(٩) احـتــــدام!

لا تسل عن تلك النار المضطرمة في قلب المجرم، نارا اشتعلت غضبا وحقدا على محمد الذي أفسد كل شيء، لمَ ساقه القدر إليهم في اليوم الذي أراد فيه قتل نجيب؟ ما من فائدة الآن من شيء، لا الغضب ولا الحقد ولا حتى الندم، عليه أن يراهن بكل ما يملك على خطته الذكية التي فعلها لأجل ارتكاب الجريمة ثم النفاذ بجلده

حاول ضبط نفسه قدر المستطاع، فأي تصرف طائش سيفضح أمره، أما محمد فقد راح يشرح قائلا:
_ليس الأمر فقط أنه خرج من النافذة بل إنه دخل منها أيضا

صاح الجميع بدهشة متسائلين:
_مــــاذا؟

سأل مساعد المفتش وهو لا يكاد يستوعب:
_وكيف عرفت ذلك؟

كيف لا يستغرب وهو الذي أشرف على عملية الفحص، لم يبدُ لهم شيئا، فكيف استطاع محمد معرفة ذلك؟ بل والجزم بثقة أنه حدث، تحدث الأخير بهدوء كما لو كان ينتظر هذا السؤال:
_لقد حصرت وقت قتل نجيب بين الثانية عشرة والثانية عشرة وأربعون دقيقة

بفضول الصحفي الذي لا ينتهي تحدث إياد بعد تفكير:
_أي بعد أن أعطى له أسامة القهوة، ولكن كيف حددت نهاية الوقت أنه قبل هطول المطر؟

ابتسم محمد لهذا التحليل الذي استنتجه عقل إياد، في النهاية ألن يشغل الأمر تفكيره بعد كل ما حدث؟ رد محمد محاولا تذكيره بشيء:
_هل تذكر صوت التلفاز الذي قلت أنك لم تسمعه عندما أغلقت النافذة عند هطول المطر؟

ذكر إياد ذلك لكن عقله لم يسعفه إلى حل فقال:
_نعم، ولكن ما علاقة هذا بالأمر؟

أشار محمد إلى النافذة وهو يقول:
_انظر إلى النافذة، إن أطرافها محاطة بعازل للصوت، لذلك حينما تغلق فإن الصوت لا يخرج إلى الخارج أبدا، وهذا هو السبب الذي جعلك تسمع صوت التلفاز أولا حينما كانت مفتوحة جزئيا، ثم لا تسمع صوته عندما أغلقت نافذة غرفتك؛ لأن القاتل كان قد ارتكب جريمته وغادر مغلقا إياها خلفه

تمتم زياد بحنق بعد أن ضاقت تحليلات محمد به ذرعا:
هذا ليس سببا كافيا لتبعد التهمة عن من كانوا في المنزل

نظر إليه محمد باندهاش وقال:
_هل قلتُ شيئا كهذا؟

رد زياد متأججا غضبا:
_أليس هذا ما تلمح إليه؟ دخول القاتل وخروجه من النافذة، ما معنى هذا إذن؟

ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه محمد ثم سأل:
_ومن الشخص الذي يمكنه فعل ذلك من داخل المنزل برأيك؟

هز زياد كتفيه بلا مبالاة وقال محاولا شحن كلماته بالسخرية قدر المستطاع:
_وما أدراني أنا؟ ألم تقل أنك عرفت كل شيء؟ برهن على ذلك إن كنت حقا قد عرفت

أخذ محمد نفسا عميقا ثم راح يشرح مجددا:
_بالنسبة لزيد وصابر فقد كانا خارج المنزل حتى بعد هطول المطر، أي بعد الثانية عشرة وأربعين دقيقة، والأشخاص الوحيدون الذين كانوا داخل المنزل هم أنا وحسن وإياد وأسامة

توقف قليلا ثم أردف قائلا:
_ربما سيكون من الظلم أن أبعد نفسي وصديقي عن دائرة الاتهام لكن على الأقل ليس لدينا دافع لقتل نجيب

تحدث إياد وقد بدأ الخوف يساوره من تحقق ما دار في عقله:
_إذن بقي أنا وأسامة تحت الشبهة

تحدث محمد موجها كلامه إليه:
_لو قلنا أنه كان أنت فهناك عائقان يحولان دون عودتك إلى المنزل دون أن تُلاحظ، هذا بغض النظر عن طريقة دخولك للغرفة

تلاشى صوت محمد في كلماته الأخيرة ليجبر على الصمت ثانية، أخذ أسامة إذنا من المفتش للسماح له بأن يعد كوبا من مزيج من الأعشاب التي تساعده على تخفيف آلام حلقه، ذهب رفقة أحد رجال الشرطة ليراقبه جيدا، عاد بعد أن أعد الكوب المنشود، وقد تناول منه أولا لضمان أنه لم يفعل به شيئا يضر محمد

لا لوم عليه إن سخر من الشرطة على هذا التفكير؛ إن كان هو القاتل فهو ليس بحاجة لارتكاب جريمة أخرى ليغطي على الأولى، فهو هنا سيفضح نفسه ليس إلا، لكنه عملهم وليس له أن يعترض

أخذ محمد بضع رشفات من ذلك المزيج الغريب وعاد ليكمل ما بدأه والكأس لا يزال في يده، كانت تلك المدة هي المدة الأطول انتظارا بالنسبة للجميع، بدأ ذلك يزعجهم نوعا ما

وقف مجددا ثم أكمل من حيث توقف:
_لنأخذ فرضية عن إياد أولا؛ ذلك أن غرفته تقع فوق غرفة الجلوس هذه، لنفترض أنه قام بالدخول إلى الغرفة من بابها، وإذا ما أتينا للحديث عن النافذة فهو لا يمكنه الدخول منها بحيلة أخرى غير الذهاب من الباب الرئيسي، لأن الخروج من نافذة غرفته وهي الغرفة الوحيدة التي يمكنه الدخول إليها تمتلك حماية كغيرها من نوافذ الطابق العلوي، ولا يمكن للطفل الصغير أن يخرج من إحداهن فكيف بالشخص البالغ؟

توقف قليلا ثم أكمل:
_واذا قلنا أنه استخدم حبلا أو ما شابه للنزول من السطح فإن هذا مستحيل أيضا؛ لأنه لا يوجد في السطح ما يساعد على ربط أي شيء واستخدامه للنزول

شحذ حنجرته مجددا ثم أكمل:
_وعليه فإن الطريقة التي ستبقى أمامه إن قرر الدخول من باب الغرفة والخروج من النافذة هي أن يعود من الباب الرئيسي للمنزل، وهنا سيقع في مشكلة، المشكلة ذاتها التي سيتوجب عليه الهروب منها إن قصد الدخول إلى الغرفة من النافذة بعد خروجه من الباب الرئيسي

ارتشف قليلا من الكأس الذي بين يديه وعاد ليكمل سريعا:
_الباب الرئيسي يصدر صوت أزيز أثناء فتحه وغلقه، فإن لم يلفت نظر زيد وصابر الذين كانا في الخارج، وكان بإمكانهما رؤية من يدخل أو يخرج بحكم المكان الذي جلسا يتسامران فيه _حيث أنه كان واقعا مقابل المنزل من ناحية الباب الرئيسي_ فإنه كان سيلفت انتباه أسامة الذي كان في المطبخ حينها، لا يلزم أن يعلم من الداخل أو الخارج بما أن أولئك الاثنين كانا في الخارج، لكن سماعه الباب كان كافيا ليثير الانتباه إلى أن هناك من دخل إلى المنزل، فكيف لو زاد الطين بلة وظهر أحد ما أمامه؟

تساءل حسن بعد أن أدرك شيئا:
_إذن ماذا عن أسامة؟ كما لاحظتُ فإن الطابق الأرضي لديه نفس نوع النوافذ مع عدم وجود حماية، وقد كان بإمكانه أن يخرج أو يدخل من أي نافذة شاء، هذا إذا لم يقصد الباب الرئيسي أصلا

سأل محمد ملفتا أنظارهم إلى شيء ما:
_ألم تلحظوا شيئا غريبا في أسامة؟

حملق به حسن ثم سأل باستغراب:
_شيئا غريبا؟ مثل ماذا؟

تحدث محمد بما انتبه له سابقا وبدا له أنهم قد انتبهوا أيضا لكن الآن اتضح له عكس ما توقع:
_ألم تلاحظوا أنه كان الشخص الوحيد الذي لم يغير ملابسه التي كان يرتديها على العشاء حتى قبيل صلاة الفجر؟

تحدث ثابت:
_أنا حقا لم أنتبه

أتبعه حسن بالقول:
_لقد انتبهت لذلك للتو فقط

غزا الفضول إياد الذي ينتظر إجابات لأسئلته الفضولية فقال:
_وما علاقة تبديل ملابسه بالأمر؟

رد محمد بعبارة بدت لهم موهمة أكثر من موضحة:
لا يمكن لشخص ارتكب جريمة ما أن يبقي الملابس التي كان يرتديها أثناء ارتكاب جريمته إن كانت تحمل شيئا سيدينه لاحقا

تحدث مساعد المفتش:
_وضح أكثر

رد محمد مفصلا قليلا:
_بالأمس سقطت إحدى قطع طبق الحلوى على بنطاله في أعلاه من الأمام، وقد كانت تحمل طبقة من الكريمة، صحيح أنه أزالها لكن باستخدم الملعقة، وهكذا فإن آثارها قد ظلت عالقة في البنطال، حتى أنها كانت لا تزال واضحة بعد اكتشاف الجثة

فسر أسامة ذلك بقوله:
_لم أستطع تغيير ملابسي لأنني كنت متعبا للغاية، ولكن ما علاقة هذا بذاك؟

أجابه محمد مسهبا:
_لا شك أننا جميعا فكرنا بأن المجرم قد قام بخنق الضحية، ثم قام بحمله وتعليقه بالحبل الذي علقه بالسقف بعد موته، وهذا يتطلب أن يلتصق جسد الضحية بجسد المجرم وإن بشكل جزئي، وإذا حدث ذلك وكان ذلك الشخص هو أسامة فسينتقل جزء من تلك الحلوى إلى ملابس نجيب، ولقد حاولت أن أجد أثرا لها دون جدوى، من هنا خرج أسامة من دائرة الشبهة لدي

صمت لوهلة ثم أردف قائلا:
_لا يمكن لأي شخص من هؤلاء المتهمين حمل نجيب الذي كان طويلا وممتلأ الجسم بين يديه بيسر مهما كان، ومع هذا يبقى هناك احتمال لأن تصل آثار تلك الحلوى إلى ملابس الضحية إن كان أسامة هو الذي فعل ذلك

تحدث خالد هذه المرة بعد أن شعر بشيء ما يجتاحه من كل هذه التبريرات التي تبعد أسامة عن دائرة الشبهة:
_هذا ليس كافيا لتبعده عن دائرة الاتهام، ماذا لو أنه غير ملابسه وقت ارتكاب الجريمة، ثم عاد ولبسها بعد ذلك ليبعد الشبهة عنه؟

حول محمد نظره إليه ثم قال:
_سؤال وجيه، لكن دعني أسألك سؤالا قبل هذا

نبس خالد باستغراب:
_تفضل

سأله محمد مباشرة:
_هل تذكر حينما نظرنا إلى المطبخ على حين غرة من أسامة فوجدناه بالكاد قام بتنزيل قدر الطعام من فوق الفرن؟

رد خالد وهو يمرر نظره إلى بعض الحاضرين:
_نعم أتذكر، لست وحدي من رأى ذلك أيضا

وهنا طرح محمد سؤاله الذي فتح المجال أمام أفكار أخرى:
_برأيك ذلك الشخص الذي بالكاد أنزل القدر الذي يساوي نصف وزن نجيب تقريبا كيف يمكنه حمل نجيب نفسه وتعليقه أيضا؟

همس خالد بما جال في عقله:
_إذا كان الأمر كذلك فإن القاتل يجب أن يكون قويا لـ...

بتر جملته وقد أدرك أن ما دار في عقله لم يكن تفكيره وحده، إذ نظر الجميع نحو الثلاثة الذين باتوا خارج المنزل، كيف لا يفعلوا ذلك ومحمد قد عمل على حصر وقت الجريمة، ثم أبعد الأشخاص الذين باتوا داخل المنزل عن دائرة الاتهام، وفوق هذا كانوا جميعا يمتلكون أجسادا قوية

لم يكونوا إلا زياد وخالد وثابت، صرخ الثلاثة بصوت واحد بعد أن كادت نظرات الآخرين تخترقهم:
_لا تنظروا إلينا بهذه النظرات

شعر محمد بالارتياح وهو يقترب من نهاية التحقيق، ابتسم ابتسامة عريضة تنمُّ عن رضاه ثم قال مكملا قبل أن ينهار:
_بالنسبة لك يا خالد فقد ذكرت أنك خرجت من النزل بعد هطول المطر، وقد أكد ذلك حارس النزل، أي أنه لم يكن بإمكانك الوصول إلا مبلولا، حيث أن ذلك الحارس أكد أنك لم تكن تحمل مظلة

لمَ ينفذ الجميع من التهمة بهذه السرعة وهو لا؟ كان زياد يتساءل ما دفعه ليقول بغضب:
_وماذا في ذلك؟ لقد كان يملك الوقت الكافي بعد كل شيء لارتكاب الجريمة

تحدث صوت المنطق على لسان محمد بهدوء قائلا:
_إذن أين آثار البلل في غرفة الجلوس أو على ملابس الضحية؟

أشار زياد إلى ثابت وقال:
_إذن ماذا عن هذا الذي خرج قبل هطول المطر؟ كان بإمكانه أن يخبئ المظلة في مكان ما بعيدا عن أعين الحارس، وما إن يصل إلى هناك يخرجها ويحمي نفسه من البلل

نظر إليه ثابت بفزع وقال:
_على رسلك، من سمح لك أن توزع التهم جزافا؟

رغم أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد لكن محمد لم يقل من المجرم بعد، بل إنه لم ينهِ سرد كل شيء، لمَ الغضب الآن وتبادل الاتهامات، على أية حال من هو ذلك الذي لن يفزع إذا ما وجهت له أصابع الاتهام في ارتكاب جريمة قتل؟ وهنا أدرك محمد أن ساعة الحسم لا بد أن تحل.

**********
ا

نتهى الفصل التاسع

ياهوووه وأخيرا انتهى تعديل هذا الفصل

التعديل لحاله كارثة، كتابة بعد الكتابة هُفْ!
_تتنهد براحة بعد العناء_

عموما
رحلة ممتعة أعزائي القراء :)

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top