ذوبَــانُ المَـارْشِمِلُـو.

...

هَتَكتْ خيوط الشمسِ المُلتهبةِ نَوافِذ المبنَى العِملاقِ ودقّت عقاربُ الساعةِ الجوفاءِ مُعلنةً تنفُسُ الصباحِ وإختلاقَ النَهارِ لتبدأَ مع أولىِ تثاؤباتِ الورى يومٌ عسيرٌ آخر وأفكارٌ تُزمجرُ في عُقولهم المكدودةِ ، يبدأُ الجِفنانُ بالنِزوحِ لتحِيا البُؤبؤتانِ الغاطِستانِ في السوادِ ، رُغمَ إنها الساعةُ السابعةُ صباحاً إلاّ أنّ أصواتَ الجلبةِ المُزعجةِ مافتأتْ تُغادر مسامِعها .

رَمتْ بالشرشفِ وتحاملَتْ على نفسهَا كَي تنهضَ ، ثُم أخذتْ تتفرسُ في وجوهِ النسوةِ العبوسِ ، لشدَّ ماتكرههنَّ ! وتكرهُ ثرثراتِهنّ السقيمةِ وصرخاتُ أطفالهنّ المُلتاعةِ ورائحةُ حِفاظِهم المُنفّر ، بَل إنّ هذه الغُرفةِ الكآبيةِ تُشبه مزرعةً للحيواناتِ ! ، الطعامُ مُلقى على الأرضِ والشمسَ تكادُ تختفِي وراء الستائِرِ المُغلقةِ وبعضَ الجثث لازالتْ هائِمة في النومِ والوجومَ يطفو على ثغرها الفتيّ كطوفانِ القاربِ على البحــــــرِ الأزرق ، حياةٌ بطعمِ العُلقمِ المُرِ ! لاشيءَ سِوى الذُباب والبعوضِ المُزعجِ الذانّ يُدغدغانِ مساماتِ البشرةِ السمراءِ .

تمتمتْ مع ذاتِها بِعنجهيةٍ :

" ملجــأٌ كلونِ الدُخان الذي يتقيأهُ ، لوثّهُ هؤلاء الصعالِيك ! "

وطوقَتْ أذنيهَا وهِي تغادر هذا الجَحيم الذي تقَطنهُ منذ شهَرانِ ، هِي حتى لاتعلمُ كم من الوقتِ العقيمِ سيمضِي حتى تحصُلَ على موافقةٍ للإقامةِ فِي هذه الرقعةِ المشئومةِ من العالم ؟ ، هِي تعلمُ فقط أنها مُجبرةٌ على الرضوخِ لهذا الوضعِ المُزري إلى أمدٍ غيرِ معلومٍ وخاصةً أنّ الإجراءاتِ مُشددّةٌ وأنَ 90% من الإشخاصِ يُرفَضونَ لأسبابِ واهنةٍ ، غَمغمتْ والحيرةُ تتلقفُ أخاديجَ وجهها :

" اللهُ المعين ! "

وغيّرت خُطاها نَحو الحُجرةُ المجاورةُ حيثُ يوزّع الطعامُ اللاذعُ يومياً وحيث يصطفُ الخلقُ وأعوادهم المهزوزةُ تٌنذر عن كارثةٍ صحيةٍ ، وحيثُ ملامحهمُ كالِحةٌ واجمةٌ لا أثرَ للحياةَ فِيها ، فحشرتْ جسدهَا في أكوامُ الناسِ كَي تنتظِرَ دورها ورغم أنّ الطعامَ هو نفسهُ كومةٌ من النفاياتِ التي لاتُستساغُ ، لكنهَا مُجبرةٌ على تكديسه في فمها كي تبقى على قيدِ الحياة وتضيفَ الى معدتها الهزيلةَ بعض الطاقَة الواقِية للإغماءِ الدورِي .

شَعرتْ بنظراتٍ شرسةً تَحدجُها فحانتْ منها إلتفاتَةٌ لِيقع بصرهَا على مجموعةٍ من الصَبيةِ يُغنونَ بصوتٍ أجشٍ يفتقرُ الى غير شيءٍ غير قليلٍ من اللباقةِ والموهبةٍ :

" صباحُ الخيرَ ألمانيـــا ...

صباحُ الخيرِ يا جوهَرةَ أوربـــــــا

يــــا فيروزةَ البُلــــدانِ

وشمعَـــة الضِياعِ والخِذلانِ

أمــا آنَ الآوانُ ؟

كَي نَقطنَ فِيـــــكِ

أبدَ الأزمــــانِ ؟ "

...

وتبتسمُ رُغمَ الألمِ العسيرِ على هذه الأحلام الساكنةُ فوق القمم الوردية أو بالأحرى قِمم الأوهامِ ، إنهم يُغنون هذه الأهازيجِ كُل يوم بخضوعٍ وإنكسارٍ كَي يلمحوا عطفاً أو شفقةً تقودهمُ الى شاطئِ الأمانِ حيثُ الجنسيةُ الألمانية وحيثُ حائِطُ برليــــن يتنحنحُ في ميوعةٍ وإنتظارٍ ، يَهزأُ من ناقصِي العقل أصحابَ الأوطانِ المكسورةِ وأولاد الحُروب الشاردينَ ... المنسلخونَ من بِقعتهم الخضراءِ ، الذين ألقوا أجسادهم عنوةً على أرض ألمانيا الرماديةِ وأفسدوها بقمامتهم .

لَطالما كانتْ هواجِسُها تعبثُ بالنيرانِ وتتوقدّ في صومعةِ فؤادهَا الكَسير ، إنّ أحلامهَا ممُثلةٌ بالضبابِ ونوازعٌ داخليةٌ تراودها بين حينٍ وآخرَ ، فلا أمانٍ ولا إستقرار ولاحب !

خُيّل لَها في كثيرٍ من الأوقاتِ أنّ السعادة تُقلّم أظافِرها عند شباكِ السًخريةِ وتأبى من الولوج إلى روحها التي تتلوى آسًى ، هِي تُدرك أنها أرتكبتْ غلطة حين رمتْ أهلها وذكرياتها ووطنها وسافَرتْ الى ماوراء الشمس كَي تلعقَ ماتُسميه الحُرية والرفاهية وغيرها من الخزعبلات المسمومة التي تجرعتَها من الكتب والمجلاتِ السافِرةِ ، " ألأجلِ هذه الحياة غامرتُ بحياتي الغالية ؟ كُل ساعاتِ الأرقِ والتفكِيـــــر اللامحدود تمضّخ عَنها في نِهاية المطافِ رمادٌ ودفتر ذكريات أدونُ فيها مشاعِرَ متشقلبةٌ لاتعرفُ للإطمئنانِ معنى ، أينَ أنتِ يا بلدتي الهادئةِ ذاتُ أعوادِ النخيل الباسقةِ ؟ " وتزحلَقتْ دمعةٌ حارةٌ على خدّها المتورد ودفعتها شُحناتُ الإشتياقِ إلى مُغادرةِ طابور الطعام والنقم والحنق على هذه الظروفِ الشائِكة ذات الاشواكِ المُنخرّة ... وما هِي بِضعُ مِشياتٍ خطتَها حتى سمعت صوتاً من خلفَها ينادِي بإسمهَا :

" آنسة نادين ؟ "

أدارتْ بِرأسها الذي يُشبه قِطعة السكر لِتُبصر رجلاً ثلاثينياً مُرتب الهِندامِ وأحمرَ الوجهِ يرتدي بدلةً سوداء أنيقة كتلك التي تلامس أجساد الســــّادةِ ، ولايزال البُرود مٌتعلقٌ بأهدابها ونظراتُ اللامبالاةِ مُنبثقةٌ من بين قرنيتهَا بينما إستطرد هو قائلاً :

" حـــان وقت المقابلـــةِ ، إنهم يُريدونــكِ في الغُرفـــة الثالـــثةِ في الطـــابقِ السُفلـــي ، كُــوني هنالكَ على الموعدِ وإلّا صُعِقتِ بالرفضِ الصارِم "

قَالَها بسرعةٍ رتيبةٍ وكأنه حفظَ هذه الجملة عن ظهر قلبٍ لكثرة تكرارهاَ وإنجلى ظِلّه بعد فترةٍ وجيزةٍ وتابعَتْ نـادين خُطاها البُرونزية على أرضِ الغُربة القاحِلة دون تَغيير في تقاسيمهَا أو نورٍ يبثُّ في عروقها ، فَهِي تَعلم أنّها المقابلةُ الثــانية التّي تأجلَتْ منذ شهــرانِ وإحتمالٌ شيطانِي آخرُ يَقول بأنّها ستتأجلُ من جديدٍ وسيتعاوُد السُهاد وأشباح الدُجى في لياليِ ديسمبر البــاردةِ ذاتِ القمر المتألقِ المُخيف وذات نبراتَ الشخيــر وضجيج الصِغار الدامِي .

فَتحتْ دفترهَا بتؤدةٍ مخافةَ أن يتمزقَ ، وراحتْ تخطُ بحبرها الأسود كلماتٍ تُسابق الثوانِي وهي مندمجةٍ في خضمِ المشاعِر الحمراء والأحاسيس الجيــاشةِ :

" مفكــرتي العزيزة ...

كُل مرةٍ كُنتُ أعود فيها من المدرسة كُــنت أسألُ أمِي الحَنون عن مَعنــى الحُبِ ؟ ، هَل هو صولجــان يُتوّج بِه أثنِين من العَشاقِ ؟ أم ولهٌ أعمى ببقعةٍ من وطنٍ باكِي ؟ أم إعجاب ببمثلٍ أو عارضة أزياء تظهر على غلافِ المجلةِ الناصعةِ البياضِ ... وكانتْ أمِي تُجيبني فِي كُل مرة بجملةٍ عجزتْ مُخيلتي الركيكة من فك طلاسمِها ؟

" الحُــب هو الذِكرى الخــافتة التي تتلألأ وأنتِ على سفيِنة القُبطانِ ..."

وغالباً ماكنتُ أقِفُ بوجهها وأنا أحاول فهم من هو القبطان ؟ وأيُّ سفينةٍ تلك التي ستدخلُ حياتي بَغتةً ؟

وكــانتْ علامة الإستفهام تنتصبُ بقامةٍ حائِرةٍ في آخرِ كُلِ إستفهام عويص .

إلى هذه اللحظة التِي عرفتُ فِيها أنّ ذكرايَ حافيةُ القدمية تتأرجحُ في تلك السفينة العاجيةِ لتقذفَ بأسمى علامات الحُب " الشوق " ! فلايزال قلبي رغم طعناته يحوقل ويستغفر وفي عضلاتهِ الداكنة يُحفرُ حُبي الأعظم ، الله وأمي وأبي ثُم هُو ... مـلاكِي الهادئ البشوشَ ذو الإبتسامة التي تأخذ بشِغاف قَلبي وهدوئهُ المُبالغ وغموضه اللذيذ .

كُفِي عن الهراءِ يا مفكرتِي فأنا تائِهةٌ !

إلى اللقاءِ "

...

أقفلتْ الدفتر والدمعــةُ متعلقةٌ بين أهدابها تأبى الإنزلاقَ ، وأمواجٌ عاتيةٌ ترتطمُ بغشائها السحائي لتصنع منهُ رُكاماً مافوقه رُكام ، ويعود ذلك الصوت مُخرّب اللحظات ليُردف بصوته الأجش :

" إلى الغرفة فالمقابلة بدأت آنسة نادين "

وتُزمجِر نادين في خفاءٍ وتتجهُ نحو لعنة تلك الغرفة التي ماخرج منها شخصٌ إلا وهو يبكِي ، وكما كانْ حدسهُا يهذِي بتأجيل المحادثة فقد حصل الأمر وعادتْ تجرُّ أجيال الخيبةِ وفي داخلها ألفُ وجعٍ ، لكنَ وجعاً واحداً كان يجوسُ في حقولِ روحــها ويقتلع سنبلاتِ أملــها ويحوم حول مخيلتها كما تفعل جنيات النـــوم .

لقد كــان المارشيملو الخــاص بها يهتف :

" ألم تشتاقِي إليّ ؟ " 


...

بــارت جــديد ؟؟

15 فــوت و5 كومنت وأنـزل فصل جديد .

لوف يــو 🍩

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top