُ يا مايكل! "
لم تختفي ابتسامته و هو يقترب منها ليُربت على خُصلاتها الحريرية قائلًا:
" لا بأس يا حبيبتي، و الآن لنُغادر سويًا .. ما رأيك بجولة كذلك في أحد الملاهي؟ "
الأشقاء الثلاثة هتفوا بانتصار و هذا ما أرغمها على الابتسامة بكل صِدق، هي و إن لم تكُن تُدرك بقوة أنَّها ببساطة تُحِب صِغارها ، هذا إن لم يُسمى عِشقًا!
تِلك الليلة كانت الليلة الأخيرة قبل أن يُخيم الحُزن و ينشر الظلام جزوره في تلك الأسرة مجددًا للمرة الثانية! ..
قبل عَودتهم لمنزلهم و بعد انتهاء النُزهة اللطيفة هم وقفوا جميعًا ينتظرون أن يأتي والدهم ليذهبوا للمنزل ، و انتهى وقوفهم بأن تسلل أصغرهُم ليَعُض ذراع ڤيينا الذي صرخت بألم تدفعه عنها بصعوبة ، فابتعد يُناظرها بعبوس و لكنه هتف بانتصار حين لمح دمعاتها تتجمع في عينيها:
" هذا كي تعلمين أن لا تأخذي مكاني مُجددًا عندما يُقرر بابا اللعب معنا في لُعبة القطار المُتحرك! "
هي شهقت باكية تتجه نحو والدتها تحتضنها و التي ناظرته بنظرة مُوبخة تُخاطبه بغضب:
" سديم أنتَ مُعاقب لكي لا تفعل ذلك بأُختك الكبرى مجددًا. "
هو عبس و شعر و كأنها تُفضل أُختهِ عنه و هذا جعله يعبس كاتمًا دموعه مُنتظرًا أن يأتي والده ليأخذ حقه و الذي لمحه من بعيد يقترب منهم بملامح مستاءة غامضة، ما إن فعل حتى قال بجفاء على غير عادته :
" لم أجد أيس كريم، لنعُد الآن. "
حور رمقته بقلق ليُحدق في عيناها حيث علِمت مِن خلالِ تِلك النظرة أنَّ هناك شيئًا ما حدث ، فتكلمت :
" حسنًا، سنتكلم في المنزل ، موافق؟ "
أومأ لها و هو ينخفض بعينيه ليُحدق في عين سديم المليئة بالدموع ، هو قام بمسحها بصمت و اتجه للسيارة متجاهلًا إياه لكن رسالة أخرى تخُص الشركة جعلته يتوقف يُخاطبها :
" حور، خذي الأولاد و غادري، هناك أمر طرأ في الشركة عليَّ الذهاب و رؤيته. "
" لكن؟ .. "
قاطعها و هو يُحدق فيها بشئ لم تفهمه:
" إذهبي فقط .. لن أتأخر. "
هو نظر لايثان تاليًا ليُخاطبه:
" بني ايثان ألكَ أن تأتي معي؟ ."
تقدم ايثان رغم استغرابه مِن تصرفه ، و لكنه علِم مِن نظرة والده أنَّهُ كالعادة يحتاجه للعمل معه ، فهو وريثه الأكبر قبل كل شئ! .. و لأن ڤيينا تقريبًا لا تستطيع ترك أخاها فهي إلتصقت به و قررت أنَّها ستذهب مع والدها لأن ايثان سيذهب ، لذا هو تنهد مع اصرارها ليقول لحُور:
" خُذي سديم و غادري أنتِ ، سأُصلح الأمور بالشركة أنا و إيثان و نعود ثلاثتنا للمنزل .. كما لا تُحزني صغيرنا مجددًا، موافقة؟ "
هي ابتسمت و هي تجذب يد سديم إلى جوارها و أخذت سيارته بعد أن أخبرها أنَّ هناك سيارة سوف تأتي كي تأخذهم للشركة!
هي توقفت للحظة بعدما أدخلت صغيرهم للسيارة و التفتت تفاجئ مايكل بعِناق دافئ جعل عينيه تتسع للحظة بينما انغلقت عيناها بحُب و دفء هامسة:
" مهما يحدث، إعلم فقط أننا و رغم هذا العمر فلازلت أحبك .. و سأظل بقربك مهما حدث."
لم يعلم ما حدث لكنَّهُ ظل يُحدق بها و هي تسير مبتعدة عن مرمى نظره، داخل تلك السيارة، لم يكُن ينظر إلا إلى سِواها قبل أن يستيقظ من غفلته على السيارة التي اختفت ووجود سيارة أُخرى تقِلُّه إلى الشركة مع إبنَيه!
*
*
*
يتبع.."
بارت طويل تم تعديله بنجاح ❤️✨
هنا الرواية تبدأ في العد التنازلي للنهاية
6
الآن لنتناقش في البارت؟
أخبروني رأيكم؟
توقعاتكم للأحداث؟
المشهد؟
ما حدث بالبارت و ماضي سديم،
والد ساجد؟ .. و تهديده؟
كيف عليه أن يتصرف الآن؟
أسئلة كثيرة و مناقشات ستَجعلكم مُتحفزين للنهاية!!!
و الآم سلام ❤️✨
أراكم في بارت أخر
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top