١.٥\٧

١.٥

حينما رسَت السّيارة في ما بدا كمرأبٍ خشبيٍّ هشٍّ، بجانب المنزل الجبليّ، سارع جيمين بفتح الباب والوثب خارجًا، مباعدًا بين ذراعيه ومتابعًا الهرولةَ بعينين محكمتي الإغلاق، مطلقًا أصواتًا عشوائيةً عبّرت، كما اِفترض جونغكوك، عن مسرّته، إلى أن صادف جذع شجرةٍ أجبره على التّوقف.

كان قد ترك باب السّيارة مفتوحًا على مصرعيه، سامحًا لبصر جونغكوك بإلتقاط لمحةٍ عن المكان.
تمرّدت الخضرة على كل ّشيءٍ، بدءًا بالأرض واِنتهاءً بالجدران الخارجيّة للمنزل، وبالرّغم من حرارة الصّيف، لم يلتقط نظره سوى ما قد ذكّره بالرّبيع الأبلجِ.

لم يشعر بمضيّ الوقت، وإسهابه في التأمّل، سوى حين سمع صوت إصطدام باب السّيارة الأمامي بالهيكلِ، منبئًا بخروج هوسوك.

عند اِلتفاته، توقّع أن يرى صورةً ضجرةً سئِمةٍ من تايهيونغ، غير أنّه قد اُستُقبل بأخرى هادئةً.
كان متّكئًا على المقعد، منكسًا رأسه نحو الخلف مغلقًا عينيه.

شعر جونغكوك بدفءٍ يضغط على صدره، دفءٌ أغيدُ لكنّ وقعه قد خلّف ألمًا لا يكاد يُستشعر بين أضلاعه.
خُيّل له أنّه قد عاد بالزّمن، إلى حين كان لا يزال مؤمنًا أنّ تايهيونغ بمثل عمره، وأنّه من غير الواجب عليه إلحاق لقبِ التفوّق العمريّ بإسمه.
لم يكن يرَ المعنى الحقيقيّ للقب بعد، ما عادَ بتخلّيه عنه، وتُبع الأمر بتخلّي الجميعِ عنه طالما أنَّ لا غريبَ يتوسّطهم.

كان تايهيونغ، حينما اِعتادا على الذّهاب رفقة إحدى العائلتين في رحلةٍ، يغطّ في النّوم قبل الوصول إلى المحطّة المنشودة بدقائق.
تساءل جونغكوك حينها، تساءل طويلاً، عن سبب تفضيل الأكبر للنّوم في الجزء الأخير من الرّحلة، بينما يُفترض به أن يكون مستيقظًا آنها.
لكنّه لم يجد أيّ إجابةٍ.. خمّن أنّ كون تايهيونغ، تايهيونغ هو الإجابة.

وقد وجد جونغكوك نفسه يتمنّى، ألاّ تكون الأيام القليلة السّالفة كفيلة بتغيير ما كان تايهيونغ عليه.

توارى لسمعه صوتُ نداءِ هوسوك، الذي قد كان موشكًا على فتح باب المنزل بالفعل، ليزمّ شفتيه ويرفع يده موجّهًا إيّاها نحو كتف الأكبر.
هزّه بخفةٍ، وأمل بصمتٍ ألاّ يبدي الأكبر ردّةٍ فعلٍ مباشرةٍ.. تمنّى أن يضطرّ لوكزه وهزّه مجدّدًا، مناداته مرارًا وتكرارًا ليستيقظ من غفوته، لأنّ ذلك سيعني الكثير للأصغر، سيعني له ما لن يتبيّنه أحدٌ.

لكنّ تايهيونغ قد فتح عينيه ما إن حطّت يد جونغكوك على كتفه.
وحارب الأخير النَّفس الثّقيل العالق بين جدران حنجرته.. محاولاً عدم إصدار أيّ تنهيدةٍ.

ترجّل أولاً، ولمح مكانًا شاغرًا في المرأب، خمّن أنّه قد يكون كافيًا لحجم سيّارة نامجون رباعيّة الدّفع.
"أتساءل إن كان نامجون والرّفاق بخير." متجهًا نحو الباب قال، في محاولةٍ لرسم النّقطة الأولى لمحادثةٍ قد تدور بينهما.
لم يُرد أن يعترف، لكنّه قد كان بائسًا متأمّلاً أن يبادله تايهيونغ إجابةً، مهما بلغت بساطتها، ففي نهاية المطاف، لم يعتد بعد على هدوء صديقه، ليس هذا النّوع من الهدوء.

لم تمض ثوانٍ طويلة، قبل أن يشعر بيدٍ على كتفه، ويرى شبح اِبتسامةٍ على شفتيّ تايهيونغ.
وقد كان ذلك كافيًا.

بعد ولوجهما المنزل، لاحت عينا جونغكوك حول تفاصيله بعشوائيةٍ، على عكسِ أصدقائه الثّلاثة. فقد كان أحدهم مالكه، ولم يتوانى الخمسةُ الباقون عن الزّيارة بين الفينة والأخرى.

"لا أصدّق أنّني لم آتِ من قبل." قال ولم يلبث أن يفغر فاه في إعجابٍ.
بالرّغم من الحجم العاديّ للمنزل، والتّصميم المتواضع، لم يفشل الهيكل الخشبيّ في جذب نظره.. كانت الأرضية، الأعمدة، السّقف، وكلّ ما حطّ عليه بصره خشبًا داكنًا لا يوحي سوى بالجودة، و مهما حاول إغلاق فمه، كان فكّه يجد طريقه نحو الأسفل.

حينما عاد لوعيه، لمح جسد تايهيونغ المستلقي بإنهاكٍ على الأريكةِ في المساحة المقابلة للمطبخ.. لذا اِستنتج أنّ المطبخ متصلٌ بغرفة المعيشة، وقد راق له ذلك.

"جونغكوك، هلاّ أخذت المفاتيح وأغلقت أبواب السّيارة؟ سوف أعدّ بعض العجّةِ، كنتُ لِأطلب ذلك من جيمين، لكنّه في الحمّام." لم يواجه جونغكوك صعوبةً في إبصار الأكبر من محلّه في غرفة المعيشة، وهو يحاول حشر رأسه في الثّلاجة بحثًا عن ما قد لا يوجد في المقام الأول.

بإيماءةٍ خفيفةٍ أخذ المفتاح بين أصابعه. "بالطّبع، لكن ماذا عن حقائبنا؟"
"سنحضرها حينما يصل نامجون."

أخذ لمحةً أخيرةً عن جسد تايهيونغ الذي لم يحرّك ساكنًا، قبل أن يلتفت شاقًا طريقه من حيث ولج، ملتقطًا هتاف هوسوك الواعد بأخذه في جولةٍ صغيرةٍ حول المنزل حين يعود.

اِنتهز جونغكوك الفرصة في التجوّل قليلاً حول المساحة المحيطة بالمنزل، ووجد أنّ المكان أشبه بمتاهةٍ مبسّطةٍ.. كان الضّياع سهلاً، ولولا الزّرقةِ الصّارخة لسيارة هوسوك من بين الأغصان والقطع الخشبية المكوّنة للمرأب، لكان قد حضّر معدته لليلةٍ طويلةٍ من الجوع بين الأشجار.

كانت الأشجار طويلةً فارعةً، بالقدر الذي يسمح لها بإحتضانِ المنزل ذي الطّابقين وإخفائه عن الانظار من الجهةِ الخلفيةِ، حيث اِفترض جونغكوك أنّها بداية الطّريق نحو الغابة العميقة.

اِجتذب اِنتباهه صوت محرّكٍ صاخبٍ، يقترب مع كلّ ثانيةٍ تمضي، ولم يكن من الصّعب معرفةُ صاحبها.

"لقد وصلتكم." مبتسمًا قال بعد ركن السّيارة وترجّلهم، محمّلين بمختلف الأكياس، الفوّاحة بعضها برائحة الطّعام الجاهز، والأخرى قد توضّح محتواها من الالوان الطّازجة البارزة عبر الأكياس الشفافة.

"لم يفُتنا أيّ حدثٍ مهمٍ، أليس كذلك؟" سأل نامجون صافعًا باب السّيارة السّوداء بكعب قدمه، ليجيب جونغكوك رافعًا حاجبيه بتحاذقٍ، فيما كان يحاول حمل بعض الأكياس من يد يونغي. "لقد فاتكم الكثير."
اِلتقط ضحكةَ سوكجين المتحشرجة، قبل أن يقود الطّريق نحو المنزل.

وكما ترك جسد تايهيونغ، وجده.

مضى الوقتُ سريعًا، بعد اِجتماعهم حول الطّاولة القابعة في زاوية غرفة المعيشة، قرب النّافذة المطلّةِ على الغابة، متناولين ما اِستطاع هوسوك اِعداده من بيضٍ قد أبدى يونغي شكّه في مدى صلاحيته، متلقيًا ركلةً خفيفةً منه من تحت الطّاولة.

وحين اِنتهائهم، لاحظ الجميع طبق تايهيونغ، الذي لم يبدُ أنّه قد لمسه.

وفى هوسوك بوعده، وجرّ جونغكوك في جولةٍ سريعةٍ حول المنزل، ليكتشف الأصغر أنّه يحتوي على غرفة نومٍ رئيسيّة، أربع غرفٍ فرعيّة، حمّامينِ أحدهما في الطابق السفلي والآخر في العلوي، غرفة مؤونة، قبو، والمطبخ الذي قد اِستقبله حينما ولج، مطلاً على غرفة المعيشة.

وبين هذه اللّحظة وتلك، كان جونغكوك يذمّ المناسبة العائليّة التي منعته من مرافقة الشبّان السّتة قبل أربعةِ أشهرٍ، حينما كان تايهيونغ.. تايهيونغ

***

مرّت الدّقائق، ووجد الشّبان أنفسهم على الطّاولة السّالفة، يتناولون ما قد أحضره نامجون من طعامٍ جاهزٍ.

كان ترتيب جلوسهم عشوائيًا، مختلفًا عن ترتيبهم السّابق، لكنّ جونغكوك قد حرص على تتبّع تايهيونغ، والجلوس بجانبه أيًا كان محلّ مقعده.
ممرّرًا إيّاه كأس ماء تارةً، وبعض الأطباق الجانبيةِ تارةً أخرى.
بالرّغم من أنه لم يكد يأكل ما في طبقه في المقام الأول.

"لقد أحضرنا طعامًا يكفي لأسبوع، لا تلتهموه في ليلةٍ." جاء صوت سوكجين محذّرًا مؤنّبًا، غير أنّه لم يتلقّ سوى أصوات مضغٍ كإجابةٍ.

لمح جونغكوك جسد جيمين المُنسلّ بخفةٍ من مكانه بين سوكجين ونامجون، ليتبعه هوسوك ويونغي فيما بعد نحو الطّابق العلوي.
غير أنّه قد رفع حاجبه في لا مبالاةٍ ووضع قطعة ملفوفٍ متبّلٍ في طبق تايهيونغ.

لم يتغيّر الكثير في تصرّفات تايهيونغ، كان يواصل الإنطواء ودفن نفسه في قوقعته الهادئة، متجاهلاً الجميع.
أخبره نامجون أنّ حالته طبيعيّة، لا سيّما أنّه قد وافق على المجيء رفقتهم، مما يعني أنّه هو الآخر يرغب في التّحرّر من اِكتئابه، ما ساعد على رسم بسمةٍ على شفتيه حينها.

"ما رأيكم في التّجول حول الغابة غدًا؟" سأل نامجون ليسارع الأصغر بالإجابة. "كلاّ، لا أريد أن أتوه داخلها."
"بحقّك، أسنبقى أسبوعًا كاملاً في المنزل؟"
"سنجد ما قد نفعله فيما بعد."

"فلنسأل تايهيونغ، ماذا تريد أن تفعل؟"
لم يكن سرًا أنّ الرّحلة، في المقام الأول، كانت من أجل تايهيونغ، من أجل إحياء روحه على حدّ ما قاله هوسوك.

اِفترّت شفتا المعنيّ عن اِبتسامةٍ صغيرةٍ، بدت مصطنعةً للغاية في عينيّ جونغكوك، وقال. "سيناسبني أيّ قرارٍ تتخذونه."

مطلقًا تنهيدةً، اِلتفت إلى حيث صوت الخطوات، بيد أنّ الأنوار قد اُطفئت قبل أن تسنح له رؤية شيءٍ.
لمح نورًا ضئيلاً يتقدّم، منيرًا وجه جيمين المبتسم وهو يخطو خطواتٍ حذرةٍ نزولاً من الدّرج.

"ما هذا.."

سبع شمعاتٍ قد أضاءت الطّريق له، في حين كان صوتُ غناء هوسوك العشوائيّ، وتصفيق يونغي الخامل، يعمّ المكان.

بسرعةٍ، جال بنظره حول ملامح مَن على الطاولةِ، وقد سمح له النّور الضّئيل برؤية الصّدمة التي لم تفترش سوى وجه تايهيونغ، ووجهه على الأغلب.

"يوم صداقةٍ سعيدٌ أيّها الأوغاد!"
في يومٍ طبيعيٍّ، كان سوكجين ويونغي ليعبّرا عن اِنزعاجهما من اِنتقاء جيمين السّيء لألفاظه، لكنّ سوكجين لم يفعل شيئًا سوى الإبتسام باِتساعٍ.. وقد أدرك جونغكوك، أخيرًا، أنّ الجميع، ما عداه وتايهيونغ، قد علم وخطّط للأمر.

حين أفسح نامجون المجال لجيمين لوضع الكعكة على الطّاولةِ، وتمرير السّكين لتايهيونغ وإجباره على تقطيعها، أدركَ أنّ اليوم ليس يوم الصّداقةِ تحديدًا، بل مجرّد فعلٍ صغيرٍ قد يعيد البسمةِ لشفتي صديقهم.

"لماذا لم تعلموني بالأمر؟" سأل، يلوك قضمةً صغيرةً من قطعته، مجبرًا نفسه على اِبتلاعها. كانت  كعكةً اِسفنجيّةً بنكهة الفانيليا، وقد كان تايهيونغ هو  المولوع بكلّ ما يحتوي على الفانيليا، لا هو.

"لا لسببٍ معينٍ، كلّ ما في الأمر أنّني لم أشعر برغبةٍ في إخبارك." مجددًا، كانت نبرةُ جيمين متحاذقة، متبوعةً بهمهمةٍ من هوسوك، الذي راح يوافقه، واصفًا إيّاه بالطّفل الواشي.

لكنّ جونغكوك لم يكُن، في أيّ مرحلةٍ عمريةٍ، أو حالةٍ، واشيًا. كانَ في أغلبِ الأحيانِ يقع في مشكلةٍ أو في أخرى مرَدًّا لسكوته وتستّره على كلّ ما يسمعه ويراه.

غير أنّ قاعدته تختلّ حينما تصادف تايهيونغ، ويجد نفسه يخبره بما لم يخبر أحدًا من قبل.
ولعلّه، بنسبةٍ ضئيلةٍ، كان لِيخبره، بزلّةِ لسانٍ، عن المفاجأة إن علِم بأمرها.. لذا لم تكن سخريةُ هوسوك مجرّد سخريةٍ في نهاية المطاف.

"إنّ الكعكةَ رائعةٌ يا رفاق."
وكحال الخمسةَ الجالسينَ بعشوائيّةٍ في مساحة المطبخ وغرفةِ المعيشة، لم يجابه جونغكوك اِبتسامته لإبتسامةِ تايهيونغ، التي، ولأوّلِ مرةٍ منذ الصّباح، لم تبدُ وكأنّ رسّامًا فظيعًا قد رسمها.

كانت حقيقيّةً وصادقةً.

***

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top