.....
إمَّا أن تُكوى الجُلودُ أو تظلَّ عفنةً لا يطالها ماءُ!
كانَت تلكَ قاعدتُهم التي عليها سارَ أولئكَ عديموا الرّحمةِ بالنّسبةِ لما اعتدتُ أنْ أسمّيهِ " استحمام " .
هجرَ الكرَى أجفانَنا صباحَ اليومِ بعدَ أن أوقِظنا فزعين على صياحِهم وضربهم المُتتالي على الزّنازينِ، وما كانتْ عاقبةُ من تخلّفَ عن الاستيقاظِ حسنةً أبدًا، بل كانَ عبرةً وعظةً لقاطني العنبرِ كلّهِ.
صلبنا جذوعنا في طوابيرَ ثمّ استاقونا كقطيعِ بعيرٍ شاردٍ في الفيافي يسيرُ بغيرِ هدًى أملًا في النّجاةِ، سرنَا في صفوفٌ منتظمةٍ كلّما مرّ أحدنُا على حارسٍ تلقّى ركلةً غاشمةً تقصمُ جسدَه، ويا ويْلَهُ إن فكّرَ بالتّأوّهِ حتّى!
بعدَ أن ذقنا من الشّتائمِ والرّكلاتِ ما يكفينا لسنينَ قادمةٍ، وصلنا لردهةٍ عظيمةِ الطّول لم يُسمع فيها غيرُ رنينِ الأغلالِ التي تعانقُ أيادينا سالبةً ما اسطاعتْ ممّا بقي لنا من حريّةٍ بين هذه الأسوارِ العاليةِ.
سكنَ خفقُ أحذيتِهم العسكريّةِ ثم وُجّهت أنظارُهم إلينا بمقتٍ بالغٍ كادَ يفيضُ من وجوههِم متبرّمةِ الهيئةِ، صرخوا بأصواتِهم بلكنةٍ إنجليزيّةٍ وقد انتفخَت أوداجُهم واصفرَّت ملامُحهم : « دقيقةٌ واحدةٌ، تقدّموا! »
تلا صياحَهم تقدُّمُ عشرةِ أفرادٍ لداخلِ إحدى الغرفِ الطّويلةِ التّي حوَت غرفًا عامّةً للاستحمامِ، لم أُحِط علمًا بما يدور في الدّاخلِ ولا بنظامهِم القاهرِ إلّا حينما فُكّت قيودُ يديّ ودُفعتُ مع حلولِ دوري لتلكَ الحمّاماتِ الفظيعةِ، كانَت غرفةً طويلةً تموقعَت غرفُ الاستحمامِ على الجوانبِ، بأبوابٍ غزاها الصّدأُ حتَّى ما عادَ يُرى اللّون الذي كانَت عليهِ، مهترئةَ الأطرافِ مخلخلَة المساميرِ كأنّما هيَ أيضًا تُقاسي ما نقاسيهِ من عذاباتٍ.
بدا السّجناءُ كأنّهم قد اعتادوا الأمرَ منذُ أمدٍ، فكانَت خطواتُهم محسوبةً معلومةَ الوجهةِ والمقصدِ، بينما أنا أخذتُ وقتًا حتّى فقهتُ لما يجبُ عليَّ فعلُه، عليّ أن أستحمَّ بماءٍ يكوي الجلودَ كيًّا وفي أقلِّ من دقيقةٍ واحدةٍ وإن ولجتُ ولم أخرُج خلالَ تلكَ الدّقيقةِ فسيقتحمُ الحُرّاسُ الحمّامَ ويخرجونَ السّجناءَ الذين تخلّفوا عن الوقتِ المحدّدِ دونَ أدنى اهتمامٍ لوضعهم حين ذاك.
الأوامرُ تنفّذُ دونَ أيّ اعتبارٍ لأيّ شيءٍ غيرها!
أدركتُ جيّدًا أنّ ماءَ وجهي قد فرّ آبقًا مُذ أُلقيتُ في هذا السّجنِ الذي سلَب منّي الكثيرَ في أقلِّ من أسبوعينِ!
دخلتُ لإحدى الغرفِ، أغلقتُ البابَ لأكتشفَ أنّهُ ارتدَّ إليّ وأبى أن يُغلقَ، لم يتواجَد أيّ مفتاحٍ ولا مزلاجٍ يُساعدُ في إغلاقِ البابِ، اهتديتُ لئَن أكتفي بالوضوءِ حاليًّا حتّى أعتادَ الأمرَ؛ إذ أنّي لن أستطيعَ المجازفةَ أبدًا وتحمّلَ العواقب، فتحتُ صنبورَ المياهِ فاندفعَ البخارُ قبلَ المياهِ ثمّ تقاطرَ الماءُ حتّى اشتدَّ فكانَ كسيلٍ عرمٍ من مياهِ البراكينِ الحارِقةِ، ما كانَت أبدًا حرارةً تُحتمَلُ، كانَت تلفحُ وجهي قبلَ أن أمسّها فتردُّني عن أن أغترفَ منها القطراتِ حتّى!
التفتُّ يمينًا ويسارًا فما وجدتُ شيئًا في تلكَ الغرفةِ الخاليةِ سوى مرشِّ الماءِ الصّدئ الذي يكادُ يهوي على رأسي لشدّة ما تصدّع وتآكلَ!
« لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العزيزِ الحكيم، لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العزيزِ الحكيمِ »
تمتمتُ بأحرفٍ نالَ منها الحَزَنُ حتّى ما عادَت تكوِّنُ جملًا بائنةً، حارَت نفسي وتردَّدتْ ولمْ أدرِ ما أفعلُ، تيّقَنتُ أنّي لئِنْ لَمْ أدني الماءَ من جسدي سيلحظونَ ذلك ولن يفوتَهم، وما أحسبُ أنّ ذلك سيمرُّ عليهِم مرورَ الكرَامِ، على الجانبِ الآخر كانَ جسدي مُثخنًا بجراحٍ حديثةِ عهدٍ موجعةٍ ولا تنقُصهُ حروقٌ من الدّرجةِ الأولى، والثواني تمضي دونما هوادةٍ والدّقيقةُ منتهيةٌ لا محالة!
عاودتُ تفحّصَ الغرفةِ علِّي أظفرُ بشيءٍ ما إلّا أنّ بصري آب إليّ حسيرًا، ازدادَ الجوُّ حرارةً وتفصَّد جبيني عرقًا مددتُ كفّي الراجفةَ إلى الماءِ وتأوّهتُ فورَ ما لمستني فأبعدتُها سريعًا وما استطعتُ أن أطيلَ، حاولتُ بما علقَ من قطراتٍ على كفّي أن أمسحَ به وجهي وشعري وما استطعتُ من ذراعيّ علّ ذلك يضلّلُهم، نظرتُ لكفّي فإذا به أحمرُ كالصِّرفِ، كنتُ أشعرُ بحرارةٍ فيه كأنَّه لازالَ أسفلَ الماءِ؛ فكيفَ لي أن أدخل بجسدي كلَّه تحت المياهِ؟!
توكَّلتُ على اللهِ وخرجتُ، وطالما لم يقتحموا الغرَف إذًا فالدقيقةُ لم تنقضِ بعدُ، وجدتُ غالبَ المساجينِ يهمّونَ بالخروج وتتسارعُ خُطاهم للمضيّ خارجَ الغرفةِ لئلَّا يطالهُم سخطُ السّجانةِ العُتاةِ.
لم أكَد أصطفُّ خارجًا حتّى اندفَع الحُرّاسُ للدّاخلِ وهم يصيحونَ بأعلى صوتهِم أن قد انقضى الوقتُ، أخرَجوا كلَّ من كانَ بالدِّاخلِ جرًّا وما تركوا سبيلًا للإهانةِ ما سلكُوهُ، بقيتُ ثابتًا في مكاني أتأمّلُ الحالَ، ثمّ جُلتُ بعينيّ في المكانِ أبحثُ عن قسوَرة حيثُ شغلَ بالي فلَم أرَه بيننا، أذكُرُ أنّي سبقتُه في الاصطفافِ؛ إلّا أنّي لم ألمحهُ في الصُّفوف، لا بينَ المصطفّينَ ولا كان بينَ المُخرَجين من الحمّاماتِ، زادُ عُجبي ولَم أهتدِ لمكانِه حتّى بعدما قفلْنا عائدينَ لزنازينِنا.
ولجْنا العنبرَ وتفرَّق المساجينُ لزنازينِهم إلّا أنا، إذ نوديَ عليّ من حيثُ لا أدري من ذاكَ السّجانِ البغيضِ ذي الشّواربِ الذي اكتشفتُ أنّه هو ذاتُه رئيسَ العنبرِ والمسؤول عنهُ، توجّهتُ إليهِ واستطعتُ أن أرَى بضعَ مساجينَ وهم يتخلّفونَ عن الدّخولِ لزنازينهم لرؤية ما سيحدثُ تاليًا، نظرَ في عينيّ بحدّةٍ فبادلتُه بأشدَّ منها وزدتُ من رفعِ هامتي فابتدرني متحدّثًا : « السّجينُ رقمُ تسعةٍ وعشرين، هاكَ بطاقةُ تعريفكَ. »
أقرَن قولَه بمدِّه لبطاقةٍ فيها تعريفٌ عنّي، الشّيءُ الذي ميّزني من بين آلافِ السّجناء، لم تحوِ اسمي، بل حوَت رقمي الذي أُنادى بهِ هنا، السّجينُ رقمُ تسعةٍ وعشرين.
كلُّ سجينٍ هنا كان له مثلُ تلك البطاقةِ معلّقةٌ على أقمصةِ السّجنِ التي يرتدونها، وآن لي أن أعلّقها أنا كذلك.
شردتُ في تلكَ اللّحظةِ بعيدًا....
ما الذّي حدَث فجأةً؟
متى حدثَ كلُّ هذا؟
متى سُلبَت حُريّتي؟
متى قضيتُ في هذا السّجينِ العتيدِ عشرةَ أيّامٍ؟
متى صرتُ أُكنّى برقمٍ؟
متى فقدتُ اسمي؟
ومتى...صرتُ أُكنّى بالإرهابيّ؟
التقفتُها من بينِ يديهِ فعلّقتُها ثمّ أمرني بالانصرافِ ففعلتُ وبالي ساهمٌ قد أطرقَ مفكِّرًا في حالي وما آلت إليهِ أموري.
كيفَ تلقّى الأهلُ خبري؟
أينَ قُصيّ؟
أينَ أخي؟
لم يصلني خبرٌ منهُ.
هل يا تُرى يتعمّدون وضع السّجين في تلك الحالةِ النّفسيةِ المقيتة؟
لا أسبتعدُ شيئًا وربّي!
لم يرِدْني أيُّ خبرٍ من لَدُن أهلي، كيف حالُهم؟
ماذا عن محاكمتي؟
أسأظلُّ معلّقًا هنا؟
ما أسرعَ ما انقلبَت حياتي!
كدتُ أن أشعرَ بالحرارةِ تشتعلُ في دماغي لشدّةِ ما تناوشتْهُ الأفكارُ والتّساؤلاتُ التي ما لها من أجوبةٍ لديّ.
حدّثتُ نفسي أن لا بأسَ؛ فكلُّ ما أصابَني ما كان ليُخطئني أبدًا والصّبرُ هو السّبيلُ الوحيدُ لأن أتخطّى ذلك.
دخلتُ زنزانتي فوجدتُ قسوَرة جالسٌ فوقَ سريرِهِ مُتربّعٌ يخطُّ شيئًا في ذات المفكّرةِ التي رأيتها معهُ قبلًا.
كانَت مفكّرةً جلديّةً لها لونٌ جمليٌّ باهتٌ، متقشّرةُ الجوانبِ نُقشَ عليها رقمٌ بارزٌ، بدا لي رقمَ تسعةٍ.
أخذتُ أحدِّق في ملامحِ وجهِه الثّلجيِّ، كانَ حاجباهُ منعقدانِ دومًا، أو لعلّ ذلك خُيِّل إليّ؛ إلّا أنّي طوال الوقتُ أراهُ حادَّ الملامحِ، غاضبًا.
« هَل لكَ أن تجيبني على تساؤلٍ لي يا قسورة؟ »
دنوتُ منهُ ثمّ سألتُه بنبرةٍ هادئةٍ علّي أجدُ ردًّا يخمُدُ ما يستعرُ في جوفي من لهيبٍ، لم يتزحزحْ ولا حرّكَ ناظريْه فقط ظلّ يكتبُ في مفكّرتِه، بعيونٍ حادّة لا تبرحُ مقصدها.
« لعلّك تستطيعُ أن تخبرني....»
لم أكَدْ أُتمُّ جملتي حتّى سمعتُ وقعَ خطواتِ أحدِ الحُرّاسِ، التفتُّ فإذا به سجّانُ العنبرِ، وقف أمامَ الزّنزانةِ ثمّ صاحَ : « السّجين رقمُ تسعةٍ وعشرين، إلياس النّجاريّ، أحدُهم يودُّ رؤيتكَ. »
· · ─────── ·𖥸· ─────── · ·
سلامُ الله عليكم!
كيف كان الفصلُ؟
سأفاجئكم اليوم بفصلين! ♡
أخبروني بكلّ ما يجول في خاطركم عن الفصل!
أي توقعات؟
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top