"الفصل الوحيد"

كان نهارا صيفيا غير اعتيادي في المدينة، فقد كان صاخبا بشكل مختلف، سُمعت أصوات سيارات الشرطة و الإسعاف من بعيد.
كان الأطباء يسارعون التدخل لإنقاذ ذلك الشاب، أمل معدوم أدركوخ لكنهم حاولوا لعل معجزة ما تحدث. و رجل في عقده الثالث هلع غير قادر على استيعاب ما حصل، متمسكا بمقود الشاحنة الجلدي و يداه ترتعشان من الدم الملتصق في الأمام.

حادثة مرور كلاسيكية ألى حد ما، شاب متسرع انتهت حياته على يد سائق متسرع أيضا. علمت الشرطة من ملامحه أنها حادثة غير متعمدة و أدركت أن الجاني غير قادر على المقاومة حتى، لذلك أدخلوه السيارة بهدوء و صمت مواسي..

طرق القاضي معلنا نهاية الجلسة، سنة في السجن مع غرامة مالية و سحب رخصة، ليس و كأن الحاضرين توقعوا نتيجة غيرها فالرجل تندم على فعلته بشكل صريح و لم يحاول حتى تبرير موقفه.
و هو يمشي تباعا للشرطة التي لم تكبل يده بعد، برز صوت خطوات سريعة لحذاء وردي ارتدته فتاة صغيرة كانت على وشك البكاء

"أبي!" بصوت بريء نادته لينظر لها و هو يحاول بصورة بائسة كبت دموعه، نظر للشرطي طالبا دقيقة ينفرد فيها مع ابنته فوافق الأخير بكل تفهم تاركا إياهما في لحظة قراق قاسية
"اميرتي الجميلة" حملها بين ذراعيه و عصبرها بين أحضانه.

"أبي إلى أين سيأخذوك؟ هل ستتركني، أرجوك لا تفعل"
لم تمنح نفسها فرصة لاسترجاع أنفاسها من الركض في رواق المحكمة الكبير، من يدري كم من الوقت استغرقت لتعثر على والدها البائس
بدأ يربت على رأسها و في وجهه ابتسامة متصنعة، ستكون كافية لخداع طفلة في السادسة من العمر "اسمعيني يا عزيزتي، والدك عليه العمل باجتهاد، و قد طلب مني السفر لفترة برفقة بعض اصدقائنا الشرطة، لذلك ستبقين عند عمتك. ستكونين فتاة مطيعة أليس كذلك؟"

حركت رأسها راضية "سأكون فتاة جيدة إلى أن يعود أبي"
قبل جبينها بهدوء و كان على وشك احتضانهز مجددا قبل أن تحني رأسها و تتحدث من جديد بارتباك
"كانت عمتي تبكي قبل قليل، هناك رجل آخر كان أيضا يبكي بمفرده و هو يتحدث عن ابنه و عنك أيضا، مالذي كانوا يقصودنه؟"
أنهت جملتها الأخيرة بصعوبة مربكة والدها الذي اندهش من سماعها مثل هذه الأمور، فكر للحظة في رد مناسب، لا يريد أن تدرك وحيدته أن أباها قاتل، و هل من أب قد يرغب في ذلك؟

أخذ نفسها طويلا و نزل لمستوى ابنته لتلتقي عيناهما
"اسمعيني يا أميرتي، أتذكرين السلسلة التي يتابعها جيمي في هاتفه و سبق أن أخبرتمي أنك شاهدت حلقة معه؟"
ردت "عن ذاك الذي ينقل لعالم فانتازي كفارس ذي قوى خارقة؟"
"أجل تلك السلسة! و هل أخبرك كيف دخل البطل العالم؟"
"لا، لم أفكر في الموضوع أبدا"

ابتسم في وجهها "حسنا، البطل تعرض لحادث و ضربته شاحنة افقدته الوعي، و ذلك شرط أساسي ليستطيع دخول المكان.. "

فكرت الفتاة قليلا، يبدو أنها ابتلعت الفكرة بسهولة، لكن عليه الكذب قليلا بعد. واصل حديثه
" إن هذا هو أحد واجبات سائقي الشاحنات، فنحن يتم اطلاعنا عندما يكون هناك عالم ما معرض للخطر أو بحاجة إلى شخص يحسنه"

" اذن الفانتازيا حقيقية، كل شيء حقيقي" صرخت بذهول أضحكه، لن يقلق بشأنها ان سمعت كلاما اخر

"أكان ذلك الرجل يبكي لأن ولده أصبح بطلا؟"
"نعم، قد يكون قلقا عليه، لكنه يعلم أن ابنه سينقذ الناس بشكل جيد. نحن لا نخطئ أبدا"
احتضنته و هي تشعر بالرضى لفهم ما حصل، ففي عينيها تراء والدها بطلا يقوم بمساعدة الناس و إرسال المنقذين لهم، ودعته بهدوء و هي توصيه بإلحاح أن يبعث لها رسائل كل يوم بعد العمل

أصبح الآن وحيدا، يعتصره قلبه و هو يحصي ذنوبه، فلم يكتفي بقتل شاب بريء؛ بل برر أفعاله و كذب في عيني صغيرته، ليس شخصا يؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة، لكنه يؤمن بأمر وحيد، أنه سيسعى للتكفير عن خطاياه بهد مرور فترة السجن هذه

__________

مرت الأيام بطيئة كأنها حصة رياضيات، و ها هو رجلنا قد اختتم أول شهر له في تلك الزنزانة البالية، كان يكتب رسائل لابنته التي أرسلت بدورها الكثير، تخبره عن يومياته مع جيمي و العمة ماري. فبقدر ما تسائل عن حالها كان يحس بالإطمئنان بعد كل مكتوب يتحصل عليه

ما زالت الساعات تمضي في جو هادئ قد أصبح مؤكرا باردت قليلا،لقد حل الخريف بالفعل، و قد مضى أسبوعان لم تصل فيهما أي رسالة للسجن

الوضع مقلق إلى حد ما، و الشك قد غرز أنيابه في صدر هذا الأب، أخذ طلبا للقاء أخته لكن لم يصل أس رد منها، لا أحد يجيبه عن همه، لا أحد يخبره عن حال ابنته...

فكر في الهرب، فكر في قتل الحارس، فكر في طعن نفسه ليأخذوه إلى المستشفى، فكر في كل شيء قد يمكنه من اقاء أحدهم و سؤاله
و في وسط هلوسته و هيجان أفكاره، قطع حبل شروده صرير باب السجن الذي انفتح، كبل الشرطي يديه و أخذه دون أن يتلفظ بحرف واحد..

هو الآن داخل السيارة، لا يعلم إلى أين سيذهب، و لم يكن قادرا على الإستفسار هذه المرة، نظر إلى النافذة على يمينه محاولا إدراك وجهتهم لكن دون جدوى، بالكاد استطاع ضبط تفكيره و التركيز على شيء واحد. لكن توقفت السيارة أخيرا أمام بيت صغير مفتوح الباب

إنه لا يعرف هذا المنزل، طرأ في باله أنه قد يكون مسكن أهل ذلك الشاب من الحادثة، كان ينظر أمامه بتوتر و هو يدخل البيت اتباعا للشرطي العابس، ثم لمح أمامه وجه امرأة تذرف الدموع

"ماري؟!"
و قبل أن يلفظ اسمها كاملا ركضت إليه و هي تحتضنه ر تصرخ باكية، لم يفهم ما حصل لكنه حاول بشكل غريزي تهدئة أخته الصغيرة
"ألفريد أنا... فقط لم أكن" بالكاد نطقت جملة مفيدة و هي تبكي، نظر حوله و رأى بعض الأقرباء أيضا. ثم شعر بذلك؛ و فهم ما حصل

ترك ماري و مشى باعتدال نحو تلك الغرفة، حيث كانت مستلقية و مغطاة بقماش أبيض. لم يجرؤ على الإقتراب، أقدامه تجمدت في مكاننا بالفعل، و لم يستطع سماع حديث من حوله

شعر بيد خشنة تمسك ذراعه، لم يستدر حتى
"لقد كنا نبحث عنها منذ يومين، ما كنا سنجدها لولى هذه الرسالة التي بعثت بها لك، لكن لم نستطع الوصول في الموعد، تعازي"

استغرق منه وقتا لرؤية تلك العيون الذابلة خلف النظارة، لم يكن ذلك الشرطي عابسا، بل حزينا.
ثم أعطاه الرسالة راحلا ليباشر قراءة الحروف المعهودة و المط العبثي الذي طالما أحبه

" أبي العزيز؛ ستكون هذه آخر رسالة أكتبها لكن لا تكن حزينا، فقد قررت أن أصبح بطلة خارقة. عندما انتقلت مع عمتي إلى المنزل الجديد و المدرسة الجديدة، أصبحت أيامي مملة كثيرا، و لم أستطع تكوين صداقات
أعني؛ لم يحبني الأطفال هناك، لقد كسر القلم الوردي الذي اشتريته لي بسببهم، آسفة بشأن ذلك..
لهذا قررت أن أسافر لعالم آخر، مثلما أخبرتني تماما. شاهدت في سلسلة أخرى أن هناك طريقة ثانية للذهاب و هي أن تصطدم بقطار
لا تقلق يا أبي سأساعد الناس هناك، سأخبرهم أيضا أنه لولى أبي البطل لما استطعت المجيء أبدا! لكن عدني أنك لن تكون حزينا، و أوصل سلامي للجمبع اتفقنا؟
أميرتك التي تحبك كثيرا: إيميلي"

امتلأت الورقة بدموعه قبل أن ينهيها، و وقع على الأرض.

__________

استيقظ مجددا و شعر أنه وحيد هذه المرة، كان بردانا أيضا؛ تذكر كل شيء مجددا و جلس يبكي بحرقة، ألقى اللوم على نفسه و لعنها عدة مرات و هو يتمنى لو مات يومها، ثم سمع صوتا مألوفا يناديه

" أبي! نحن هنا"
كانت إيميلي! تلوح بيدها و متمسكة بامرأة في منتصف العشرسنات تبتسم له من بعيد.
نظر ألفريد إليهما، لقد كان يحلم، حلما سعيدا يدرك أنه سيستيقظ منه في أية لحظة، لذا عليه انتهاز الفرصة و رؤيتهما لمرة أخيرة.

ركض نحوهما و احتضنهما بشوق
"روز، إيميلي" كرر اسميهما دون توقف و هما تبادلانه الأحضان، حضن عائلة فقدت شتات بعضها

"عثرت على ذلك العالم بالفعل، و وجدت أمي هناك، هل يمكنني إخبارك عن شكله؟"
أنزلها والدها و ابتسم موافقا و هو ينظر في عيون زوجته بسعادة، ثم وجد نفسها ممسكا يديهما و الطفلة تحكي بثرثة ظريفة..
ليس و كأنه قد يريد شيئا آخر، ليس و كأنه يريد لهذا الحلم أن ينتهي

__________

في مكان آخر كان الجميع متجمعا، الدموع تنهمر و الرؤوس مطأطأة الأرض. نطق الطبيب بعد اشارة بيده تلاها تحرك الممرضين لفصل باقي الأجهزة و اطفائها
"ألفريد غريس، ساعة الوفاة 16:54، نوبة قلبية"

تمت.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top