الفصل الأول (أرقام)

فِي لَيلةٍ سَالتْ دُموعُ غُيومِهَا مَطراً، بَغىٰ هُجرانَ السَّماءِ عَلى غَفلةٍ، مُتساقطاً عَلى رَصيفِ الأرضِ أَسفلَها، ومُتجاوزاً أكتافَ العَابِرينَ بِرقةٍ، جَعلتهُ يَبدُو كَخيوطٍ مِن حَريرٍ تَقطعتْ
بَعضُها عَلىٰ مَتنِ النَّاسِ قَد تَمركزتْ، وَأُخرَى فَوقَ مِظلاتهِمْ تَزحْلقتْ.
َوتَحتَ تِلكَ السَّماءِ ذَاتِ المِزاجِ الأسْودِ المُتعَكِّرِ، سَارَ الجَمِيعُ بِسرعةٍ مُتعثرةٍ، أَملاً فِي العَودةِ إِلى مَنازلهِمْ الدَّافئةِ، سَالمينَ غَيرَ مُصابينَ بِالحُمَّىٰ.

لَكِنَّ شَخصاً مُتعباً رَفضتْ قَدماهُ أَن تُسرعَ خُطاهَا، مُخالفةً  أَوامِرَ حَاكمِ كَيانِهَا الَّذِي يُريدُ العَودةَ سَريعاً إِلَىٰ وُجْهتِه، حَالهُ كحالِ غَيرهِ مِن البشرِ فِي ذَلكَ الجَو.

وَهَا هُو المَطرُ يَشتدُّ بِكل غَضبٍ بَاكياً، جَاعلاً صَديقَنَا ذُو الشَّعرِ الفَاحمِ يُسرعُ، حَتى مَعَ كَدماتِ سَاقَيهِ، وَصُعوبةِ الأرضِ تَحتهَا.

فَدخلَ بِسُرعةٍ إِلى دَاخلِ النفقِ المُظلمِ، وَهوَ يَشدُّ عَلى الشَيءِ المُستطيلِ فِي حِضنهِ.

ثُم نَزَلَ الدَّرجاتِ حَتى وَصلَ إِلى جَمعِ أُناسٍ بَدَؤوا يَتوافدونَ لِدخولِ القِطارِ، قَبلَ أَن يَتوجبَ عَليهمْ اِنتظارُ آخرَ يَصلُ فِي مُنتصفِ الليلِ.

أخذَ يَتزاحمُ مَعهمْ عَلى أَملِ أَن يَدخلَ بِسلامٍ، غَيرَ مُهشمِ العِظامِ.

وَإِذْ بِه نَجحَ فِي الدخولِ، فَقامَ بِإمساكِ المِقبضِ الدَّائرِي حَتى لَا يَسقطَ؛ بِيدِ أَن الأمَاكِنَ مُمتلئةٌ، وَكُلُّ مَن هَبَّ وَدَبَّ كَالاَعْمَىٰ فِي الظَّلَامِ، يُسقطُ كُلَّ مَن أَمامَهُ دُونَ اهتِمامٍ.

وَتِلكَ ثَوانٍ مَرَّتْ، لِتأتِيَ فَتاةٌ فَاقتهُ طُولاً وَتُمسكَ بِالمِقْبَضِ الذِي يُجَاوِرُه، ثُم تَبدأَ الحَديثَ مَع صَديقَتِهَا الجَالسةِ أَمامَها.

كَانَ القِطارُ مُزدحماً عَلى غَيرِ عَادَتهِ فِي النَّهارِ، فَهوَ الآنَ مُبشمٌ، لَا يَكادُ يَسمحُ لِأَحدٍ أَن يَتحركَ بِحريةٍ، وَرُغمَ أَن الوَقتَ مُتأخرٌ، إِلا أَن نِصفَ النَّاسِ هُنَا يَعملونَ فِي دَوَامٍ لَيلِي.

وَكعَادَةِ وَسِيلَةِ النَّقلِ هَذهِ عَندمَا تَمتلئُ؛ تُبطءُ تَارةً، وُتسرعُ تَارةً أُخرَى، مُتسببةً فِي تَدافعِ النَّاسِ وَاصطدامِهمْ بِبعضهمُ البَعضِ، فَتسمعُ أَصواتاً كَثيرةً، سَواءً كَانتْ تَأوُّهَاتٍ أَو صُراخاً مِن أحدهمْ قَد سَقطَ.

لَكِن الفَتَى دَاسَ عَلى قَدمِ الفتاةِ دُونَ قَصدٍ، فَنظرتْ إِليهِ بِغضب لِتضربَهُ عَلى عَضُدِهِ بِمِرْفَقِهَا، مُبعدةً إِياهُ قائلةً بِعصبيةٍ:
-هاي أنت .. أَلا تَنتبهُ لِخُطَاكَ؟!.

فَالتفتَ إِليهَا ذَاك الفَتى ذُو الوَجهِ المُبهمِ المَلامحِ، تُغطيهِ كِمامةٌ بَيضاءُ طِبيةٌ، وَتتمركزُ فَوقَ عَينيهِ غُرتهُ السَّوْدَاءُ المُبتلةُ، بَينمَا قَامتْ قُلنسوتُهُ بِمهمةِ تَغطيةِ رَأسِه الغربيبِ بِلونِهَا الرَّمادِيِّ الهَادئِ، حَاجبةً عَنِ الجَميعِ مَاهِيةَ كَيانِهِ تَماماً.

وَهُنا نَظرَ لَها قَليلاً، ثُم هَمَّ بِوضعِ الشَّيْءِ المُستطيلِ فَوقَ رَأسِهِ، بَعدمَا ظَهر حِينَها لِلعيانِ أنهُ كِتابٌ رَماديُّ اللونِ، وبدأَ بِتحريكِ يَديهِ حَركةً عَشوائيةً، خَتمَهَا بِإعادتهِ إِلى حُجرهِ.

فَحدقتْ بِه الفتاةُ بِاشمئزازٍ مِن الأسفلِ إِلَى الأعْلَى -كَمنْ إِلى طعامٍ مُتعفنٍ يَنظرُ- ثُم عَادتْ لِتثرثرَ مَع رَفيقَتِهَا، وَكأنَّ شَيئاً لَم يَحْصُلْ.

ثُمَّ

.
تَوقفَ القِطارُ مُعلناً وُصولَهُ إِلى المَحطةِ.
فَنزلَ الرُّكابُ بِمنْ فِيهمْ ذُو الكِمَامَةِ، وَلاَ يَزالُ الكتابُ مُلازِماً لَهُ.

.

.

.

.

.

.

فِي مَكانٍ آخرَ لَيسَ بِبعيدٍ، حَيثُ المَطاعمُ والمَقاهِي ذَاتُ الأضْواءِ المُلونةِ، تَعُجُّ بِصخبهَا الرَّنَّانِ ذِي الاصواتِ المُتَنافِرَةِ.

وَفِي رُكنٍ مَا هُناكَ

يَجلسُ أسودُ المَلابسِ مُقابلاً لِنافذةِ أَحد المَقاهِي المُنعزلةِ، بَينما يَشربُ كُوبَ القهوةِ نَاظراً لِلأمطارِ الَّتِي غَطتْ الزُّجَاجَ بِزخاتِها المُتَوَاصِلَةِ.

َتَناهَى إِلى سَمعهِ كَلماتٌ .. بَدتْ أَشبهَ بِأرقامٍ مُبعثرةٍ، تَبِعهَا صُراخٌ عَنيفٌ لِرجلٍ عَجوزٍ.

فنَظرَ إِلى كَوبِه نصفِ الفارغِ وابتسمَ، سُرعانَ مَا انقلبَ لَونُ الشَّرابِ إِلى الأحمرِ القَانِي، لِيكملَ شُربهُ بَعدَ أَن زَادتْ ابتسامَتُهُ اتساعاً.


يتبع...
______________________________

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الفصل الأول للرواية الأولی .. أتمنی أن ينال إعجابكم🌸

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top