الفصل العاشر
وأعلم أنكَ المُلام حينما يحِل عليك غضبي،
فالغزلان لا تعبث مع الليث، غير إن كانت تنتوي المنية
"أُخبرك أنني قادم فتتجاهل أمري وكأنه لم يكن،" صاح قيصر فرنسا بغضب حاول أن يكتمه وهو يجوب في أنحاء غرفة المعيشة. "لقد توقعت من ابني الأبكر أن يُرسل درقية لقيصر ستراثكلايد لكن لا، أنت لم تتكبد عناء اخبار الخدم بمجيئي حتى."
"سيد اسكوبار، لا تُرهق نفسك. من المؤكد أن فرانسيسكو قد نسيَ الأمر." قالت باريس وهي تضغط على شفتيها، محاولةً تلطيف الجو.
"ينسى؟ وكيف له أن ينسى بأمر مجئي؟ إن لم يذكر ذاك فكيف سيتولى مسؤلية دولة بأكملها،أخبريني كيف؟!" صرخ السيد اسكوبار بغضب مرة اخرى وهو ينتظر رد ابنه القاعد على احد الكراسي. كان عاقد يديه تحت ذقنه، يجلس بصمت وبلا تعليق، وذلك أشد ما يدفع السيد اسكوبار للجنون.
ابنه عديم المسؤولية. لطالما عَلم أنه ليس كفؤا ليصبح قيصرًا من بعده، بل التفكير بذلك يجعله يود بوريث أخر يحل محله. فإنه قطعا لا يستطيع تسليم مسؤولية إمبراطورية لرجلٍ لا يعرف مسؤولياته البسيطة، البسيطة جدًا كأن يخبر رئيس الخدم بقدوم والده.
"اعتذر." كانت تلك الكلمة الوحيدة التي صدرت من فرانسيسكو.
التفت أباه اليه بقوة، عيناهما المتشابهتان تتلاقيان، لطالما خشيَ فرانسيسكو أباه ذا البطن الممتلئ. فبالرغم من سمنته وقصر قامته، فقد كان يتمتع بهيبة غريبة تُرهب من يحادثه وتجعل من أياً كان يتحذر من أي حركة يقوم بها. وفرانسيسكو ببساطة، تملل من ذلك الامر. لقد أُرهق من كلام والده ونهره المتكرر، تملل من أن يخشاه كلما لمح طيفه، وتملل بشدة من التوتر والضغط الذي يشعر به في كل مقابلة له معه.وكأنه يقابل عدواً لا سندًا.
"تعتذر؟ بكل تلك البساطة بعد أن أخرجتني مع الوفد؟ ما الذي سيُقال عني؟ أنني أقدُم وأذهب بلا ان يعرف أحدًا بالخبر، أليس لي أهمية لهذا الحد؟" تفوه أباه بغضب لم يعد يستطيع كتمانه.
"ليس ذنبي أنك لم ترسل رسالة الي تُقر بقدومك."
"وماذا عن الرسالة التي من المفترض انها وصلتك منذ ثلاثة ايام على الاقل؟"
"لم أراها، لم تصلني."
"واين كنت، أكنت تلعب وتسكر كالصغار؟"
"سيد اسكوبار، لا بُد من أنك مرهق. اذهب لأخذِ قسطٍ من الراحة. سأحادث فرانسيسكو بنفسي." تدخلت باريس مرة أخرى، محاولةً اخفاء نظرة الشماتة من عينيها.
تبعت عيناها اسكوبار وهو يستند على ضلعه الأيمن زيزو، حتى اختفيا من ناظريها والتفتت إلى فرانسيسكو بهدوء. "أكُنت تبحث عنها؟"
التفت فرانسيسكو اليها اليها بعد مدة متأملاً شعرها القصير الأشقر الذي بالكاد يصل لكتفها، إلا انه يعطيها جاذبية من نوع خاص. ردائها الأحمر الفخم الذي يبين تفاصيل جسدها المُصمم من أعلى المصممين أجراً في فرنسا، يميزها عن فساتين نساء ستراثكلايد الطويلة والمنفوخة، وأفكار كثيرة كانت تدور بباله في تلك اللحظة، الا انه قرر تجاهلها. "كيف علمتي؟"
كسفت باريس يداها وهي تتقدم للجلوس على ضلع الأريكة التي يجلس عليها. "وكيف لا؟ وقد انتشر صيت الأمر."
عقد فرانسيسكو حاجبيه بتعجب بينما أكملت باريس حديثها بثقة تامة وكأنها تقول الحقيقة. "لمَ تظن أن والدك قد جاء؟ الجميع يعلم بهوسك لتلك الإمرأة."
وقف فرانسيسكو واقترب من وجهها ببطء شديد قد وتّر باريس التي ضبطت أنفاسها بترقب. "أتظنيني مغفلاً لتلك الدرجة؟ إنني أشفق عليك، فأنا أعلم تماماً من هم حراسي ومن هم الدخلاء."
عيناه الداكنتين كانتا تتفحصان كل إنشاً من وجهها بتهديد حتى انها ابتلعت ريقها بتوتر. "إلا انني قررت التغافل عن الأمر لأرى ما نهاية الأمر معك، ولكن أن تجلبي أبي معك فهذا أمرٌ لا يُغتفر."
ابتعد وهو يعدل من ربطة عنقه وعيناه لا تغادرانها بينما كانت تنظر له بذهول وصمت حتى تركها لوحدها في غرفة المعيشة. تنفست الصعداء وأغلقت عيناها حالما اختفا من أمامها ووضعت كفها على صدرها. "انه حتى لم يرشدني لغرفتي اللعينة."
"هوني عليك، اننا حتى لم نبدأ بالخطة وها أنتِ تحاولين انكار مجهودي بإخراجي لكِ من السجن." قالت فاتن بتلاعب وعيناها تتفحصان ايميليا، وابتسامة غير مُطمئنة تُصاحب شفتيها.
ايميليا تنهدت بضيق، انها محبوسة لأيام هنا بحجة أن على فرانسيسكو ان يبحث عنها ولا يجدها فيُجن. في الواقع، ايميليا تدرك ان فرانسيكو ليس بملاك وقد يقترف بعض الأفعال الغير محمودة نتائجها ضد البعض، الا أن الأميرة فاتن هذه، مجنونة بالفعل. فمن ينتقم بهذه الطريقة الغريبة، خصيصاً وأن فرانسيسكو ليس بالعاشق الولهان الذي تظنه فاتن، او على الاقل هذا ما تعرفه هي.
هذا القصر كما احبت ان تسميه هي، بالرغم من اتساعه الا انه ليس مريحاً. لا احد هنا غير خادمتين لأن فاتن لا تظن ان ايميليا بحاجة لعددٍ كبير من الخدم. لقد نفتها الى أقصى البلاد بحق الله، وتمنعها من الخروج، انها بحاجة لوجود لأي شخص كي يخفف من وحدتها. هنا لا توجد حتى عدة خياطة كي تستغل وقتها الفارغ هذا في تصميم بعض الثياب.
"مجهودك؟ رجاءًا انتي بالكاد رفعتي إصبعاً حتى يخلوا سبيلي."
رفعت فاتن إحدى حاجبيها. "لا تنتقصي من قدراتي لذلك الحد، قد أُبهرك."
"كُفي عن اللعب، قد لا أكون أميرة ولكنني لا زلت أكبرك بما لا يقل عن خمسة أعوام. ولن تحبسني فتاة مدللة مثلك." وقفت إميليا وعيناها البنفسجيتان اللتان لطالما جعلت الغيرة تفور بداخل فاتن تحدقان بها.
على الرغم من ان ايميليا توقعت ردة فعل قوية من فاتن الا ان فاتن أطلقت ضحكة مستهترة ذات رنة مميزة، رنة ساخرة. وبعد ان انتهت من نوبة ضحكها المُفاجئ استقامت بجلستها لتقول. "لو أن أبي سمعك تتفوهين بتلك التُرهات لأنفجر ضاحكاً. نعم، انا لا اهتم إن كنتي اكبر مني سناً، إن لم أضع لكِ قيمة في قاموسي، فأنتي لا شيء. ونصيحة صغيرة مني، حاولي بقدر الإمكان وضع قيمة لنفسك عندي. فأنني أشفق عليك للحد الذي يجعلني أفكر في وضع مكانة لكِ."
لو أن العينان باستطاعتهما القتل لكانت فاتن ساقطة بدمائها الأن، كانت ايميليا تفور غضباً. كانت بالكاد تمنع نفسها من صفع فاتن وتشويه وجهها الفاتن ذاك. بينما كانت ايميليا غارقة ببحر افكارها الدموية، كانت فاتن قد أخذت حقيبتها الجلدية السوداء واستعدلت بهدف الرحيل. تاركةً ورائها كومة أفكار لا أنيس لها. وبالطبع، لم تنسى ان تهمس بأذن ايميليا كلمة وداعية جعلت ايميليا تكسر كل ما أمامها تنفيساً عن غضبها. وبذلك اليوم أدركت انها لم تكن تتعامل مع فتاة عادية، بل كانت مصيبة تمشي على الأرض.
لم تكن خطة فاتن أن تزعج ايميليا نهائياً، ففي النهاية هي من تحتاج اليها. إلا ان لكل شيءٍ ثمن. وما اقترفته ايميليا لا يمكن لفاتن ان تتعامل معه برفق.
أخبرها امين صباح اليوم ان ليث يبحث عن فتاة، وياللمفاجأة، تلك الفتاة لم تكن سوى ايميليا. لقد اشتطت غضباً عندما علمت. طوال هذه المدة وهي تحتقر ليث والفتاة التي كان يزورها بالسجن، وياللعجب ان الفتاة هي نفسها من أُعجب بها فرانسيسكو.
لقد غضبت وشتمت ولامت أمين، الا انها تدرك ان ليس له ذنب بهذا. أما ايميليا، كلما شعرت بالذنب جراء معاملتها الفقيرة لها، ستُذكر نفسها بأن هذه المرأة تشغل بال من يشغل بالها هي، وسيقسو قلبها اكثر من ذي قبل. على كلٍ، اليوم في حفل استقبال قيصر فرنسا، تنتظر الجميع مفاجأة جميلة مُقدمة من ابنة القيصر.
النميمة، لطالما كانت لعبة مسلية لفاتن أن تقوم بما يثير نميمة الشعب.
وعنصر المفاجأة هو أفضل ما في الموضوع، لهذا، بينما كان الحضور ملتهين بالحصول على رضا اصحاب النفوذ وذوي الطبقات العالية، كانت فاتن تنظر لهم بازدراء وفي يدها كأسٌ من النبيذ وابتسامة ليست لطيفة مرتسمة على شفاهها . كلما التقت عيناها بعيني ليث أو فرانسيسكو، تتسع تلك الابتسامة.
حيدا لم تكن مطمئنة لوضع فاتن، الا انها لم تسأل. فإنها اعتادت ان تعلم بمستجدات افكار فاتن دوماً، وهي متأكدة أن فاتن ستخبرها حين يحين الوقت. او ربما حيدا لم تُلقِ بالاً كثيراً لفاتن لأنها كانت تبحث عن شخصٍ ما في بين الحضور، وبوجه الخصوص سينا.
انقبض قلبها حينما وقعت عيناها عليه عند المدخل وهو يلتفت يميناً يساراً باحثا عن شيءٍ ما. لم تشعر بنفسها ولا تفكر بالأمر حتى قبل ان تتجه اليه تاركةً ورائها فاتن التي لم يعد هناك من يستطيع ردعها عمّا ستفعله. في تلك اللحظة المناسبة، خطى ويليام الى فاتن بإبتسامته اللطيفة البلهاء بحد ظن فاتن.
احتدت عينا فاتن بمقدار بسيط حالما رأته. "ويليام؟"
اتسعت ابتسامته اكثر. "ألا احصل على ترحيب؟ على الاقل أمام هذا الحشد؟"
ابتسمت فاتن ابتسامة مزيفة وهي تقترب منه لتطبع قبلة على خده الأيسر وتهمس بأذنه. "بالطبع، ولمَ لا؟" ثم استقامت وكأن شيئاً لم يكن، بينما ويليام كانت ضربات قلبه تُسمع في أذنيه، يشعر بحرارة في جميع أنحاء جسده بالرغم من برودة القاعة. ابتلع ريقه وهو يبتسم بارتباك.
ضيقت فاتن عيناها. "ما دهاك؟ تبدو مذعورا وكأنك رأيت شبحاً."
أفلت ضحكة بتوتر، "لا، لا شيء."
قلبت فاتن عيناها بتملل وهي تنهي ما تبقى من مشروبها وتضعه على احد الطاولات ببرود. "إذاً سأذهب لأُنهي أمراً ما، اتفقنا؟" وقد اختفت من ناظريه قبل ان يحصل على مهلة ليرد عليها. تنهد ويليام
بضيق، فاتن تبقى فاتن.
بينما في الجانب الأخر من القاعة، كان محط الأنظار يتأمل والده وهو يضحك ويتسامر أطراف الحديث مع مالك المنصور وإخوته، وكأنه لا يكن الضغينة لهم. الا انه في السياسة، كل شيءٍ مخفي. ولا ندري من هو الصاحب ومن العدو.تنهد بضيق وهو يبتلع شرابه السادس في هذه الليلة بينما يؤشر لأحد الندلاء بأن يحضر له شراباً اخر.
نظرت اليه باريس التي تقعد مقابلة له بنوع من القلق. "ألم تشرب ما يكفي لليلة؟"
نظر لها فرانسيسكو مضيقاً عينيه وهو يأخذ كأساً اخر. "لا."
تنهدت باريس بإرهاق وعيناها تتفحصان القاعة، كانت هي تتميز عن أغلبية الفتيات هنا بردائها الأحمر العصري الذي يصل لركبتيها. وذلك أمر تفتخر به، فباريس لم تخشى يوماً من الأضواء، ولكن ما تخشاه حقاً هو ان يسرق منها احد تلك الأضواء،وبالطبع، تلك هي مهمة الاميرة فاتن.
لطالما كنَّت لها الضغينة،فما أن تشد الرحال لستراثكلايد حتى يبدأ الناس بالحديث عن جمال ابنة القيصر المثالية،وعندما تعود اخيراً لفرنسا، يسألونها الناس عن أميرة ستراثكلايد، هل جمالها خلاب لتلك الدرجة بحق؟
ضربت قدمها الارض وهي تنظر للأميرة تدخل القاعة وتتوجه الأنظار نحوها، ولكن عينا باريس لم تتوسع لفستان فاتن الأسود الذي أعطاها هالة من الجاذبية متماشياً مع عيناها السوداوتين، في الواقع كانت عينا باريس على من كانت تمشي خلفها.
أوقع فرانسيسكو كأسه على الارض بصدمة، عيناه لا تُحيدان عنها. تلك الفتاة، من كانت تمشي خلف فاتن مرتدية فستان بدى وكأنه من عصر أخر،لم تكن سوى محبوبته.
ما الذي تفعله هنا، وكيف وصلت لفاتن. بل لمَ فاتن تنظر اليه بتلك النظرة المستفزة، وكأنها تعلم بما كان يدور بينه وبين ايميليا. مهلاً، أيعقل انها تعلم؟
في لحظة من انعدام التركيز، استقام فرانسيسكو فسقط كرسيه ورائه مصدراً ضجيجاً عاليا جذب انتباه الحاضرين. "ايميليا!" صاح بتعجب وعيناه تتفحصان تلك اللئيمة التي تقف بجانبها. لقد نسيَ العالم وهو يبحث عن ايميليا، وهاهي تقف وراء فاتن بخضوع وكأن فاتن تمتلك سلطةً عليها. ومن يقيد فتاة كأيميليا؟ تلك أمرأة حرة بالفطرة.
"فرانسيسكو! ما الذي تفعله؟" فرانسيسكو لم يكترث بالنظرة المنحرجة والغاضبة التي كانت متكدسة بعيني أبيه، بل ما كسره هي نظرة محبوبته المعاتبة والحاقدة . وكأنها تلومه على حالها، على تورطها الغريب مع فاتن . وما أَلَمه أكثر، انه يدرك انه حقاً المُلام.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top