القرش
"امي، لما لا يعود بابا إلى المنزل؟"
سألني ابني الصغير حسن ذات مرة.
"لأنه مشغول بالعمل يا عزيزي، يعود إلى المنزل متاخرا بعد أن تخلد أنت واخوتك للنوم، وينهض باكرا قبل أن تستيقظوا، كان الله في عونه فهو يعمل لساعات طويلة حتى يوفر كل احتياجاتنا"
"لكنه لم يكن مشغولا هكذا في السابق، قبل أن ننتقل لهذا المنزل كان يعود إلى منزل مع عودتي من المدرسة وكان يلعب معي كل يوم "
" صحيح، كان هذا عندما كان يعمل مدرسا في مدرسة حكومية، كان يعود إلى منزل مبكرا، لكن راتبه كان منخفض وكان منزلنا ضيقا، بعدها عثر على عمل أفضل وانتقلنا إلى هذا المنزل الواسع، الحمد لله فقد كان ذلك المنزل قديما ومليئا بالحشرات "
" مع ذلك كنت سعيدا في ذلك المنزل فقد كنت اقضي بعض الوقت مع أبي، اما الان ما عدت أراه حتى "
" لا تنزعج يا عزيزي، اعدك أن نذهب جميعا في العطلة إلى الشاطئ لقضاء وقت جميل معا "
ابتسم ابني حسن اخيرا وقال :
" هل هذا وعد؟ "
تركت الصحون من يدي وغسلت يدي من الرغوة، ثم التفت إليه وربت على راسه وقلت :
" بكل تأكيد "
بعدها ذهب ابني للعب مع إخوته، بعد بضع دقائق اتصل زوجي، فرفعت سماعة الهاتف وقلت :
" الو، مرحبا عزيزي
كيف حالك؟ "
" الحمد لله انا بخير حال، اريد ان اخبرك أنني سأعود إلى المنزل مبكرا اليوم، وهناك شيء اريد اخبارك به"
"تمام، إذا ساحضر الغداء، الاولاد قد اشتاقوا لك بالفعل وسيسعدون جدا برؤيتك"
"وانا ايضا اشتقت لهم كثيرا، انا في طريقي"
بعد أقل من ساعة كان زوجي في المنزل، وكان جميع أبنائي حوله يستقبلونه بالإحضان والقبلات، بعد أن تركوه يلتقط أنفاسه سلمت عليه وقلت :
" اهلا وسهلا، ارجوا ان تغير ملابسك وترتاح ريثما يجهز الغداء، وانتم يا اولاد دعوا والدكم يرتاح قليلا"
بعد أن تناولنا الغداء ذهب الأطفال للعب في حديقة المنزل وجلسنا انا وزوجي على الشرفة نحتسي القهوة، بعدها قال زوجي لي :
"صحيح، هناك شيء يثقل صدري من فترة وأريد اخبارك به "
" خير ان شاء الله، ما الأمر؟ "
" خير، لكن بصراحة عملي الجديد ولو انه يغطي كامل احتياجاتنا واكثر ويوفر لنا حياة كريمة، لكن بصراحة انا غير مرتاح به، ساعات العمل طويلة جدا واخاف أن يكبر الاولاد وافوت سنوات طفولتهم وانا غارق بالعمل، وعدا عن ساعات العمل هناك الكثير من علامات الاستفهام على مدير الشركة، فكما تعلمين انا المدير المالي للشركة وحينما كنت اراجع الحسابات اكتشفت ان هناك الكثير من الضرائب غير المدفوعة مع ذلك لم يرد الشركة اي مخالفة أو إنذار من مصلحة الضرائب، أردت أن اراجع مدير الشركة بالأمر لكن زميلي نصحني أن اغض الطرف عن الموضوع والا أتدخل أو اورط نفسي بالأمر، فهم لم يدفعوا فلسا لمصلحة الضرائب من سنين وهو وبعض الموظفين القدماء فقط من يعلمون بذلك؛ والسبب هو أن المدير لديه محسوبية والكثير من المعارف
وليس هذا وحسب، بل أيضا هناك الكثير من الأعمال التي يجريها تحت الطاولة، وأخبرني أيضا أن عملنا هذا هو على الأغلب مجرد غطاء (غسيل أموال) لأعماله الحقيقية "
تنهد زوجي واخذ رشفة من قهوته ثم تابع :
" إذا كان ما قاله صحيح فأنا ساستقيل من هذا العمل، لا أريد أن اطعم واسقي أولادي من الحرام، فالحرام لا بركة فيه ولا هناء "
هذا الصباح كنت قد استيقظت على أنغام فيروز ونسيم الصباح العليل، لكن للأسف قد تعكر مزاجي الان بفضل ضمير زوجي الحنون.
وضعت فنجاني وفنجانه على صينية القهوة وطلبت منه أن يلحقني إلى المطبخ لنتابع حديثنا هناك حتى لا يسمعنا الأطفال.
جفل زوجي لوهلة بعدها لحقني إلى المطبخ، أغلقت الباب ورائه وتأكدت أن الأطفال يلعبون ولا يستطيعون سماعنا، ثم التفت إليه وقلت :
"استمع لي جيدا، تزوجنا قبل عشر سنين عندما كنت لا تزال مدرسا في مدرسة حكومية، وانا وافقت على ظروفك المتواضعة ورضيت بالعيش في منزل متهالك مع الجرذان والحشرات، بعدها رزقك الله بالعمل والمال وصار الناس يحترموننا وصارت حياتنا مريحة بعد أن كنا نكد ليل نهار،وننام على الحصير ونأكل الخبز الجاف.
هل ستكون سعيدا إذا كبر أولادك أمام عينيك في شقاء؟
هل سيكون ضميرك مرتاحا وأولادك يتلقون اسوء تعليم وإذا مرضوا ولم نستطع توفير العلاج لهم؟ "
بدت ملامح الغصة والقلق واضحة على وجه زوجي رد علي وقال :
" لا سمح الله، أعدك أن أوفر لهم أحسن تعليم واحسن علاج إذا مرضوا لا سمح الله، كل ما في الأمر أنني سأترك هذا العمل لأنني اخاف الحرام، أعدك أن أجد عملا آخر وان شاء الله سيعوضني الله خيرا منه "
" عزيزي أدهم، ارجوك أن تترك عنك هذه المثاليات وان تتحدث معي بواقعية، من أين لك بعمل براتب اعلى من هذا؟
لو بحثت تحت الأرض وفوقها لن تجد عملا أفضل منه، تكاليف المعيشة باهظة جدا، والخدمات الأساسية كل يوم تصبح أغلى، نصيحتي لك أن تبقى في هذا العمل حتى تجد عملا أفضل براتب أعلى، عندها بإمكانك أن تتركه "
" لكن يا هند، ماذا لو لم أجد أفضل منه؟
هل تفضلين كثير الحرام على بركة الحلال؟ "
" اسمع انت لا تعرف احتياجات المنزل والأولاد أكثر مني، ولن أقبل أن يعيش أولادي بمستوى أقل من الذي يعيشون فيه حاليل، باختصار اما ان تحكم عقلك وتستمر في عملك كشخص عاقل وتختصر المشاكل أو أن تطلقني! "
تفاجأ زوجي واخذ يحاول تهدئتي وقال :
" صبرك يا امرأة، هل تريدين ان تخربي بيتنا لأجل المال، انا ابحث عن مصلحة عائلتنا لا أكثر "
أجبته بنبرة حادة :
" انا ايضا ابحث عن مصلحة أولادنا، استمع لي وضع كلامي حلقة في اذنك، في هذا الزمن إذا معك قرش تساوي قرش "
" ماذا عن الاولاد، أخاف الا يحبونني في المستقبل، اخاف ان تقل البركة والسعادة في حياتنا، أو أن يكبروا بعيدا عن عيني وافوت أجمل سنين عمرهم، اخاف ان يكرهوني لبعدي عنهم وان يقارنوني بباقي الآباء "
نظرت له نظرة استهزاء ثم قلت له"
"لا تخف فأنا موجودة، ساحرص أن أزين صورتك أمامهم، ساخبرهم انك تعمل وتكد لأجلهم، لن يكرهوك بل سيحترمونك أعدك بهذا"
"اكيد يا هند؟
هل هذا اخر جواب عندك؟
هل هذه الحياة التي ترضينها لنا؟"
"توكل على الله، فهذا هو خيارنا الوحيد، انا متأكدة أن الاولاد سيتفهمون "
توكل على الله بالحرام؟
اه كم كنت انانية، بالواقع ما كنت افكر فيه وقتها كان الترف والمظاهر التي أعمت بصيرتي، منعت زوجي عن الحلال واسقيته وأولادي أكاذيب وأوهام عن الحياة السعيدة التي سنعيشها وعن الرحلات والعطلات التي سنستمتع بها لكني بالتدريح بدأت انكث كل وعد قطعته لهم.
يتبع...
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top