دُميـَـةُ تــائِهةٌ.

1.

...

بـــاردة هِي مَناجمُ الفحمِ ونيرانُ الحطبِ ... الصِراط يوشبهُ الضباب ويضجُّ بحركات الناس الجاثِمةِ ... لن تَجِد مكاناً كآبياً كهذا المكانِ السحيق !

تَنهّدتْ وألقتْ بجسدهَا على الأرضِ حافِيةً القدمِين وخاوية البطنِ ، كان الصُداع يأكل برمِيمها كما تأكل النارُ الحطبُ ... لكن مافائدةُ هذا ؟ ، الصقيع كما هُو وأبراجُ الموت قائِمةٌ في هاوِيتها المعتِمة تُبصرها بعِين تتطايرُ منها شُرر الحِقد ، وقفتْ لهُنيهةٍ وجذبتْ نفساً من سلطانِ الهواءِ وصرّحتْ في ذاتِها المهزوزة تصريِحاً :

" الجَو يبدو كالمقابِرِ ، وضجيج الخلقِ يطنُ في أذني طنين الذُبابِ ، الغُيوم مُلتصقةٌ في هذه الرقعة الملعونةِ ... نعم أنا أكرهُ ألمانيا ككرهِي للشيطانِ "

ثُم هزتْ جسدها وهي تحاول التَحاملُ على كعبيهَا المُتشققيِن وسارتْ نَحو الجُموع الثائِرة ... نحو المجهول الذي يُلاحِقها كالظِل الخبيث ، إنهُ العذابُ بعينهِ ! ، كيفُ يعِيش تسعونَ شخصاً في حُجرةٍ واحدةٍ كالكهفِ الأدهم ؟ هُم ليسوا حيواناتْ أليفةٍ كي يتآلفوا ، هُم بشر والبشرُ كائِناتٌ غريبةٌ ، مشاعرٌ متناقضةٌ وسحناتٌ متقالبة ، هم كالأمواج التي تتلاطم في خضمِ البحار الهائِجةِ ... أين ذلك الشاطئ الفسيح ؟

أينْ مخبزُ الحارةِ الذي ينبعثُ منه رائحةُ الخُبز صبيحَة كل يومٍ؟، أينَ السينما الحمراء ذاتُ الستائِر الأخّاذة ؟ وأينَ مبانِي بلدتهَا الشاخِصة التي تتلّثمُ في وسط خرائط الجغرافيا ؟

هطلتْ دمعةٌ مُخضلةٌ بالندم على وجنتِيها الساحرتِينِ وغمغمتْ في آسى خاطف :

" إشتقتْ ! "

لَكم كانتْ الكلمات تحتضرُ في بلعومها اليابِسِ ؟ ، إنهُ شيءٌ أكبرُ من الإفصاحِ ، الشوقُ بمثابةِ الرايةِ التي تُعلن إستسلامنا الأخير، إنها تُعبرّ عن الضعف البشرِي وقدرته على الإنسلاخ من القشرةِ ... من سطوح الثمارِ اللّينةِ ... الإنسلاخ من الوطن !

وقفَتْ لِتُطالع الزِحام وبصرهَا مشوش تتمازِج فيه الرؤوس والاقدام والأجسادْ ... تفركهُ بُرهةً فيعود الى ضجيجِهِ مرة آخرى ! ، حشرتْ نفسَها وسط الجُموع الصاخِبةِ كي تصلَ الى شُرفةً تُهديها باقة من الأوكسجين النقِي ... تدفعُ فيحتكُ جسدُها بعشراتِ الأكتاف ويكاد يدوس أحدهم على قدمها فلا تَكادُ تشعرُ بألمٍ يُذكرُ ... كُل غايتَها هو الخوض في ضِمارٍ مجهولةٍ وفروع شفافةً ... لاشيء واضح !

انتصَبتْ لوهلةٍ وهِي تُحملِقُ في المنظِر الفاتن الذي يتمايلُ مع نسمات الرِيح الخجِلةِ أمامها ... لكنْ ألوان هذه اللوحةِ باهتةٍ وكأنّ الفنان كان يبكِي حين رسمها أو أنّ موجةً عاتية من الأمطار قد عانقتْ سطحها المطلِي بالفرش الزيتيةِ ، حتى الأوكسجين كانْ يُخالط كيانها بِكسلٍ مُبهمٍ ، بلا حيويةٍ ونشاطٍ يَروي الظمأ للحياة .

دقّ قلبُها ... رفعتْ ذِراعها النحِيلة لِتلامس أناملها الغضّة بشرتها الصافية كاللؤلؤِ ، ثم نَزلتْ رُموشهَا هي الأخرى في تماسٍ مع هالاتها السوداء وأطبقتْ اللؤلؤتينِ على ذاتها وأمستْ مغمضةَ الجفنينِ يلطمها الشحوب لطمةً فاترةً ويمرمرهاَ في متاهةً ، كُل شيء تستطيع الروح الإنسانية من التمردِ عليها عدا أن تكون ضائعة بلا وِجهةٍ أو هدفٍ في أرضٍ غريبة منكدسةٌ في قاربٍ من الغُرباء واللكناتِ المُريبة ، حانتْ منها إلتفافةٌ لِترى الأسمر والأبيض والاشقر والرمادِي وقارنتهَم بنفسها المروية في المرآةِ ... لاتطابق ! ، هِي نقطة بيضاء في صفحة غارقة بالحبر الأسود وهُم كقناديل البحر الغاطِسةِ ... هذا بعيد !؟ كبعدها عن أهلها ووطنها ، وكبعدها عنْ المعقول والوعي .

" لِمَ نحنُ بعيدون ؟ بعيدون عن كل شيء ؟ "

هكذا نطقتْ شفتاها قبل أنْ تهوي على الأرضِ كجثةٍ هامدةٍ أكلتها السنين العِجاف الطويلةِ .

بينما كانْ خِلدها يستمر في السؤال والسؤال ...

فعلاً ! ، لمَ كُل هذا البُعدُ اللامحدود ؟ ، أمي في بلد ، أبي في بلد ، أنا في هذا المستنقع ؟ ، بعيدة عن التقاليد والأعراف والدينِ ، متعاشرة مع الرجال والنساء ، الأفضلون والأرذلون ... وأنا مابين هذا وهذا خط مستقيم لاتجد الزاوية فيه إطمئناناً !

مـــــاكانْ عليها أن تستجيب لمطالب القوارب ونداء الأمواج الكاذبةِ ، ورغم أنها محظوظةٌ بالنجاةِ إلا أنه مابعد هذه النعمة نُقمة كَبيرة ، ألا وهو الضياع الأبدي والشرود العابر .

سألوها يوماً :

" ألم تخافِي من أصوات الرعيد والبحر المتخبط ؟ "

ضحِكتْ ، وهي تُملي القولَ في ميوعةٍ واستهتار :

" أخافُ ؟ ، سلونِي ألم أكنْ أرتعبْ من القنابلِ ودوي الطائِراتِ ؟ سِلوني ألم أخَفْ يوماً من الجماجم والجثث والدماء ؟ أو البنايات النائِمةَ على رُكام الأرواح ؟ ، البحرُ شيء تافهٌ قياساً بالذي عِشتهُ ! "

وتبتسمُ بمرارةٍ موهمةً البشرَ المتناثِر بأنها من حديدٍ ، بالرغم من أنها مصهورةٌ وتتلّظى ألماً وانكسار ، ماهو إلا تمثيل سقيم وأوهام تعيشُ على الأوكسجين الإصطناعي !

وتَرفع هامتهَا لتبدو كالملكة ثم تعود الى جحر أفكارها ودموعهاَ اللاذعةِ كالحامضِ المُتأكسِدْ ، والندم يلتهم أطراف أصابعها لتغدو مبتورة هائِمة في بحرٍ مالح كذلك البحر الذي عَبَرتهُ وعبرت به الى الجزيرة التي حلمت بها ... ألمانيا !

ألمانيا الحياةَ وألمانيا الموت ، رَقصاتُ الذبولِ وميونيخ مرمى الهدف ، أشجارٌ عاريةٌ وصفحاتٌ مسطورةٌ بدهانِ الفراغِ ، فَرانكفورتْ الميتةّ وألحانُ الغربة تبدو ماثلة هُنا وهناك .

تلك هِي ألمانيا الحُب .

والزهور الحمراء على طاولة تجمع بين إثنين ، وسط أناس غُرباءٍ وقوارب مُحطّمةٌ مَرمية على ذاكرة النسيان ...

هُم حياة ونحن حياة .

عَربٌ نحنُ وغربٌ هُم !

نحنُ قُلوبنا تنبضُ مشاعِر وهم قُلوبهم تنبض أعواد كبريت ، يستعدون لإشعال الشمعة بينما نأتي نحن لنُطفأها لننام في ديجورٍ مُستبد يخطف شغاف القُلوب .

" إرحميني يا برليـــن"

قالتهاَ بلهجةٍ باكيةٍ وإرتمتْ بين أحضانِ المخدة المتشربة بما يكفي من الدموع ومازالت الضجة تضجُ والهواء يهب والمشاكل تتمشكل !

وخيالاتها هِي الأخرى تمشي بتبخترٍ مُصّعرة خدّها تُضفي الى قهوتها المزيد من الملح ... فهاهيّ الصُور الموحلةِ تُعرض شيئاً فشيئاً ، لوحةٌ خلّاقةٌ لمنزلها القديم وأهلها ثُم لوحةٌ أبتْ من التعرض لنوامِيس النسيان ، صُورته المتوهجةِ التي لاتزال تشِعُ أملاً رُغم إعلان اليأس الحلقة الأخيرة ... ، تتجنّح هذه الصُورة لِتُحلق الى السماء ِ فوق أسطح المحيطاتِ المموجّة بالسواد ... تفكرُ مع ذاتهَا :

" أصحيحُ ماقالوا أنّ الأزرق لون مشؤوم ؟ لأنه لون البحرِ والبحر يعني الفراقْ ؟ ومابعد الفِراق إبرٌ مسننةٌ تلكزُ العِظام ؟ "

أينَ أنتَ يا روميو زمانِي ؟ فأنا هُنا في الحضيض .

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top