فَراغُ رُغمَ الإمتـلاءِ.
اللّيلُ البربرِي هو ذلكَ اللّيلُ الذي يبدُو كالثورِ الجامحِ ، يُلاحِقُ هشيمَ الأفكارِ لُيحِيــــلَهـــا إلى براثنَ مُقذعةٍ ، وسُموم لاذعة تجول هُنــا وهُناكَ ولانجمةً تؤدِي دور الإسبرينَ فِي سماء يكسوهَا الغُبـــار ، لَقــد أدمنَتْ الخُلوة في صومــعتِها المتأرِجحةِ وجرفتَها سيول التشاؤمِ إلى مستنقعٍ خلّاقٍ آخر ، فَغــدا كُل شيءٍ أمامَ عينينها الشاحبَتينِ كــقاربٍ خشبِي عفنٍ مدفونٌ فِي بطن الرمالِ الصفــــــــــراءِ .
أطلقَتْ ضحكةً مائِعةً تتجذرُهــا أماراتُ الإستهــتارِ ولؤلؤَتيــها يُحملقانِ بالجُــموعِ المرفوضةِ التــي تَجرهُا عنوديةُ القدرِ وشموخِ أنوفِ الألمانِ ، فهــا هي الحُجرة الميــتة تَغدو شبه فــارغةٌ وعقاربُ الســاعةِ تضربُ على جُدرانها صــدى غزيراً وكأنه وقعُ أغنيــةِ مشمورةٍ كآبيةٍ ، والغُيــوم المتعانقةُ تُمطرَ على الرؤوس العارية وابلاً من الحُزن المُنطفئ ، يا تُرى لو لَم ننحشر في تلك القوارب المهترئةِ أكُنّا نعيش مُعززينَ وعلى جَماجمنا التاج والكرامةُ ؟
ذكريــاتنا تذوب ...
تذوب مع معزوفات الألمان الباهِتةِ وذكريات الطفولةِ الآسِنةِ .
تذوب مع كُل كفٍ أعمى يُطبع على الوجنتيــنِ ، ونبرة غليظةٌ يُرددّها المُترجمُ الشاحِبُ :
" أنتَ مرفوض ! "
حِينــها حفلُ تأبينٍ وقصيدةُ رثاء بقادرةٍ على الإيحاءِ لوصــفَ مكنوناتِ الشخصِ المرفوضَ ، القادم من بلاد ماوراء الشمسِ ، الباغِي الحياة والرفاهية والجنسية الألمانية التي تبدو كالحلم البرتقالي .
كـانَ دفترهُا المطموسِ تحتَ المخدةِ القُطنيةٍ يأنَّ أنيناً خافتاً تذروهُ عواصفٌ شتــى ... وذكــرى عابرة متعلقةُ بردنــهِ ، حين كانتْ صاحبتهُ تــدونَ الكلــمات الحيةٍ على أحرّ من الجمر وكأنها هائِمةٌ في بلاد العجائِب وحكايات ألف ليلةٍ وليلةٍ ، كــل ذلك كان قُمامة من الماضي ، فاليوم بدا وكأنه قِطعة من ماضي خَليــع أو حفنة من رمادٍ أســودٍ يتطاير مُحتوياً الهواء والســماء الإرجوانيــةِ ، وخيُّلَ لــهاَ أنّ دفترها العتيقَ كان يُناجيهــا كاسِراً نواميس الجمــاد والخُرافةِ .
لقــد كان يهمـــسُ :
" أين أنتِ يا ناديــنَ ؟ هيــا فالتَكتبيني ! "
وجســدها كانَ خاذِلا لنوازعــها مُلتصقا بالأرض التي تُشبه الزمهريــر ، قِــواها خائِرة متكاسلة لدرجة الجُــنون ! ، هجــرتْ قلمــها القانِي وتثاقلتْ الأفكــار السمينة على رأســها الذي يُشبــه القُطن المتشابك والآن هِي هاويةٌ فــي جــزيرة بعيــدة وقلعة مُنسلخةٌ ... قلعةٌ تُدعى الموت البطيء !
ثــم رويداً رويداً ذابتْ ثورتــها وغمغتْ بصوتٍ يُشبه الفحيح :
" أمـــي سَتُسامحنــي ، ستدرك أني أنثى تعصفُهــا المؤثرات وتوقعها المؤامرات في حُفرٍ سُفلــى ، بإمكــان مُجتمعي أن يتناسى أني خذلته وبعته للحروب والضنك ، أما هــو .... فهـل ينساني ؟؟ "
وهَطلتْ الدُمــوع كالشلال الزلالِ تصبغ خديّها الشهييـنِ بلمعــةٍ مائِيــةٍ ، خُيّل لــها أنّ الحُــزن لن ينقشــعْ وتلك المحادثات ستتأجلُ وترمي برأســها عــلى شراشفِ الأيام والشُهــور ، والأهل سينسوهــا والمارشيملــو الخــاص بــها سيستبدُلــها بأنثى أخرى ، لــو حدثَ هذا فتشمرُ بجسدها من علــى هذا السطــحِ الرمادي وتشنــقُ مُخيلتــها العذراء بحبلٍ شائِك " ولكني خائِنة !! ، خائِنــة لثقة أهلــي وإطراء جيرانـي ، خائِنـة لذلك العاشِق الذي يقفُ على ركبتيــه ويرفع ورد الجــوري وفــي عينيه يبدو كُل شيء صادقــاً ومتفجراً كالينبــوع المتــرامي !! "
أخذتْ تُجيــل النظر في الحيطان الملطخة بالدُجــى وإلى النوافذ المُعتمة التي تجذب الســواد وتجرُّ الغُيــوم المُتلبدةّ فبــدا لــها أنّ السُفن تتهالكُ وبلدتـها تغــرق في أديم النجوم الــتي ترقبها من فوق السماوات !
أخذتْ تصرخ وتهذي كالمجنــونة الثُكلــى بعد أن عصفتْ الأفكار الإبليسية بدماغها المكدود :
" أنا خائــنة !! خائــنة يــا ألمانيا الوفـاء ! يــا نديــم الحُب لقــد سحقتْ ولهَــكَ ورميتُ عشقك في خضم البحر اللاذع "
وإحتشـد الناس والمتطفلـون فـي الحُجرة الكالِحة وهم فاتِحــين أهدابهــم يَرمقون هذه الفاتنــة التي تتحسرُ على ذكرى واحــدة أحترقتْ كما أحترقتْ تلابيب شبابها الصارخ ، وإندفع بعض أولي المروءة يحاولــون تهدأتــها دون جدوى وأخذوا يفركون عيونهم الغاطسة في النُعاس وهم يُبصرون سيدة أربعينيــة تشقُّ الصفوف المتجمهرة وتسحب يــد نادين وتغادر الجلبة والضوضاء وتُغلــق الباب بوجــه الغرفة التي تضجُّ بالقيل والقال والعيون المفتوحة على مصراعيهــا .
وأخــذ البشرُ يتمايلون ويتهامسون :
" إلى اين أخذتهــا ؟؟ "
" مــن تــكون ؟؟ "
ولــكن القدرَ بصقَ في تساؤلاتهم الجــّادة حيــن إنفتح الباب وبرز منــه وجهُ الحــارسِ المُحتقنِ وشرارة الغضب تتطاير من تقاسيمه كما يتطاير الرمــاد :
"عـودوا إلى مضاجعكم أيتها الحثــالة ! "
وتتحرك الرؤوسُ الحليقــة وتتخبطُّ في المكان كما يفعل الدجــاج ويعود كُلُّ الى جُحــره المتأكـل وتنطبقُ العيــون وتبقى عينــا نادين الجوهريتان تصرخــان ألمــاً وتعاسـة وتسيل من مخهــا ذكريات متطاولة الألسنِ تقِف حائِلاً أمامهــا وأمام وجه حبيبهـا المغدور ، ذلك الملاك الذي إستيقظ في فجر أحد الأيام ليــقول لــه أحد المجانين :
" لقــد أختفتْ ناديــن "
تُــرى مالذي فعــله في تلك اللحظة الخجِلة ؟
هــل هوى على رأسِ الذي يقف بخنوع أمامه ؟
أم ذرف دمعــة الرحيل ؟
هــل ركَل حُبــه المطموس وقرر النسيان ؟
أم إنــه يُفكر فيــها آناء الليل وأطراف النهــار ؟
وأخذتْ تبكي فــي ذاتها دون إهدار الدموع وقامتْ من فراشها الغريب وقرنيتها تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ،" ما هذا المكــان ؟ إني أشمُّ رائحــة لذيذة ! "
ورفعتْ بمقدمة رأســها ليقع بصرها المشوش على قدر ينبعث منه دُخــان شهي ، ولم تكن بقادرة على التحكم بأطرافها الغضة التي هرولتْ نــحو القدرِ وآثرتْ أن تنكبّ عليه وتلتهمه إلتهاماً عارياً من كل ذوق ولبــاقة لكــن صوتاً آنيّاً قد عرقل عليــها مآثرهـا ، فحانتْ منها إلتفاتة لتلتقي بإمرأة كهلةٍ لايخلو وجهها البدين من وسامة خجولة ، إقتربتْ منها بخفية وأردفتْ بتؤدةٍ :
" هـل تُريدين طبقـــاً من هذا الحســاءِ ؟ "
أومأتْ برأســها ثم صدر منه بضع شهقات حتى قالت :
" أوتدرين أني تائهة ! لا أعلــم مامصيري المكبوت في ظل هذا الشجرة اليابسة "
إرتسم على وجه السيدة الغريب شبه إبتسامةٍ وغمغمتْ في لهجة غارقة بالهدوء :
" كُــل شيء سيكون على مايرام ، الحروب تبدأ وتنتهي والمطر يهطل وينقطع والجدب يحل ويرحل ... ولابد للضياع من نهــاية بحتة "
كــانتْ حنجرتها ملتهبة وصراخها قد أذاب نبرتها المعتادة الرقراقة لـذا لاذت بالصمت المقذع بيــنما بقيتْ أفكارها ذليلة شاحبـة أشبه بالحديد المتصدأ تزفر فتتآكل طبقة الأوكسيد على سطحه المحمر ولم تكن واعية تماماً حين مدتْ السيدة يدها المنتفخة وصافحتها وهي تتنهد وتقول :
" ليلان ... تشرفتْ بكِ "
وغفتْ هي الأخرى في نومــة طويلة الأمــد وسحابٌ أسود يُخيّم على سنينها العشرين الدائبة فــي جسدها الطفولي الطري ، وأحلام تشوبها الحقيقة وأقلام جافة مرمية على دفتر الذكريات ... ونديم ... الطيف الذي يزورها في اليقظة هو الاخر مدفون روحاً وحيٌّ جسداً يفكــر في سكناتها الزائلة ونبرتــها المحجوبة ، تُر هل ماتتْ أم لازالتْ تتنفس ؟
ويقطع عليه جلسته المقدسّة صوتــها النــدّي المنصرم وهو يقول في نغمة تشبه الأغنية السماوية :
" نديم ، هل أنتَ مُشتاق إليَّ ؟ "
وتضحــــــك .
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top