الفصل الاول
يا من أرهقني هواه
وقتلني بعاده
كيف السبيل إليك
فإني بغير وصلك تائه
دخلت فسحرت أنظار جميع الحاضرين، وما كان من ابتسامتها الا ان زادت من تأثير ذلك السحر، كان ذلك حبل افكارها و هي تنقل نظرها بين الحاظرين لإحدى حفلات ابيها الملكية التي لا تنتهي. تلاقت عينيها بعينيه، و انخفضت عيناها لشفتيه المبتسمتين باستهانة و سخرية.
تلك الابتسامة كانت تعرفها من شخص واحد فقط و لا غيره، تلك الابتسامة كانت الدليل على انه الناجي الوحيد من تعويذة ابتسامتها و يالها من تعويذة.
أخذت نفسا عميقاً تستنجد به لتتحمل صده، فصده لا يُحتمل. أخذت خطوات كانت لها هزيلة و غير واثقة، و للناظرين خطوات غنجية أنثوية واثقة. بينما التهى الحضور بما كانوا يقومون به قبل دخولها الارستقراطي، لم ينزل عينيه هو عنها. كيف يفعل و هو يدرك انها متجهة اليه، و بمعنى اخر، القلق و الثرثرة تتجه اليه. في تلك اللحظة التفت للجهة الأخرى محاولا ايجاد اقرب مخرج، فرآها.
فتاة لا تصغر عنه سناً وبالكاد تكبره سناً، طويلة القامة شديدة البياض، شعرها الداكن الطويل منسدل على كتفيها بأريحية. ملامح هادئة جذابة، بالرغم من كل ذلك، لم تكن لتصل لجمال الفتاة التي قريبا ما ستكون خصمها. بلا تفكير أخذ يتقدم نحوها و نقر بإصبعه على كتفها.
يكاد يقسم ان النفس كاد ان ينقطع عنه حين التفتت له، و لم يكن ذلك بسببها، بل لان خصمها قد شارف على الوصول، و نظرة الخصم لم تكن لتطمئن أياً كان.
عينيها ازدادت سواداً على سواده المهيب، و لم يكن ذلك الا إشارة لإندلاع حرب غيرتها، حرب تعلم تماماً كيف الفوز بها. وجهت نظراتها الثاقبة لصاحبته المبتسمة برقة بينما عينيه تراقبان ابتسامتها بارتباك و شرود على الرغم من وجود ابتسامة على شفتيه تحث صاحبته على إكمال حديثها.
للحظة كادت ان تنفطأ نارها و توفر الجميع ثمن اندلاعها، لأنها للحظة أدركت انه اخذ صاحبته كإلهاء فقط، و لكن كسرعة انخمادها اندلعت من جديد ما ان رأت الفتاة ذو الشعر الكثيف الاسود ترفع نفسها على كعبيها لتطبع قبلة على خده، نقلت نظراتها اليه لتجده مبتسما بلطف كما لم يبتسم لها هي يوماً.
ثارت مشاعرها، و لم تستطع منع نفسها من التقدم، بل و إيكاد مكيدة من مكائدها التي هي معتادة عليها. و لكن قبل ان تخطو خطوة أخرى، أمسكت بها يد تعرفها تماما، التفتت لترى صاحبة العمر.
طويلة القامة، تجذب الناظرين و المارة، تشبهها بكل ما تعنيه الكلمة و حتى ان الناس قد كرروا سؤالهم كثيرا على كلتيهما، "هل أنتما توأمتان؟" و ما ان تأتيهم الاجابة بالنفي حتى يُسأل سؤالاً غيره، "ولا اختان؟" و للصراحة فإن فاتن ترى ما يرون، فحيدا هي توأمها شكلياً، غير انها هي اكثر جاذبية و ثقة. رمقت اختها التي لم تجلبها امها نظرة عديمة الصبر تحثها على قول ما بجعبتها.
"على ماذا تنوين؟ الا ترين انها ردة الفعل التي يتوقعها منك؟"
هزت فاتن كتفها موقعةً بذلك يد صديقتها، تحثها لتكمل مرة أخرى بنظرتها.
تنهدت الأخرى لتكمل. "كوني و لو لمرة شيئاً لا يتوقعه، لعل ذلك يجذبه نحوك."
"وما الذي سأفعله و لن يتوقعه؟ اكاد اقسم انه يحفظ كل تحركاتي، الصغير و الكبير منها."
"فاتن، ماذا دهاك؟ انتِ اكثر فتاة كاسرة للتوقعات اعرفها، لا أحد يعلوكِ بذلك، افعليها كما تفعلين دائما. اكسري التوقعات، اكسري توقعي معهم."
بالرغم انها لم تساعدها باقتراح او حتى تلميح، فاتن شعرت بالامتنان لوجودها و لنصيحتها. و لتظهر ذلك، ابتسمت ابتسامة ساحرة و التفتت للمخرج، كانت على وشك تقديم عرض لن ينساه الحاضرين أبداً، و سيتناقله الناس بينهم حتى يصل الأمر له و يمل منه، لن يمل من سيرتها الا هو، هو فقط.
رأسه على كتف زميلته في الرقص، ينظر للحاضرين بكل تملل، فحمداً لله قد غادرت مصيبته من الحفل. لا يفهم اهتمامها الخاص به هو بالذات، فيالكثرة الرجال الذين يودون بنظرة منها، فكيف بها كلها. لمَ اختارت ان تلاحقه هو، من رفضها و رفض قربها من بينهم كلهم. أتحب ان تُذل؟ ام تحب التحدي و كسر الغرور. فإن كان كذلك فهو مستعد للقسم بأن ما به ليس غرور، و لكن استنفار من شخصية لا تعجبه و لا تناسبه، و يعلم جيداً انه و بمجرد إقامة علاقة معها ستهب مهب الريح في نفس اللحظة. ببساطة لا يرى نفسه مع امرأة صاخبة كتلك، لا يرى نفسه بجانب ذلك الغرور و الجمال الذي سيجذب نظر كل الرجال حولهما مهما حاول ان يمنعهم. و هو يدرك في قرارة نفسه انها و ان حاولت التقليل او حتى عدم تزيين نفسها فان ذلك لن يقلل من جمالها، بل سيزيدها أنوثة و برائة لا تُقاوم. أليس باستطاعتها فهم انه شديد الغيرة على شريكاته؟ لا يكمنه تحمل نظرة رجل على شيء يخصه، و هي تلاحقها نظرات مهووسة تشتهيها طوال الوقت.
نفض رأسه من تلك الأفكار التي بدأت بإشعاره بالغثيان، و حاول إعارة شريكته في الرقص بعض من الاهتمام بدءًا باستماعه إلى حديثها. ففقه انها تتحدث عن جمال القاعة و مدى امتنانها لحضور حفلة كهذه، فهي لم تعتد الحضور لحفلات كهذه من قبل.
تابعت كلامها و هو مستمع فقط، يحركها بخطوات رقص متكاسلة حتى سمع شهقتها فحاول النظر الى ما كانت تحدق به بعينين متسعتين من الدهشة لمدخل القاعة الكبرى. تابع نظرها لينظر للمشهد الذي بات الجميع ينظر اليه الان.
حمقاء.
ذلك كان الشيء الوحيد الذي دار بذهنه و هو ينظر لفاتن تدخل للمدخل و بيدها باقة ورد بيضاء و ثلاث منها زرقاء، واحدة فقط كانت صفراء. ففهم جميع الحاضرين إلى ما ترمي اليه.
ابتلع ريقه و هو يراها تصوب نظرها اليه بابتسامة و كانها ابتسامة تحدي. و لكنه لا يرى التحدي في الموضوع، ليس تحدٍ يخصه على الاقل.
"أيعقل ان تفعلها؟ الم يتم منع هذه الطريقة للزواج منذ.. منذ الملكة سيدا الثانية؟" همست زميلته بتعجب.
هز رأسه هو الآخر بإيماءة شاردة، ما الذي تحاول الرمي اليه؟ انها تعلم جيداً انه لن يشارك بهذه المهزلة خصيصاً ان مئات الرجال بل الوفهم سيتقاتلون لأجلها، فهي تعلمه جيداً. يفضل السهل على الصعب، و هي بحركتها هذه ازدادت الحصول عليها صعوبة، و هو لن يشارك بهذه المهزلة.
"ما الذي يحدث هنا، الأميرة فاتن؟" أحد الرجال الذين كانوا جالسين على العرش هتف، و لم يكن هذا الرجل عادياً فهو مالك هذه المدينة و هو حاكمها من أعلاها لأدناها، و لكن بالرغم من علو مكانته فهو لم يهز شعرة من ابنته التي تمتلك ذات ملامحه الحادة، ورثت حدة العينين وسوادهما منه، تلك الأعين المهيبة تتبادل النظرات في تحديٍ صامت أدركه الجميع.
"اتبع خطوات امي يا ابي." كان ذلك كل ما نطقته الفاتنة لتستدير بعد ذلك لتخرج من القاعة بخطوات بطيئة يُدق فيها صوت كعبها العالي ليصبح على مسمع الجميع. خرجت مخلفة ورائها دماراً قد انخمد منذ عشرون سنة و كان لأبيها صلة وثيقة به، و هاهي تعيد اشعاله و أليس ذلك ما تفعله على أتم وجه؟
يمشي يميناً و يساراً و دقات قلبه لم تهدأ، منذ الصباح تردد ثلاثة و ثلاثون رجلاً للقصر بهدف ارضاء ذوق الأميرة لاختيارهم، فبالرغم من أن القيصر نفسه نفى حدوث اي شيء بالأمس و هو ضاحكاً قائلاً بأنها خدعة ابريل المتأخرة الخاصة بابنته، الا ان أحداً لم يقتنع و رغبوا في المحاولة.
"اهدأ يا أيها القيصر فأني اخشى عليك." أردفت امرأة القيصر تقول و هي تتبعه في خطواته الكبيرة.
"وكيف لي ان اهدأ و فاتن تلك أحيت أسطورة كانت في طي النسيان."
"اعلم ذلك تماماً، لكن صحتك اهم يا عزيزي، و ثم.."
توقف القيصر عن مشيته الغاضبة منتظراً الناقص من حديثها. "ثم ماذا؟"
اقتربت منه زوجته ووضعت يدها على كتفه في محاولة منها لتهدئته. "ما المحزن كثيراً في ما فعلته ابنتك؟ فها هي قد كبرت و أصبحت في سن الزواج. انها مؤهلة تماماً لهذا الأمر."
"اجننتي يا رمانة؟ اتعلمين خطورة ما تفعله؟ أنسيتي انني كدت ان أُقتل بفضل هذه الأسطورة سابقا؟"
ابتسمت رمانة برقة وهي تبعد خصلات شعرها السقراء عن وجهها."ولكن ها أنت بكامل عافيتك، و ما الشيء في القليل من التشويق و الإثارة، فلنرى مدى رغبة الرجل الذي سيتزوج ابنتنا بها."
"تعنين رغبته بمالها و منصبها، لا حباً بها." قال مالك المنصور بصرامة وهو يحدق بعيني زوجته الزرقاوات.
"أهذا ما جعلك تتزوج بأمها؟" أردفت رمانة محاولةً اخفاء نبرة الغيرة من صوتها.
"لا و أنت تعلمين هذا، وذلك ما الحق ضرراً كبيرا بي. و لكن، فاتن مختلفة."
"وما المختلف بها؟" سألت هي بقليل من التوجس وهي تقطب حاجبيها.
"ستندلع الحرب لأجلها، هذا ما انا موقن به ان استكملت هذه المهزلة."
"لتدعها تندلع." كان مصدر الصوت من مدخل الغرفة، فالتفت الاثنان لفاتن في اجمل طلتها تقترب منهم بخطوات بطيئة وهي تداعب خصلات شعرها الاسود الطويل."يا أبي، ان أراد الرجال المحاربة من اجلي، فدعهم."
"اجننتي؟ انك اكثر جنونا من امك، فعلى الرغم من موافقتها على تلك المهزلة الا انها لم تضع غير زهرة واحدة ملونة، اجننتي انتِ؟"
ابتسمت ابتسامة جذابة، "الم تقل انني كبرت يا أبي؟ ها قد حان الوقت ليخلو هذا المكان من فاتنتك، و لكن على فاتنتك و كعادتها ان تعم الفوضى في المكان. و هذه المرة، ستعم الفوضى في البلاد لأجلي."
اقترب منها أباها ونظر اليها بتهديد. "وأنا لن اسمح بذلك للحدوث، سيستغلك الرجال، انهم يريدون جمالك و مالك و منصبك فقط لا غير."
ارتفع صوت ضحكتها الرنانة في ارجاء المكان. "يا ابي، ليفكر الرجل في قتل نفسه قبل التفكير في استغلالي، لا تُستغفل ابنة القيصر أبداً، انت من بين كل الجموع من المفترض ان توقن بذلك."
رقت ملامح أباها و هو ينظر لابنته التي ورثت صفاته وكأنها مرآة له ليرى صفتين تجلت به منذ الصغر، الثقة و الغرور. "اعلم ذلك و لكنه بدافع الخوف عليك يا ابنتي."
ابتسمت بأنثوية بالغة كاشفة عن أسنانها البيضاء كبياض اللؤلؤ."اعلم يا ابي، و لكن دع الأمور لي و لو لمرة يا ابي. انني اريد ان اتبع خطوات امي بصدق."
"ولكن-"
"ارجوك." قاطعته و عينيها اللامعتين بعينيه فما كان منه الا ان أومأ بغيض حاول جاهداً ان يخفيه.
اومئ وكأنه يحاول إقناع نفسه انها ابنته، ولا خوف عليها."ان تضررتِ فلا تنسي ما قلته."
ابتسمت بثقة، "لن افعل."
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top