٣-ودٌ للجميع.

تبعثرَت خطواتُها حيناً مع أنفاسها المفتقرة للتنظيم، وحيناً مع الخيبة المتوارية في مكانٍ ما قريباً من قلبها.

كانَ لها أن تحاولَ جاهدة في مهمة إيجادِ الشخصِ المعني في أفكارها للحظاتِ الراهنة، بأكبرِ كمٍ من العجلة يمكنها أن تطال بيديها، فكل ما كانت ترجو هو إلقاءُ صوبِ حركتها خارج هذا المبنى الذي جعلَ نهارها طويلاً إلى حدٍ يقعر الكاهل.

عندَ قارعة ممرٍ كان السادس في الخريطة التي رسمت لذهنها، أبصرت كومة متبعثرة من ظلالٍ فارعة دامسة على الأرض, اتصلَت اطرافُها بأقدامِ مجموعة من الفتيان, متفاوتي الطولِ والأحجام لكن في أعمارٍ لم يفرقها سوى بعض الأشهر. طلاب السنة الأولى بطريقةٍ أيسر للإدراك.

امتزجَ ظلُها مع واحدٍ منثورٍ برقة وشموخ على الأرض, ثم باشرَت بتعليقِ يدِها في نسيجِ كمِ معطفٍ بلونِ محيطٍ عاصف, جذبتهُ دونَ رقة واستدارَ المنشودُ سريعاً.

"أوقف ثرثرتَكَ ولنعُد إلى المنزِل."
وضحت ضجرها.

"عودي أنتِ, نصفُ ساعةٍ وألحقُ أنا."
كانَ يكتمُ ضحكةً لحديث مُعلق من أحدِ رفاقِهِ.

"لا يا أحمق, أمي طلبتَ البارحة بأن لا نعود إلى المنزِلِ إلا سوياً, ولا تحاول حتى سؤالي عن السبب."
كانت تفرِغُ ضيقها فيه دون سببٍ.

"ولكن لا رغبة لي في العودة راهناً!"
تذمرَ يعقدُ جبينهُ بتمرد.

"لن يبتلِعَ الوحشُ رفاقك جونغكوك, ستراهم غداً واليوم الذي بعده والذي يليه. لذا توقف ولنعُد إلى المنزل."
زفرت حروفها تشدُ على حبلِ حقيبتها المُعلقة بكتفٍ وحيد قبلَ أن تغرسَ خطوتين بعيداً عنهُ.

سمعت تذمراتٍ دافئة تلحقُ حركتها, لم تتردد لغمضة عين وأكملت سيرها ناحَ البوابة المفتوحة, تلا أخوها وداعهُ الأخير لرفاقِه الصاخبين ثم انتحى البوابةَ التي كسرت ظِل المكان بقسرِ خيوطِ شمسٍ حادة.

سارا والسكونُ ثالثُهما لدقائقٍ عديدة, حتى تجافى هيكلُ المدرسة عن ناظريهما. كانَ الأخرُ يحدِق بهاتفهِ بين الفينة والأخرى, بينما هي أخذت تفكِرُ بوتيرة لم تنقطِع لثانية.

"صحيح غفلتُ عن سؤالكِ!"
انسابَ صوتهُ قبلَ أن يسحبَ نظرهُ إليها يلحق.
"أكنتِ مصاحبةً لبارك جيمين وقت الغداء؟"

"تعرِفُه؟"
عوضت عن سؤاله بواحدٍ أخر.

"ومن لا يفعل؟"
اقتربَ منها وقد دفعَ كفيهِ في جيوبِ بنطالِهِ الضيق.
"مهووسُ القِطط قليلُ الحديث بارد الطباع, بارك جيمين."

"إنهُ ليس غريباً كما يزعمون!"
ردت بازدراء.

"دعيني أحزر, عادت رغبتُكِ البطولية الملحة في أن تكوني رفيقةً لكل من تظنين منبوذاً؟"
تلمسَت سخريةً في أنفاسِ حديثِه.

"لا يستحقُ أحدٌ أن يكونَ وحيداً!"
كتفت ذراعيها وقد ارتوى حبلُ حديثها.

هي كانت ممن آمن بأن لا بشراً يستحقُ رفيقاً من الوحدة دون الإنس. كانت نفسُها تأبى وهبها الراحة في كلِ مرةٍ ترى من لا اخلاءَ له, وتجدُ أقدامها تسارعُ لتقودها إلى مساحة مقاربة لأيٍ كان الشخص. ورغم الاعتراضِ الملحِ المصاحب من جهة و الرفضِ التام من جهة أخرى. هي لم تكُن تستسلِمُ بسهولةٍ أبداً.

"لكن عليكِ أن تعلمي بأن ليس الجميع واقعاً يتطوقون إلى صحبة, بعضهم فقط يريدُ أن يكونَ وحيداً."
ركلَ بضع َحصيٍ منثورة على دربهِم.

"لا يهمني رأيُك!"
كتفت ذراعيها على مضض.

"ألا تذكرين كيم سانا؟ طالبة السنة الثانية التي استمررتِ بملاحقتها لأسبوعين لإيمانكِ بأنها شديدة الوحدة, قبل أن تمسك بها إدارة المدرسة لتصرفاتِها المريبة, اكتشفوا أنها كانت تبيعُ أفلام البالغين للطلاب سراً."
عجزَ عن كسرِ الضحكة المتسلقة في نهاية قصته.

"على الأقلِ امسكوا بها!"
غمغمت وخيبةٌ وليدة تحتضنُ وجنتيها.

"مقصدي هو أنهُ ليس عليكِ أن تتبعي جيمين ذاك وأن تُلحي عليه صُحبتكِ, لربما هو فقط سعيدٌ بوحدتِه والغرابة التي تنضحُ منه."
سرقَ أربع خطواتٍ يسبقُها قبلَ أن يستديرَ مواجهاً إياها وأقدامُهُ تسيرُ عكس الطبيعة البشرية.

"لا تملي علي ما أفعلُه جونغكوك! أنا أكبرُ منك وأعرفُ يقيناً ما علي فعلهُ وتجنبُه."
بتكويرٍ صنعت بيدِها ضربت على صدرِهِ دون خيطٍ من أذية قبل أن يحين دورُ سبقها له.

"حسناً إذاً, لتشهد السماءُ على تحذيري لكِ!"
علا بكفيهِ استسلاماً قبلَ أن يلحقها.

استمرَ سيرهُما على الطريقِ في جو الخريف الصحو الذي لم تطلهُ رياحُ البردِ بعد, لم يخلو الحديثُ الذي أسهبا البناء فيه من الأصواتِ المرتفعة, القهقهة, والضربِ العفوي لمرة أو مرتين. كان َهذا هو الشكلُ النهائي لثرثرتهِما أينما افتعلاها. خارجاً أمام العلنِ أو في البيت.

بعدَ ربعِ ساعةٍ من السيرِ رحبت بهما أطرافُ الشارِعِ القائِد إلى منزِلهِما بانشراح, أكملا السيرَ حتى أصبحا على بُعدِ منزلينِ أو واحد عن خاصتهما.

"جايون! جونغكوك! ظهراً سعيداً!"
نادى صوتٌ عذبٌ لاعباٌ باسميهما.

باشرَت بتفحُصِ البيتِ إلى الأمامِ وعلى اليمين. وهناك وقفَت السيدة أبيليا, باهرة بفستانٍ برتقالي تجمعُ برقة أوراقَ الخريفِ التي فقدت مكانها من على الأشجار وحطت مجهدة أمام باحة منزلِها. شعرُها المسدل المحجوب عن عينيها بطوقٍ مقارب إلى ما ترتديه وبشرتها السمراء اللامعة جعلاها تبدو كلوحةٍ ألقى فنانٌ فيها كامل شغفه. بدت مفعمة بالحياة أكثرَ من أي شيءٍ قابلَ ناظريها اليوم.

"أهلاً سيدة ميلر!"
لوحت بذراعٍ حُر.

لم تسحب عينيها إلى جونغكوك, ولكنها كانت قادرة على استشعار حذلقته تتبخر في ذاتِ الشمسِ التي برقت فيها ابتسامة جارتهم اللطيفة. لربما كانت قدماه تنصهِر تحت الأشعة الناعمة أيضاً.

لم يكونا يصادفانِ السيدة ميلر كثيراً في طريق العودة من المدرسة, لكن في كلِ مرةٍ كان القدرُ يشاء ذلك, يكون الأمرُ كفيلاً ببعثرةِ الفتى كالأوراقِ الهشة التي تلهو بها جارتهُم راهناً.

"مرحباً سيدة أبيليا."
طرزَ بصوتِه الذي اصبح دونَ إنذارٍ رقيقاً اسمها الأول, بينما حاولتَ هي عن جنبِه عدم الابتسام بطريقة فاضحة لعجبها.

"لا بد أن يومكما كان طويلاً, هل ترغبانِ بالقدوم وتناولِ فطيرة اليقطين؟ إنها طبقٌ لا طالما كان مصاحباً لعائلتي في كلِ مرةٍ كانَ الخريفُ يحلُ على مينيسوتا, وكنت أتطلع شوقاً لتحضيرها هذا العام."
بدت تفاصيلُها أودَ كلما اقتربا من منزلِها وعلى ذاتِ الوجهِ منزلهِما.

"نتمنى لو في مقدورنا قبولُ عرضِكِ السخي, لكن أمي طلبت منا أن نعودَ بأسرعِ وقتٍ ممكن اليوم ولا أزالُ جاهلةً السبب."
باشرَت بالردِ بلباقةٍ قبل أن يمتلِك الأصغر حتى وقتاً ليمنح عقله قدرة التفكيرِ بالكلمات, جزءٌ منها ما كان ليسمح لجونغكوك بالإجابة, لأنهُ كان على وجهِ التأكُد سيقبلُ هذهِ النعمة التي هبطت على قلبِه ولو فعلَ وقدماهُ ترتجِف حياءً.

"لا بأسَ إذاً, يوماً سعيداً."
تخصرَت بكفة ولوحت بحبورٍ بالأخرى.

"لكِ ايضاً."
أكملَتِ السير ببشاشة.

"ربما يمكنني أن-"
باشرَ الأصغرُ بطرحِ حروفِهِ لكنها قطعت فرصتهُ بسحبهِ عنيفاً من ذراعِهِ المتدلي ليوازيها السيرَ سريعاً.

قطعا المنزِلَ الدافِئ للجارة قبلَ أن يصبحا في قطرِ أمتارٍ يفصِلُ عن منزلهِما.

"ما خطبُكِ؟ كنت سأعرضُ جمعَ الأوراقَ بدلاً عنها!"
هسهس بنفورٍ يسحبُ طرفهُ بيأس.

"أمي قالت نعودُ للمنزلِ سوياً, إذاً نطأ المنزِل سوياً."
أضحت مُبالاتُها باحتجاجاتِهِ صفراً ثم أفلتتهُ عندما وصلا العُشب الندي لباحةِ البيت.
"سيكونَ لديكَ فرصٌ أخرى تتبخترُ فيها ببطولتِك أمام السيدة ميلر."

__________________

إهداء إلى nunary💕💖
شكراً على الحب دوما💕

ثلاثة فصول تعريفية بالشخصيات, وكل هذا لأني مو عارفة أرتب أفكاري بالتسلسل الصحيح للقصة :') 💔

شكراً على القراءة, لا تنوسوا التعليق والتصويت💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top