الفصل التاسع
وقد قيل للمليحة تبسّمي، فما يزدانك حُسناً غير ابتسامتُكِ
الانتظار، لطالما افتقرت ابنة القيصر لهذه الصفة.
وبينما لم يشكل عدم اتصافها بالصبر فارقا بالنسبة لها، كان يشكل الامر مشكلة كبيرة لمن حولها، وخاصة عمال القصر.
كان ذلك حال أمين، بئر اسرار فاتن الذي لا يتحرك قدر انملة بغير إذنها. ولكم تمنى في لحظات أن يترك عمله بسبب لسانها الذي لا يرحم، الا ان العائد المالي يغلب افتقارها للأسلوب المهذب عند محادثته. ولهذا السبب بالذات، كان في غرفة الاجتماعات بالقصر، يقف في احدى زواياه بينما تتأمل السيدة فاتن الاوراق التي وضعها على الطاولة منذ دقائق فقط.
عيناها الواسعتين تلتهم كل كلمة كُتبت على هذه الاوراق الرسمية، أوراق إدانة لإحدى السيدات المشرفات في المجتمع الفرنسي. بتهمة سرقة ملفات لشركة اخرى. ولكن بالرغم من عظمة صنيعها، كان بإمكان فاتن إبطال هذه التهمة ان شاءت. وكان هذا مُرادها منذ ان طلبت اوراقها. بعد مدة استقامت فاتن بجسلتها وهي تضع الاوراق جانبا.
"جميل، اتمنى ان تصل هذه الرسالة للضابظ جون لا غير." قالت فاتن بنبرة صارمة وهي لا تتعنى بالنظر الى أمين وهي تمد يدها الممسكة بظرف اليه.
"وأتمنى ايضاً ان تبشرني بالأخبار السّارة بعد ذلك." أخذ امين الظرف من يدها وهو يومئ.
"أمرك سيدتي." قال وهو يهُم بالرحيل وعينا فاتن تتبعانه وشبه ابتسامة خبيثة تعتلي شفتاها.
"قد أكون أخرجت حبيبتك من السجن، إلا أنني سأخرجها لتجعل من حياتك جحيما عوضاً عني." قالت بهمس.
طُرق الباب ثلاث طرقات، تجاهله بلا وعي وهو يقرأ المستندات التي بين بيديه. يعدل نظارته المخصصة للقراءة في كل حين بتركيز. عينيه الزرقاوتين تلتهمان كل كلمة كي لا تفوته فائتة.
طرق الباب مرة اخرى كما ما كان يُطرق منذ عشرة دقائق على الاقل. رفع رأسه بانزعاج وهو يسمح للطارق بالدخول. فدخل سليم بهدوء وبيده كأس من القهوة والذي أضاف اليها بعض من الشوكولا، مثل ما يحبها ليث وقد اعتاد عليها عند بعثته في فرنسا.
شعر ليث ببعض من الحرج كونه جعل من 'سليم' يده الأيمن والذي يكبره بعشرة سنوات على الاقل ينتظر خارج بابه لكل ذلك الوقت. "تفضل، اسف على إيقافك خارجا لقد كنت منهمك بالعمل."
"كما ما تفعل دائما." ابتسم سليم قائلا بجمود ورسمية وهو يضع كوب القهوة على طاولة، فهكذا هو سليم، بالرغم عن معرفته القديمة بليث الا ان قناع الجمود لم يتلاشى ولو للحظة عنه. وقد ادرك ليث منذ زمن انها طبيعته التي لا يستطيع ان يتخلى عنها، مثلما لا يستطيع التخلي عن حبه للعمل. او مثلما لا تستطيع فاتن ان تصبح لطيفة ولو لثانية.
ابتسم ليث واومئ بصمت وهو يرتشف من قهوته وقد خرج سليم، ولم تمر دقيقة الا وهو يطرق الباب مرة اخرى. ليدخل بعدها بأوراق اخرى سيعمل عليها ليث طوال الليل كالعادة.
"لدي بعض الأخبار التي ربما ستهمك." قال سليم وملامحه باتت مملة من كثر الجمود. فرفع ليث حاجبه في انتظار الأخبار المزعومة.
"ان الآنسة ايميليا ستخرج الليلة." قال سليم بجمود وهو يضع الاوراق على طاولة المكتب.
عقد ليث حاجبيه بتعجب، فهل يعقل ان المحامي الذي وكله لها قد حل قضيتها بهذه السرعة ولم يخبره بالأمر حتى؟
"كيف؟ وبأمر من ستخرج؟" صمت للحظة، "هل حُلت قضيتها، ستخرج ببراءة؟"
هز سليم رأسه نافيا. "في الواقع ان السيدة فاتن أمرت بإخراجها، لا بدليل او غيره."
عقد ليث حاجبيه بتعجب، من اين قد تعلم فاتن عن ايميليا، وبأي دافع ستقوم بإخراجها من الإيقاف؟ اسئلة كثيرة بدأت تحوم حول رأس ليث. لم يشعر بنفسه وهو يقف تاركا ورائه عمله.
"ستخرج؟ ما هذه الترهات التي تتفوه بها؟ انها لم تتحاكم بعد."كانت تمشي يمينا ويسارا ودقات قلبها لم تهدأ. قد يبدو هذا التوتر طبيعيا لشخص قد سمع لتوه ان من سرق ممتلكات شركته حراً طليقا بلا ان يُعاقب، ولكن المشكلة هي أنه لم يتم نهب أي من ممتلكات باريس كينجستون. لذا، توترها الواضح على ملامح وجهها الحسن كان له تفسير واحد فقط، خوف من كشف المجهول.
كان محاميها والذي يقعد على كرسي مكتبها الخاص يدرك ذلك جيدا، فبعد العمل معها لخمس سنوات، والعمل في هذه الشركة عشرة سنوات قبل ذلك، اعطته الخبرة الكافية لمعرفة ان عائلة كينجستون لا تتعامل ببراءة نهائيا، بل ان اغلب قضاياها ملفقة. الا ان ذلك لم يكن يوماً دافعاً سيئا كافٍ ليتخلى عن عمله، خصيصاً وان الآلاف تُرمى اليه لكل قضية، في الواقع، انه اكثر من يخرج بالفائدة بفضل هذه القضايا الملفقة.
لم تكن باريس تعي ما يدور ببال محاميها الأبله كما تحب ان تنعته، لأنها كانت مشغولة اكثر بالتفكير بعواقب افعالها. ان اكتشف فرانسيكو هذا فلن يرحمها. في الواقع، هذه الخطة لم تعد بالنفع اليها نهائيا. فبالرغم من انها لفقت التهمة الى ايميليا وهي في ستراثكلايد، فقد سار اليها فرانسيكو الى حيث تقبع. كان تدخلها متأخراً جدًا، لقد وقع في حبها بالفعل. وكل ما فعلته هو اثبات حبه لها، وانهاء اي فرصة كانت ستحصل على فرانسيسكو بها.
تقافزت خصلات شعرها الأشقر القصيرة مع كل خطوة خطتها حتى وقفت أمام المرآة. تتأمل نفسها بدءًا من حذائها البحري اللون وردائها المتطابق اللون البسيط. ملامحها كانت حادة وجذابة، عينيها مسحوبتان وكأنها تمتلك أصول صينية، انفها سليل كسلة السيف. قد لا تكون اكثر النساء جمالاً، الا انه بجمالها وذوقها الرفيع معاً، كانت أكثرهم جاذبية في نظرها. لم تفقه يوما لم يختار فرانسيسكو نساء أخريات بالرغم من انها أمامه دائما. أولا تلك الأميرة المغرورة وحمدا لله انها رفضته، والآن هذه القطعة من القمامة المسماة بأيميليا. لقد طفح الكيل، ستشد الرحال الى ستراثكلايد، ولن تعود الا وفرانسيسكو قد وضع خاتما على إصبعها.
ابتسمت فاتن ببرود وهي تتأمل انعكاسها على المرآة، تضع الحمرة على شفتيها ببرود وهدوء. صباح اليوم، ستصل مفاجأة جميلة اليها. خرجت من غرفتها بهدوء برداء احمر صاخب، متجهة لغرفة الجلوس حيث تقبع المفاجأة.
دخلت الغرفة فملئتها بكيانها المفتخر، ترمق من تقعد على الأريكة بنظرة استعلاء وهي تأخذ مقعداً بجانبها.
"أرى أن الحسناء قد شرّفت القصر اخيراً." قالت فاتن وهي تبتسم ابتسامة غير لطيفة على الإطلاق. لقد علمت ايميليا منذ أن خرجت من السجن، بأنها ستقع في سجن أخر. فقد قيل لها ان ابنة القيصر قد أخرجتها، ولكنها تطلب مقابل.
وبالطبع، ابنة القيصر لن تطلب القليل. بل أنها بالكاد تطلب، فمن نظرتها المتعالية، تستطيع ايميليا معرفة انها ستأمرها وليس لها محل الرفض لأنها أخرجتها من ذاك الجحيم.
لم تتحرك قيد أنملة وهي تترقب كلمات فاتن التالية.
"أأخرسكي السجن أم ماذا؟ إن سمعتك تقول بأنك ذو لسانٍ سليط." تبدلت ملامح فاتن فجأة ليحل محل التلاعب والخبث في عينيها نوع من الجدية وهي تتأمل صبغة أظافرها الحمراء تارة، وتنظر الى ايميليا تارة.
"ما هو المقابل؟" رفعت ايميليا رأسها اخيراً، وهي تشعر بنوع غريب من النقص وعدم الكمال، فبجانب جمالٍ كالذي أمامها، ما تكون هي؟ وبجانب ثياب فاتن الفاخرة، كانت ايميليا ترتدي ثيابا بسيطة أُعطيت اياهم في السجن، كانت تشعر بالقرف لعدم ارتدائها زياً أنيقاً قد صممته هي بنفسها وحاكته بيديها.
"أنكِ مباشرة، نقطة إيجابية لصالحك." قالت فاتن وهي تعيد خصلات متمردة من شعرها الى الوراء. "المقابل بسيط جداً، إن فرانسيسكو اسكوبار معجبٌ بك، وأود منك ان تقتلعي قلبه."
توسعت عينا ايميليا بتعجب.
ليث يدرك تماماً انه من وافق على إقامة ويليام عنده، يدرك جيداً انه من شجعه على التقدم لفاتن، ويذكر جيداً انه من حث فاتن مرارا وتكراراً على ان تقبل به. فلمَ دهاه يشعر بهذا الانقباض بقلبه وهو يراقب فاتن وويليام يتبادلان أطراف الحديث؟
لا، هما لم يكونا فقط يتبادلا أطراف الحديث، في الواقع، كانت إصبع فاتن الصغرى مخبأة بيد ويليام بتملًُّك وهي تضحك على شيء قد همس ويليام به لها هي، مقترباً من مساحتها الشخصية وهو يهمس لأذنها بين الحين والآخر.
في الواقع، لقد كان يشعر بحرارة مريرة في صدره، فمن العجب ألّا يسمع عن خطبة صاحبه لإبنة عمه الا بعد اسابيعٍ من صدور الخبر. فبالرغم من انه لن يغير شيئاً، الا انه شعر بأنه منبوذ، وبأن ويليام لا يثق به كفايةً حتى يخبره بأبسط تفاصيل حياته، كأن يكون المرشح الاول للزواج بفاتن. وما يزعجه ايضاً، ان الامر لم يكن مخفيٌ عن جودا او حيدا، هل يعقل انه ارهق نفسه بالعمل لدرجة ان لا يعرف اخبار العائلة.
أنزل عينيه عن طيور الحب وهو يقف مستأذناً الملك للعودة الى المنزل. سار بخطى متسارعة حتى أوقفه صوت لم يتوقعه.
"ليث! لحظة، سأعود معك."
التفت ليث ليرى ويليام بشعره المبعثر وابتسامته البلهاء على وجهه وهو يلحقه، كانت ثيابه ملطخة باللون الأحمر القاتم، فثبتت عينا ليث على سترته لفترة.
"ماذا؟" عقد ويليام حاجبيه، وما ان أدرك ما ينظر اليه الليث حتى قال. "اوه، ان فاتن مشاكسة بالفعل." بدء يقهقه بطريقة غريبة وهو يبدء بالثرثرة عن شيءٍ ما. الا ان الليث لم يكن يستمع لأيٍ من ذاك، فدقات قلبه كانت تُسمع في أذنيه من قوة ضرباتها. الاحتمال الذي وضعه الليث في ذهنه عن ماهية ذلك التلطخ، لم يكن صواباً، الا انه وبصدمة معرفته بخطبة فاتن لويليام كان مشوش التفكير بشدة. بشدة لدرجة انه نَسي أن يلتقي بأيميليا كما وعدها بالأمس بعد ان خرجت من السجن.
لقد عادا الى قصر ثيتا المنصور وويليام ما زال يشكو من تجاهل ليث له، بينما ليث لم يلقي له بالاً وهو يدخل الى مكتبه. كان عليه العمل، فليث دائماً ما يلجأ لعمله ليشغل باله عن التفاهات التي لا معنى لها، كما أحَبَّ أن يُسميها.
لقد كان فرانسيكو يتمنى قدوم تلك اللحظة التي سيسمع بها عن افراج حبيبته، ولكم تخيل ردة فعلها عندما تراه أول الحاضرين ليهنئها بذلك.
لن يكذب فهو توقع أن تمزقه إرباً ما أن تلمحه، أو حتى تُبرحه ضربًا حتى يُطرح على الارض مصابا بحبها. أو حتى أن-بالرغم من قلة احتمالية ذلك- تقبل رؤيته وتحادثه بشكل طبيعي كأي صديقين على الاقل كما كانا في السابق. الا انه قطعا لم يتوقع ان تكون قد خرجت من السجن منذ يومان بالتحديد، كيف لم يعلم بالأمر وهو قد كلف احد جواسيسه بنقل الخبر اليه. الا انه الظاهر ان الامر تمَّ بسرية تامّة. وبالرغم من ادراكه لذلك، لم يمنع نفسه من طرد ذلك الجاسوس عديم الفائدة، لعّل ذلك يشفي غليله.
كان يمشي يمينا ويسارا، للأمام والخلف بخطوات متوترة وهو ينتظر أي اخبار تخصها.
دخل احد الخدم وبيده رسالة، فأتجه اليه فرانسيكو بعجلة وأخذ الرسالة وشقها لنصفين حتى يقرأ ما بداخلها، وكانت هناك الصاعقة.
نظر اليه الخادم بتوتر. "سيدي، أنك لم تمهلني فرصة لأُخبرك بأن الرسالة من-"
لم يرمش فرانسيكو وعيناه مثبتتين على الورقة التي بيده. "لا داعي، يمكنك الخروج."
همَّ الخادم بالرحيل خوفا من طيش سيده، ولكن صوت سيده الجامد استوقفه.
"ولا تعد، أنك مطرود."
أبتلع الخادم ريقه بقهر وعينيه على الأرض، لم يكن له ذنبٌ بأي هذا، فلمَ يُحاسب هو. اخذ خطوات متسارعة للخارج والقهر يأكل قلبه. أما فرانسيكو، فقد اتخذ مقعدا وهو لا يزال يتأمل الورقة التي بين يديه، فإنه يدرك في قرارة نفسه ان ما سيكون مكتوب على الورقة، سيرهقه بشدة.
لدقيقة كاملة، كان يقلب الورقة بين يديه وهو يفكر باحتمالية محتواه، حتى تجرأ اخيرا وبأصابع مترددة، فتح الرسالة.
"من قيصر فرنسا لإبنه الأبكر فرانسيسكو اسكوبار
لقد طالت مدة لهوك في الخارج، عليك العودة في أقرب وقت. أرسلت باريس مع وفدٍ لإعادتك.
أراك قريباً."
تلك الرسالة، لم تحتوي على اي معاني الأبوة، بل انها افتقرت حتى لأسلوب الترغيب. كان والده وكعادته، يأمره وينتظر منه التنفيذ. بكل تلك البساطة. تكورت يدا فرانسيكو حول الورقة بقهرٍ مكتوم وعينيه على الأرض.
حاضر، أبي.
خلاص بكذا عرفنا كل الشخصيات المهمة، وسوري ع التأخير :)
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top