~٥~ ليت طيفهُ زار طرفي ساهدًا
أّلَلَهّـمً صّـلَ عٌلَى مًحًمًدٍ وٌأّلَ مًحًمًدٍ
▪️▪️▪️▪️◾◾◽◽◾◾▪️▪️▪️▪️
تشرين الثاني الثالث عشر من شهر شعبان
انقضى شهر رجب وأنقضت ايامه تباعا شهر مليئاً بالخير والبركة، شهر آللّٰه كما قال عنه الرسول صلِّ آللّٰه عليه وآله وسلم ﴿ إلا أن رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي﴾
نعم أطل علينا شهر شعبان وصادف قدومه في نهاية موسم الشتاء في العام الدراسي للفصل الثاني .
كان شهر شعبان شهرٍ مميزٍ في كل سنة ولكن هذا العام يبدو أن القدر له رأي مختلف فلقد سافر أبي قبل ثلاثة أيام من الموعد الموعود الذي نحتفل به في كل عام، لذا يبدو أنني سوف أحتفل هذه السنة وحدي أنا وجدتي فقط .
لقد ماتت أمي نتيجة مرض مفاجئ وأنا في عمر الرابعة وفارقت الحياة قبل أن تلد لي أخ أو أخت وبسبب طبيعة عمل والدي كثير السفر ، فهو يعمل في توصيل البضائع بين المحافظات وأحيانا بين الدول المجاورة وكان غالبا ما يتأخر من أسبوع إلى أسبوعين فلم يجد المرأة المناسبة التي تتقبل طبيعة عمله.
« جدتي أتمنى أن أحظى بلقائه ولو للحظة واحدة ؟»
صرحت وأنا أتمطط في السرير بجانب جدتي أعبث بالغطاء الذي فوقي، حيث كان السرير مزدوج يكفي لشخصين، وكنتُ أرتدي بجامة مصنوعة من القطن الناعم زهرية اللون مع نقش لدب رمادي في المنتصف وكتابة صغيرة باللون الأحمر من جهة اليمين.
استدارت جدتي نحوي وهمست بحنان
« ان شاء آلله، يومًا ما تحضين برؤيته»
وكانت جدتي امرأة مسنة في عقدها السادس خطت التجاعيد وجهها ومع ذلك فهي تحتفظ بقوة لا بأس بها من النشاط والعزيمة مع روح المعشر المرحة .
أستلقيت على ظهري مع وضع يدايّ أسفل رأسي بحيث قابل وجهي سقف الغرفة، ثم تنهدت قليلًا وتمتمت
« متى يأتي هذا اليوم ياجدتي لقد تعبت من الإنتظار؟ أنا سوف لن أطمع يكفيني أن أرى طفيهُ، أن التمس دفئهُ»
مدت يدها ناحيتي ومسدت رأسي ثم أعقبت باسمة
« عن النبي(صلى الله عليه وآله): أفضل العبادة انتظار الفرج، ... لذا ياعزيزتي تحلي بقليل من الصبر وإن شاء الله تكونين من جنده »
ثم استأنفت الكلام برهة تسترد انفاسها وأكملت
« عزيزتي عندما تلتزمين بأوامر الله سبحانه وتعالي بالالتزام الستر والعفة، بارتداء العباءة والحشمة عندها صدقيني ستكونين من جنده »
هززت رأسي متفهمة مع لمحة من القطرات ترطب أجفاني.
***********
في صباح اليوم التالي تحديدًا الثانية عشرة وخمسة عشر دقائق ظهرًا عقب انتهاء تناول الغداء وأداء الصلاة وقراءة ورقة من الذكر الحكيم أرتديت زيي المدرسي المؤلف من الصدرية والقميص ولففت الحجاب الأبيض حول رأسي؛ فلا يسمح لنا بارتداء الاحجبة الملونة، ثم أمسكت العباءة السوداء احتضنتها بيديّ الصغيرتين فقد أهداها والدي لي عندما بلغت هذا العام الثالثة عشرة من عمري عندما التحقت بالمتوسطة ، ارتديتها كما ترتدي الاميرات أوشحتهن الذهبية كانت هكذا عباءتي بل أكثر فجمالها الاخاذ بلونها الفاحم ورونقها الذي يزيدني جمالاً .
هممت بالخروج ولكن لم أنسى تقبيل جدتي قبل أن أغادر منزلنا الصغير .
مشيت بطريقنا الفرعي بعدها عبرت الشارع العام وعقبها سرت في جادة طويلة نسبيا ثم انعطفت شمالًا قبل أن أرى المدرسة أمامي.
وقبل أن أدلف أبواب المدرسة أخذت شهيق وزفير ثم صليت على النبي (اللهم صلِّ الله عليه وآله وسلم) ودخلت مع قليل من القلق من أن يراني أحد من بنات صفّي، وأنا انزع العباءة واضمها في الحقيبة حيث كانت مدرستنا الثانوية للبنات فقط لذا كنت أنزع العباءة حال دخولي إليها وقبل أن أدلف إلى الصف .
ولكن بيد أن فتاة من طلاب شعبتي قد شاهدتني وأنا أخلع العباءة، تقربت شطري وهي تنظر بطرف عيناها نحوي باستهجان واضح كأنها تراني لأول مرة ارتدي العباءة على الرغم قد مضى اسبوعان على ارتداءها من قُبلي وقد شاهدتني لأكثر من ثلاث مرات، ثم بصقت الكلام من فمها هزاءًا
« لا أصدق يافاطمة إنك ترتدين العباءة وأنتِ في مثل هذا السنّ!» قالتها كأنني حُكم عليّ بالإعدام .
أخفضت بصري للأرض وبالكاد فتحت فمي أحاول أن أصوغ العبارات الملائمة ولكن للأسف تلعثمت ولم أستطع أن أنطق حرفاً واحداً .
مشت الطالبة فؤادة من جانبي واتجهت صوب صفنا بتعالي .
تنهدت مرتان ثم أتممت مسيرتي شطر الصف، وأنا أصنع ابتسامة باهتة على شفتي.
مضى الدرسان على خير حتى تهافت على مسمعي ثرثرة مجموعة من الطالبات والتي لم أكن أشعر براحة لهن كونهن متحررات أكثر مما يجب .
وكان على رأسهن الطالبة منى صديقة فؤادة المقربة التي أفصحت بنبرة عالية باستنكار واضح «أنني أتعجب كل العجب من الأهل الذين يجبرون بناتهن على ارتداء العباءة في سنّ مبكرة، ويقيدون بناتهم بالعباءة بحجة الستر !!»
أيدتها فؤادة وهي تدير جسدها نحوها « نعم العباءة تعيق الحركة، لا أعرف كيف يرتدونها، ويتحركون بحرية دون أن يتعثروا ويسقطوا !»
تكلمت ألّق بنبرة احتقار الجالسة بجانب منى من الجهة الأخرى « بعض الجهلة يظنون أن العفة والطهارة بارتداء العباءة ! بالعكس هناك كثير من الفتيات السافرات نجدهن مؤدبات وطاهرات أكثر من التي ترتدي العباءة فالحجاب في الأخلاق وليس في اللبس »
ردّت عليها منى عقب أن التفتّ شطرها
« نعم صحيح الحجاب ليس في ارتداء الحجاب بل أنه حجاب القلب، فإذا كان قلبها طاهرا فهذا يكفي ، فأهم شيء هي النية »
تسرب الحزن إلى قلبي وأنا أسمع كلامهن الجارح وارتعشت أوصالي وأنا أحاول أن اكبت غضبي ولا أصرخ فيهن سيما عندما سمعت الكلام ألق الأخير
« بالعكس أمي تقول أن هناك كثير من الفتيات التي ترتدي العباءة من الخارج فقط، وتتظاهر أمام الناس أنها الفتاة المؤمنة الطاهرة وإذا جئنا إلى أصلها نجدها ماجنة » رنة الكلمة الأخيرة بوضوح في داخل رأسي .
نهضت من مكاني وحاولت أن أجيب عليها، ولكن جرس الدخول إلى الصف ودخول المُدّرسة علينا حال دون أخبارهن بأنهن مُخطئات وأن جميع تهمهن باطلة ولا صحة لها .
عندما رن جرس الحصة الرابعة استدارتْ ابتهاج ناحيتي ثم هتفت بغبطة :
« ما رأيكِ أن نذهب إلى منزلي خلسة لنشرب الماء؟»
كان منزل ابتهاج يقع قبال المدرسة مباشرة لا يفصل بينهما سوى الشارع، لذا كُنا كُلما وجدنا الفرصة سانحة تسللنا إلى منزلها لغرض شرب الماء أو تناول الحلوى التي تعدها أمها لنا
ابتسمت لفكرتها فقد خطر لي ربما خروجي سوف يغير مزاجي الذي تعكر ، أخرجت عباءتي من الحقيبة حتى تفاجأت من مقترح ابتهاج :
« عزيزتي أظنهُ لا يستوجب أن ترتدي العباءة فالمنزل ليس بهذا البعد الذي يستوجب أن ترتديها كذلك لا أخال أن أحد سوف يراكِ اثناء ذهابنا ؟»
بقيت لحظات مترددة هل أذهب دون ارتداءها ؟ فأنا ملابسي محتشمة وارتدي الحجاب أم ..؟
وعندما أبطأت عليها عاودت الكلام
« أنا فقط أخشى أن تراكِ أحدا المدرسات وأنتِ في العباءة عندها سوف تكتشف أمرنا ؟»
أبعدت العباءة بغرض أعادتها إلى الحقيبة ولكن فجأة جاءني صوت جدتي الغالية :
« فاطمه أن هذه العباءة هي أرث مولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء، فكل ما تركته لنا الزهراء (عليها السلام ) هي هذه العباءة لكي نحافظ على عفتنا وسترنا لكي نقسم ظهور المنافقين والفجار عند ارتداءها، فالأعداء يحاربونا بالقتل ونحن نحاربهم بحشمتنا، بسترنا »
ثم شددت على آخر وصية:
« تذكري أنت ترتديها من أجله هو »
استفقت من شرودي على صوت ابتهاج ، أعدت ارتداء العباءة وخرجنا بسرعة ولم نستغرق أقل من دقيقتين قبل أن نعود ويلاحظنا أحد، ولكنني لم أنسَ كلام أمها الذي قد مسّني قليلًا
« عزيزتي فاطمة أنتِ جميلة جداً بهذا اللباس، ولكن إلا تعتقدين أنكِ مازلتي صغيرة على ارتداء العباءة، يكفي أن ترتدي الحجاب وحده ولا داعي للمبالغة »
وقتها أرتبكت وأجبتها بخفوت مُجبرة على تأييد كلامها
« معكِ حق أظنني تعجلت في ارتداءها، يجب أن أنتظر حتى أكبر قليلًا وأرتديها »
انتهى الدوام وأنا أشعر بحزن عميق فلا أعلم لمَّ هذه المحاربة الشديدة على البنات اللواتي يرتدّن العباءة !!
وعلى الرغم من أنني حاولت أن أنسى ما سمعته هذا اليوم من التهم الموجه على بنات اللواتي يرتدين العباءة إلا أنني عدت إلى البيت وغيمة سوداء تحوم حول رأسي فمنذ أن ارتديت العباءة ولا أنفك من سماع الكلام اللاذع وكيف أن البنات التي ترتدي العباءة هي غير شريفة !
لا أعلم ماذا جرى للعالم فكيف التي تستر نفسها هي التي أصبحت سيئة السمعة، وأن السافرة هي الشريفة .
غيرت ثيابي بهمال ثم شرعت بتجهيز الطعام العشاء حيث أمست الساعة الخامسة مساءً، وفي تمام الساعة السابعة والنصف جلست على المائدة التي جهزتها وقبالتي تجلس جدتي التي همست بنبرة حانية
« مالي أراكِ يافاطمة شاردة ولا تتحدثين على غير العادة ؟ »
استفقت من شرودي وتمتمت بخفوت « لا شيء ..أنا، أنا... » صمت عندما لم أجد كذبة ملائمة فأنا لستُ معتادة على الكذب !
أثناء ذلك ربتت جدتي على كتفي بحنان واسترسلت برقة « تحدثي يافاطمة وأخبريني ماهو الشيء الذي يضايقكِ ؟ سيما نحن في شهر الفرح والسرور وفوق هذا غداً هو اليوم الموعود »
تنهدت قليلًا عقب أخذ شهيق وزفير ثم تربعت في جلستي واستطردت جميع مكنونات صدري من الحزن العميق فكيف أصبح الناس تنعت التي ترتدي العباءة بمختلف ألوان العبارات البذيئة من تخلف، جهل ، انعدام الحضارة ، كيف أن التي ترتدي العباءة سمعتها سيئة فهي من الخارج تدعي التدين ومن الداخل هي عاهرة وغيرها آلاف العبارات المقيتة .
ابتسمت جدتي بابتسامتها المعهودة وربتت على كتفي ثم بدأت تشرح لي
« عزيزتي فاطمة الإسلام دين جميل حفظ حقوق الجميع ولا سيما المرأة ولكن ليس الجميع يريدون الخير للأخرين فالغرب حاربوا الإسلام وعندما لم يجدوا فيه أي عيب ، أتجهوا إلى نشر الاكاذيب بأن الإسلام يعيق المرأة من خلال ارتداء الحجاب بأن العباءة تقيد حركة البنات ولكن لم يكتفوا إلى هذا الحد بل بدأوا بنشر الاكاذيب والاشاعات في مختلف مواقع التواصل بأن الفتاة التي ترتدي الحجاب هي سيئة الأخلاق والتي ترتدي العباءة في الأصل إلا فتاة ماجنة ثم نشروا الاكاذيب عن طريق نشر فتاة ترتدي العباءة تفعل الفواحش بعد ان اتفقوا مع بعض من البنات الساقطات وكذلك بالنسبة إلى التي لا ترتدي حجاب هي الطاهرة العفيفة وغيرها آلاف عبارات المديح لقد عكسوا الآية مثلما ذكرهم آللّٰه تعالى في كتابه العزيز ﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ صدق الله العظيم ، وهكذا ياعزيزتي فبعد أن كانت العفيفة هي الطاهرة أصبح العكس وبهذا استطاعوا أن يرسخوا هذا الفكر السقيم في عقول الشباب ضعيفة الإيمان بآللّٰه تعالى من خلال حملاتهم الشديدة التي نشروها حتى يشوهوا الدين المحمدي الأصيل، لذا ياصغيرتي لا تجعلي بعض من ضعاف النفوس أن يؤثروا على عقيدتكِ السامية وتذكري أنتِ لمن ترتدين هذه العباءة ؟»
ترقرقت عينايّ قليلًا بالدموع فللحظات قليلة كدت أن أنجرف مع الاتهامات والحجج الواهية التي سمعتها وأن أستغني عن العباءة .
نمّت في ذلك اليوم وأنا مطمئنة مع حزن طفيف كون يوم غد هو اليوم الموعود ولكن أبي سوف لن يشاركنا هذا العام الفرحة .
نمت في تلك الليلة بصعوبة، وفي اليوم التالي حمدت آللّٰه لأنهم قد أعطوا اليوم عطلة محلية وقد صادف يوم الخميس، ولكن فرحتي لم تمتد طويلا لأن جدتي قد أصيبت في وعكة ولزمت الفراش وبقيت أنا بجانبها أعتني بها بقلب مضطرب ادعو آللّٰه في سري على أن يعافيها ثم شرعت إلى قراءة بعض السور من القرآن إلى أن اسدل الظلام خيوطه عندها شعرت أن جدتي ازدادت حالتها سوءً !
لذا قررت أخيرًا إلى أن أحضر لها دواء من الصيدلية أغلقت قبضة يدي مشجعةٌ نفسي بأنني أستطيع فعل ذلك ، حيث كانت هذه المرة الأولى التي أخرج من المنزل عقب صلاة المغرب والعشاء ، ارتديت عباءتي وأنطلقت بعجل ، مشيت بالطريق وأنا أردد الآيات في قلبي لكي أبعد الخوف إلى أن وصلت نهاية الشارع عبرت الطريق العام لكي أقصد الصيدلية ولكن لسوء الحظ كانت مغلقة.
بقيت أحدق فيها بعيون قلقة ممزوجة بالخوف إلى أن قاطع شرودي رجل في الاربعينات :
«ماذا تريدين ياصغيرة »
أستدرت إليه وأنا خافضة رأسي ثم بالكاد همست:
« أنا أريد الذهاب إلى الصيدلية ولكنها مغلقة »
أخذ الرجل برهة مفكرًا قبل أن يعاود الحديث :
« أسمعي يافتاة تذهبين في هذا الطريق الفرعي وتسيرين فيه تعبرين أول زقاق ثم الثاني إلى أن تصلين إلى الزقاق الثالث ، تذهبين إلى نهايته يأتيكِ زقاق تدخلين فيه تجدين فيها صيدلية مفتوحة فهي بالعادة تغلق بالعاشرة مساءً »
شكرتهُ بهمس وأنطلقت مسرعة ، بشق الانفاس وصلت إلى المكان الصحيح، أشتريت الدواء الذي في العادة تتناوله جدتي وحيث اليوم كان منتهيا اضطررت إلى الذهاب لشرائهِ.
في اثناء طريق العودة لسوء الحظ ضللت الطريق تملكني الخوف وأرتعشت أوداجي بدأت أسير في خطى وئيدة جداً فأنا لا اعرف أي الطريق أسلك؟ بينما أنا أحدق في ظلام المحيط الذي حولي فلم تكن هناك أي مصابيح في الطرق الفرعية .
تشبثت بعباءتي أحتضن صدري ، فقد تسرب الرعب إلى قلبي وارتجفت اطرافي تبرد ثم بدأت أناجي الله حتى يرشدني إلى طريق العودة ، ثم أنسل إلى مسمعي صوت نباح كلاب من بعيد ، مما جعل الخوف يدب في بدني ، تعلق قلبي بآللّٰه حينما كان هناك لمحة في مآقي منذرة بسقوط المطر، بينما أنا اردد آية الكرسي التي تحفظ الشخص من أي مكروه مع جوارح متشبثة بآللّٰه.
أخذت بعض الشهقات الصامتة تنساب مني .
ثم رفعت بصري نحو السماء وهمس بنبرة ملؤها الدموع
« إلهي لا تتركني وحيدة بحق حبيبك محمد وآل بيته،
إلهي أنقذي مما أنا فيه ولا تخذلني بجاه كل عزيز عندك
إلهي أنجدني بإيجاد طريق العودة ومكني بمساعدة جدتي ... إلهي سامحني على كل خطأ ارتكبته بقصد أو دون قصد »
تبدد الخوف بالحزن فقد يكون الله قد عاقبني لأنني للحظات فكرت في ترك العباءة ! أجتاحتني موجة من أن أبكِ خصوصًا بعد اقتراب أصوات نباح الكلاب، ولكنني تذكرت فجأة بأن اليوم هو اليوم الموعود ، يوم ميلاد قائم ال محمد ، ميلاد أبا ومولانا وحبيبنا أبا صالح عجل الله فرجه .
انسابت بعض الكرات البلورية على وجنتيّ، وأنا أتذكر أنني كدت أن أخذل آللّٰه أولاً، ثم أخذل مولاي الذي أرتديت العباءة من أجله ، وها أنا الآن أضعت الطريق ، وضعت ذراعي اليمنى على عيني حتى أمسح الدموع بمرفقي بينما حرقة في حنجرتي نتيجة الغصة التي أجترحتني .
أجبرت نفسي على التقدم إلى الأمام وأنا أتخبط فلقد تأخرت كثيراً على جدتي، ويجب أن أعود إلى البيت حتى أعطيها الدواء ، بينما أنا أدنو نحو الأمام وقلبي متعلق بالله وبهِ
همست وسط أنهر غزت وجنتاي كشلال يتدفق دون رحمة وأنا أقول أملي الأخير في النجاة
« مولاي ياصاحب العصر والزمان ادركني، ادركني بجاه مصيبة أمنا فاطمة التي سُميت تيمنا باسمها، بجاه اضلاع أمنا المكسورة ..»
لم أستطع أن أكمل فقد أختنقت بالبكاء فكيف أتوسل بهذا القسم العظيم إلى سيدي ومولاي!
كيف أجرح قلبه وأحرك مواجعه بهذا القسم !
وسط تأنيب ضميري وشهقاتي التي أخذت تتعالى رويدا رويدا، فجأة أنبعث نورً أضاء المكان من حولي ، توقف كل شيء، توقف الزمن، اختفت أصوات عواء الكلاب البعيدة، فقط عندما لمح بؤبؤي طيفهُ الدافئ الذي أسكن الطمأنينة في قلبي وأعاد الروح إلى جسدي، بقيت للحظات واقفة في بقعتي مذهولة كأن أطرافي قد شُلت من شدت العناية الإلهي التي نزلت عليّ بظهور نور وليه، في تلك اللحظة مزيج غريب أستهواني من الفرح والحزن كمعشوق التقى عشيقه بعد دهور طويلة من الانتظار ومثلما ينجذب المغناطيس إلى الحديد وجدتُ أقدامي تركض بأقصى سرعة نحوه كالشوق المُسْتَهَامٌ، علّهُ أحظى بلحظة من رؤيته كأن هذه اللحظة سترويني الدهر كله وتجعلني لا أظمأ أبدًا، امتلأت حدقيتيّ بقطرات الدموع ولكنها دموع الفرح دموع السجين عندما يطلق سراحه عقب مئة عام من السجن بل أكثر من ذلك بقيت أجري إلى أن وصلت إلى حيث شع نوره ولكن عوضا على أن أراه وجدت الشارع العام!
بقيت أحدق في الفضاء ، مشاعر مبعثرة أمتزج الشوق، الدهشة، الحنين، الحزن كلها دفعة واحدة انفجرت في داخلي، كانت عيناي فيما مضى فقط تتوقان لرؤيته ولو طيفًا منه وعندما رأيت طيفهُ طمع أحساسي وطالب بالمزيد ، طمعت عيناي بمُشاهدته مدّة أطول حتى أكحلها برؤيته ولكن المعشوق يقدر معشوقه وإذا لم يأتي الأجل فعلي أن أصبر وأنتظر قدومه .
جررت خطاي بصعوبة وأنا أردد {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} مع قولهِ تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} لذا مسكت قلبي حتى أخفف من شدت نبضه .
كانت عيناي لا تزالان تفيضان من الشوق وأنا عائدة إلى المنزل على الرغم من الدفء الحميم الذي أعتراني نتيجة مشاهدة ذلك الطيف إلا أنني لا ازال اطمع بالمزيد .
دلفت إلى جدتي لأجدها مستيقظة مسندة ظهرها على الحائط متغطية بملائة ابتسمت لدى رؤيتي وفتحت ذراعيها لاستقبالي ربما شعرت بمشاعر الفوضى التي داهمتني ، عانقتها بحب بينما هي مسدت على ظهري وأردفت بحنانها المعهود:
« اعتذر ياصغيرتي على أخافتك »
رفعت رأسي نحوها بقلق وقدمت لها الدواء ونطقت برعشة :
« لقد احضرت لكِ الدواء بعد أن نفذ، هيا تناوليه»
أستلمت الدواء من يدي ولكنها لم تتناوله بل أكتفت بقول « هل تعلمين قبل قدومكِ بدقائق شعرت بتحسن مفاجئ وأشعر أنني بتُ أفضل ولا أحتاج إلى أي دواء فبفضل الله زالت جميع الحمى والألم من بدني بعناية الله ولطفه علينا لقد شفيت »
أعدت إلى عناقها ثانيا وأنا أحمد الله على نعمته بشفاء جدتي الغالية .
في هذا الاثناء دخل علينا شخص قطع أجواءنا الحميمة قائلا بسخرية:
« تتعانقان من دوني! »
رفعت بصري لأجده أبي تهللت عيناي لرؤيته ثم هرولته صوبه معانقة أياه ، عقبها رفع الكيس الذي يحمله وهتف بغبطة « لقد احضرت معي كعكة ولم يبقى لنا سوى أن نحتفل نحن الثلاثة بهذه المناسبة السعيدة »
************
صباح يوم الأحد ذهبت إلى المدرسة سعيدة مرفوعة الرأس بعباءتي الرائعة وأثناء دخولي إلها فوجئت بفؤادة ترتدي الحجاب كانت متجهمة الوجه تتلفت كثيرا خائفة من أن يراها أحد وقد همت بأن تنزع حجابها حال دخولها الى المدرسة ولكنني أستوقفوها مما أثرت الفزع في قلبها وتوقع أن القي عليها كلمات السخرية ولكنني عوضا عن الاستهزاء ابتسمت لها بحنية ثم هتفت بسعادة :
« فؤادة لم أكن أعلم أنكِ تبدين جميلة جدًا عندما ترتدين الحجاب !! »
أصطبغ وجهها خجلا وصرخت بحياء مقاطعة أييّ بنبرة واطئة مع اعين مُبللة :
« كفى، أنتِ تكذبين عليّ»
« أنا لا أكذب أنا أقول الحقيقة لقد ازداد جمالكِ برتداءكِ الحجاب » أعدت تشديد على أقوالي بقوة
فجأة جاء صوت أنثوي من خلفي صوت مدرسة الأحياء اللطيفة التي قالت بحنان
« كلام فاطمة صحيح ، أنتِ بالفعل أجمل بالحجاب ولا أقول هذا الكلام مجاملة أياكِ ، لكن قد بدا وجهكِ أعرض وأكثر وسامة وأنتِ ترتديه لذا ارجو لكِ التوفيق في ارتداءه والالتزام به »
علمت فيما مضى أن فؤادة كادت أن تتعرض للتحرش ، كون جسدها مغري ويلفت النظر سيما كانت تستعرض جسدها بملابسها القصيرة والضيقة وعندما حاول أحد الشبان التحرش بها بمساك خصلات شعرها الذهبية المتطايرة والحمد للّٰهِ استطاعت النجاة منه بأعجوبة، أثار هذا الحادث غضب والدها عندما علمَ بالأمر ، مما جعلهُ يجبرها بالقوة على ارتداء الحجاب والملابس الفضفاضة، لذا كانت خجلة جدًا من مظهرها الجديد ولكن تشجيع المُدرسات وأغلبية الطالبات أعادن الثقة لنفسها بل أنني بدأت الاحظ كثير من المفاهيم الخاطئة التي تعتقد بها بدأت بتغييرها بعد أن كُشفت لها الحقيقة، وعقب ثلاث سنوات ارتدت العباءة وأصبحنا صديقتان مقربتين.
- النهاية -
_______________________________
* المُسْتَهَامٌ: هائم شديد الحب
هل اعجبتكم القصة ؟
ارائكم 😊
أراكم في قصة آخرى بأذن الله
( ملاحظة ممنوع السرقة او الاقتباس دون أذاً مني تذكر الله موجود ^__^ )
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top