«الوجوهُ الثلاثة للزمن والعدم.(02)»
كانت الشمس تدنُو منبت السمَاء عندما تخلّل سوكادور غاباتَ الآمازون، قد تخلّى عن سيارتهِ في مكان ما خارج جدائلِ الشجر والدغل وكل ما أخذه هو عدوته رفيقته وتحذيراتِ كل من رآه يخرجُ معها بأن هذه الفكرة خاطئة.
مبقيًا على جانبِه الحذر وتوجّسه لكل تفصيلٍ يشهده فيها، محلّلاً خطاه قبل خطاها أمامه بين ظلال الشّجراءِ حيث تثبُ وتحطّ غير بعيد ونيتها أن لا تثيرَ شكه فيما لا ترغب.
تخبرهُ أنها لا تضمَر ما يتوقعه رغم أنه لم يتخلى عن حذره يومًا معها، لكن اليوم في مهمتهما ستحتاجُ بعض ثقته.
قادته حتى مشارفُ الحدودِ ولم تشر لمكان معيّن، تبعها بعد حتى وصلا الحدود فشعرت به يتوقف خلفها.
خزرته ولم يكن بينهمَا سوى خطٌّ وهمي صنعته الحرب والغضبُ وسنين غابرة من العداء.
كان الجو الرطبُ يبرقُ جلده فيلمع، خصلاته ذابلة على رأسه وجبينه بدت كمصباحٍ وسطَ الظلال.
عيناه..
عيناه الظلال.
غبشهَا من نور مصباحهِ وظلمةِ ثغره الذي باحَ
-- لا يفترضُ بي عبور هذا الحد، كما لم يكُن يفترضُ لكي عبوره.
لكنكِ تسألينني العبورَ إليكِ، بكلّ ما فيكِ من قوة، وأنا هنا لا أدري..
إن خطوتُ إليكِ ودمّرتُ مبادىء العهدِ بيننا، هل سيرضيني ما بعدَ فعلي هذا؟--
تردّدت في سابقة على ردات فعلهَا وقد رأى ذلك وبصره فيها، بحثَت جيدًا في احتمالاتِ نتائج الحديث.
-- أنا من تدعوك..
لا تثِق بي.
لكن..--
سارَت نحوه تعود أدراجها نحوَ الحد الفاصل، حيث يقف هو على طرفٍ وهي على طرفٍ وبينهما أزمنَة من الحقدِ والهرج.
أخذت من جيدهَا قلادة كانت معلّقة خلفَ الحبال والحزامِ لا تظهرُ للعيان ولا تتحرّك، محفوظٌ ما ربطَ بها في مزيدٍ من القماش والخيوط، ملفوفة حول كرية خشبية مصقولة يبدُو عليها القِدم.
كانت تنزعُ اللفائف وهي تتقدّم نحوه ولم يبدو على سوكادور أنه يعتقدُ بما تفعله سوءا رغم مخالفَة هذا لسابق قوله وفعله في عدم الثقة بها.
عندما وصلته كانَ الكرية المعلقة بقلادَة من الجلد المتين الأسود دون سترٍ، مدّت ڤين ديرما يدها إليه عبر الحدود، استغرقَ وقتًا ومدّ يده كذلك، خطوةٌ سمعها لوقعها كسرَ الحشائش أسفل قدمه، لا غير ذلك سوى أصواتَ الطيور والوحوش.
-- قد يضعفني سُمّكَ الذي في جيبك.
تقتلني إن قتلت آيثن ثير لكنك لا تفعل.
قد ترميني في الضباب وانتهي، لكنه أطول..
أما هذا..
هذا قاتلي، أضعه بين يديك، إن شعرتَ بالحاجة له..
افتحهُ، فأموت.--
لم يصدّق أنها تمنحهُ أداة تقتلها فوريًا، بل لم يصدقها البتة.
-- كيف أصدقكِ؟--
-- لا يمكنُ تجربته..
في هذا، ذئب؟
عليكَ تصديقي فحسب.--
انتظرتهُ هنيهَة بينما يرقبهما، الأداة وهي، لم يكن لها رائحَة محددة حتى شعرَ بشيءٍ ما.
داخلها قبعَ نوعٌ من الطاقة لم يستوعب سوكادور أنه يمكن رصدها، عادة يرصدُ الكيانات فاستنتجَ أن بها من ذلك نصيبًا..
قد يكون مخلوقًا ما من خلف الحدود، أو تعويذة تستعينُ بأثر كيان ما.
أيًا كانت فهي مظلمَة وباردةٌ وعنيفة، الكرية لم تكن ثقيلة في يدهِ لكن السماح لقدرته باستشعارها أثقلها في جوفه.
حطّت قدمه أمامه، ثم أخرى..
ودخلَ سوكادور دو ثيراس الحدود المحرّمَة لأول مرة.
سمعَت ڤين ديرما عواءَ آيثن ثير في أرجَاء الغاب، الأشجارُ تنفّست أمام عيناها، على مسامها وقد شعرَت بأرواحٍ وذكريات لم تشعر بها من قبل، عن أشخاص لم تعرفهم من قبل وفي زمنٍ لم تعشه من قبل.
لأوّل مرة، أثرُ سيلينَ كان في قلبِ طاقة آيثن ثير، الأختُ الصغرَى كانت تهلهلُ للمرتقية الوسطَى، لروحِ الأثير وسكونه.
-- ما بكِ؟--
سألها لما لاحظَ هدوئها وتجمّدها في مكانها.
-- الكثيرُ من الأصوات..
الكثيرُ من..--
ارتعشَت وسارت لأقربِ غصنٍ تستندُ عليه بيدٍ والأخرى ترفعها حدّ كتفها وتديرها ومن مكانه رآى سوكادورُ تلك الهالة تتشكّل مجددا وتأفل، لم تكن مستقرة كما جعلتهم يرون من قبل..
لكنها استقرت بعد ثوانٍ.
لم يشأ التدخّل لكن جزئه الرحيم تحدثَ عنه، لا يستطيعُ قتله بالعداء.
-- بخير مشعوذَة؟ لا تموتي أريدُ تجربَة محتوى الكرة عليكِ.--
ابتسمَت مغمضة العينين.
-- أفضّل أن أموت.
لنذهب..--
مشَت أمامه مجددًا بكلّ جبروتها، كأنها لم تكُن ترتعشُ لتوها فسأل.
-- ماذا في هذا الشيءِ على أي حَال؟--
-- لا أعلَم.
لكنها ترافقُ المحاربين في قومي.
دومًا ومنذ بدايتهم، تمنحُ بعد مراقبتهم.
رأيتُ في حياتي محاربًا يستخدمها، كنت أصغَر مع عددٍ آخر..
كان أكبرَ وفقدَ عائلتهُ ونسلَ أجداده في الحرب، لم يبقى له شيء..
لم يبقَى له أحد..
لم يبقى له هدف..
فاختارَ أن يسلبَ حياته، أمرٌ لا نفعله..
وأرادَ الشمس شاهدهُ، وقفَ على برجُ النور المركزي وصاتَ:
دا إليث..
(الشمسَ المبجّلة)
هذا انتقامِي من الموت.
بالموت.--
-- هذا غباء..
لن أعتذر.
ماذا تعني دا إليث؟--
توقفت فظنّها ستعلقُ على وقاحته تجاه انتحَار محاربٍ من قومها لكنها رفعت يديها صوب الشمس فتضاربت قلائدها وغنّت.
-- الشمسُ المقدسة.
شيءٌ رمزي لليليث، المنتقمة، الشمس الكبرى.--
حينها لاحظَ تشابه الأسماء، وعندما أعطته ظهرهَا سأل وقد بدأ الأمر يثير اهتمامه.
-- ماذا تسمّون القمر إذًا ؟--
-- سليث.
دا سليث للتبجيل.--
-- إذا.. ماذا تعني آيثن ثير؟--
كان أمامهَا غضنٌ مخضّر مائل من شجرتهِ حيث وُلد إلى الأرض حيث سيموتُ وكان عليها المرور أسفله فانخفضَت وأثناء ذلك لفّت طرف رأسها إليه تُشهد عيناه قولها، أخضرٌ من عالمٍ لا يعرفه..
-- صوتُ الوجودِ.--
تبعهَا أسفل الغصنِ وخرجَا في طريقٍ أشسعٍ غير أنها استدارت يمنَة وجهتها.
-- ماذا عنكِ؟
ماذا يعني اسمكِ؟--
سكتت عنه مطولاً بينما تقوده في الطريق المجهول حيث خطوط وأمواجٌ من الأخضر والأسودِ على مدّ بصرهما، حتى التربة تتخذُ لونًا داكنًا في هذا الدغل.
وقد انتظرَ..
حتى انسلّت في رقعة ما خصلُ الشمسِ تنير ما بين شجرٍ لم يحجب ورقهُ جلَّ ضيائها بعد، برَقت عليها في لحظة وأفلت، أمام عيناه وعبر أذنها سمعها تقول.
-- ديرما، مليكة القوّة المبجلة.
ڤين: لقبُ المحارب الروحي.--
-- تسميتكِ بملكة القوة مبالغٌ فيه.--
خزرته تتحدَى مقولته فيها، كيف لا وهي رمزٌ للصلادة من جدائلها إلى قدميها.
-- لا تبخَس حقّ عدوك، تستهينُ به فيباغتك.--
-- أتظنينَ وضعنا هنا يناسبُ تهديدكِ لي؟--
أبعدت الحشائش والتفت.
-- وموتي بيدك؟ أجل..--
تذّكر الكرة التي منحتها له طواعية، لكنه لم يتخلّى عن الشك.
حين رفعَ رأسه كانا أمامَ جسم مائي، جدولٌ فرعي على ما يبدو لكن له ارتفاعاتٍ وانخفاضاتٍ على مدّ البصر، لم يكن الشجر كثيفًا حتى يغطيه عن الشمس ولا هو تركَه لرحمتها كليًا.
-- هنا...--
همسَت ڤين ديرما له وحين أراد التقدّم منعته، ذراعها ردعت صدره.
-- لا نعلمُ أين..--
خزرَ محيطهما.
-- تريدين الترصّد؟--
أومئت حثيثًا وتبعها للموقعِ الذي تودُّ أن تراقب المكان منه.
-- ألا يجبُ أن نفترق؟--
لم تنظُر إليه حين سأل..
-- قد تضيعُ هنا ذئب.--
شخرَ أسفلَ طلِّ الشجر والهدوء.
-- لا تقلقي مشعوذة، فرائحتكِ النتنة سهلٍ إيجادها، ناهيكِ عن رفيقتكِ المسعورة تلك..
أين هي على أي حال؟--
لكن انتباههُ ذهب لشيءٍ آخر فلم يكترث حقًا لما أجابته به، في الجهة الأخرى بين المرتفعات، تحديدًا بين حدود الشجرِ والصخر والمياه لا تنحسِر، كان جسمان بشريَّان منهمكينِ في ما يبدو البحث عن شيءٍ ما بين الأرضِ الحيوية للغاب.
-- هناك..--
همسَ لها وانخفضَ يرقبهما فأجابته.
-- آراهما..
يوجدُ مزيد، إلى الشمس.--
وقد كانت الشمس حينهَا في المشرق، فنظرِ جهتها وأبصرَ على مسافة أبعد مجموعة أخرى.
-- ما الذي يفعلونه هنا؟--
غضبُ سوكادور مبرّر كونهم يخترقون المعاهدَة، أيا تكون هويتهُم فهم ليسوا من هذه الأرض.
--حدث من قبلٍ، وفي أثرهم أجِد أعشابًا مقطوعة، حفرًا وتخريبًا..--
--ألم تحاولي إمساكَهم؟--
-- لم يعتادوا البقَاء كل هذا الوقت..--
والجملة رنّت في رأس سوكادور، مستذكرًا أمرا قد لا يبدو له علاقة بهذا لكنه ربطهُ به، السّم الذي يستخدمه أجداده في حربهم ضد قوم ڤين ديرما كانت مولده تُجمع على مقربَة من أرضها.
أرضها التي يقَال أنها تنتجُ موادًا وأسرارا لا يمكن معرفتها سوى بالغور فيها، أشياء قد لا تكون معروفة حتى بالنسبة للحانب الآخر.
-- سأستديرُ وأحيطَ بالأبعد هناك، عند إشارتي بذلك اهجمِي على الإثنان أمامًا، يجدر بهذا أن يكون كفيلاً بإيقاع الجميعِ رهائنًا.--
الآن وقد اقتربت منه، كتفه لكتفهَا تخبره..
-- نحتاجُ واحدًا فقط.--
ابتسامة شاسعَة القطبِ حطت على شفاه وبينما يتحوّل لذئبه كان يطمئنها.
-- لم أكُن أنوي تركَ المزيد.--
بانتهاء مرحلة البيروزا كان سوكا يتفجّر طاقة لمقارعة ومنع ما يجب منعه، بالقتال أو القتل هذا فرق في النطقِ والقوة.
وعليه كان يعود أدراجه ويختار طريقَه بحذر بين الأشجار يترصّد فريسته، ذئبه ضخم لكنه خبير ولونهُ تموّه بين ألوان الدغل والتربة، تحميه الظلال بظلّها كلما ابتلعت ظله.
باغتهُم بعواءٍ يشير لعدوته وحليفته الآن أن تهجُم في نفس الآن، مجموعته تكوّنت من خمس مفرقين بين مساحَة تطلعُ فيها أعشابٌ ذات طولٍ فريد.
أقبض الأول فأخطر الأربعَة، أحدهم وقد كان امرأةً سارعَت لعون مرافقها بينما الآخرين انفضوا هاربين.
قتله سوكادور في ثوانٍ وقد كان متعطّشًا للمزيد، لا يفهم من أن تأتي هذه الرغبَة بالقتل.
قارعتهُ بخنجرٍ لم يحميها كثيرًا ولا أبعد مخالبه عن عنقها، بذلك ركض ذئبه خلف البقية، الآن وهم في محيطه كان استشعارهُم أسهل من تتبّع رائحتهم المختلطة بروائح المكان الجديدة.
وثب خلف الثالث، التربَة تناثرَت أسفل قدميه وعلى ارتفاع، وفي العواء انكسر ضياء الشمسِ فنظرَ الدخيل لآخر مشهد، ظلّ ضخم في الهواء سقط على جسده فأقعده ثم مزّقه طرفًا وتركه ينزف نحو موته.
خرجَ ذئب سوكا في وجه الرابعِ فبكَى يقف وعيناه على نهايته، شحبَ لونه وسوكا يلقمه ويلفظهِ بعنفٍ دمّر عظمه، ثم لحقَ الخامس.
عقدَ الهلع أقدامَ الخامس ولسانه، تمامًا حين ظنّ أنه نجَا كان سوكا فوقه، خزره وزمجرَ في وجهه ثمّ مزقهُ وسقى الأرض من دمه.
لم ينتظِر وعدى بعدها نحو ڤين ديرما، وجدهَا أرضًا، تجلسُ مقابلا لمياه الجدول، ضحية خلفها مذبوحة من الوريد إلى الصدر حيث ظلّت قطعة الصخر التي استخدمتها لشقّ في الوسط.
عندما شعرَت بوجودِ سوكادور استدارت وخزرته بعيناها تفحص جسده، ثم تتعرّف على السؤال في عيناه..
أين الآخر؟
-- اقترب.--
وحين فعل كانَت الضحية الثانية مقلوبة على وجهها غارقة في نصفِ حجمها ماءًا، جلده أزرق وكيسهُ لا يزال في يده.
لاحقًا كانت ڤين ديرما تشيرُ لكل ما تتحدثُ عنه، من ما احتواه الكيس إلى الصخرة في صدر الآخر وما حمله وعودة بين قتيلاها..
فترقص خرزها على لحنٍ أنين، روحهُ فيها رثاءٌ على أطلالِ شعب عظيمٍ، على أرواح ولّت وتركت روحها وحيدة وعلى جبينها كُتب الإنتقام لهم.
-- هناك أعشابنا وحجارتنا، دوائنا وأسلحتنا تلك..
وذاك دائنا، وذاكَ يزيد قوتنا، وذاكَ نضعه في فم رضيعنا لينطق..
وذاكَ لحزيننا ليهدأ..
وتلك من شجرَةٍ نادرة تثمِر في دورة القمر.
كانوا يسلبونَ أرضنا، يأخذون شبرًا في كل مرة، يسرقونَ تاريخنا وما نكون..
لم أقدر أن لا أسلبَهما الحياة، وحين أجد المزيدَ سأعيد الكرة.--
الجلفُ الذي هزَّ صوتها لم يسمعه سوكادور من قبل، دون ذلك منظرها وما قالته وشعورهَا جعله يقشعر.
لم يكن ليلومها ولم يكُن ليواسيها، وجد نفسه في هذه النقطة العاجزَة المريرة فحمل أطرافه إليها وجلس على مقربة منهَا يشاركها تأمل تلك الجثة التي تعنفها مياه أرضها ولا تجرفها، كأنها ترفض حتى السماحَ له بالتوغل أكثر.
الدماء رسَمت خطوطَ المياه واهتزازاته، الكيس فرغَ من محتواه وتتبع التيارَ بعيدا.
ووسط السكُون يكاد سوكا يجزمُ سماعَ أصواتٍ خافتة لاحيوانية، لكنه لم يستشعر وجودَ أي كيان حولهما.
لم ينظُر لها ولا خلفها لكنه استشعَر اقتراب آيثن ثير، لاحقًا كان وجودها ممتزجًا بڤين ديرما حتى كاد أن لا يفرّق بينهما.
يبدو أن هذا المكانَ له قوانينه الخاصَة التي عليه الاعتيَاد عليها وفهمها إن كان ينوي مقارعة وحش الموت والضباب فيه.
وعلى مرئى الموتِ وصوته، قعَدت ڤين ديرما، آيثن ثير وسوكادور يرثونَ تاريخًا مطولاً لم يعرف منه سوكادور سوى حربه وبأسه.
وهذا الفردَ الذي يرغبُ بقتله لكنه يجدُ نفسه متعاطفًا في كمده، مناهجًا نهجه.
______________________
_________
اجتمعَ من أوجه الزمن ثلاثته، الماضي والحاضرُ والمستقبل، عند اجتماعهم في يومهم المنتظر ذاك.
يوم ترسيمُ الآلفا الذي طال فيه التحيُّن.
وبين الأوجه الثلاثة وضعَت نارٌ وصخرٌ عتيقٍ من الشُهب، ينظرُ الماضي في عينِ الحاضر ويقعدُ المستقبل في فاه الآن.
يخزُر كبير وقديسُ العشائر عيونَ سوكادور الذي بعد ترسيمهِ ستحدّد كلمته وأفعاله مستقبل جيل آخر من المستذئبين وربما أجيالاً من بعدها.
لكنه ينتظرُون كلمةً أخرى منه توضّح ما تفعله المرأة شنيعَة الوغى خلفه، فمنذ حضرَ سوكادور والبيتا بروس..
شقيقته ذات دمه ميكايلا وضيوفه وذويه من مجموعة أبناء قابيل، آليكساندر وصبوه الغامضة المنتقمَة لجونيور، والمنتقم ذبّاح طارق إريك، وأفرادٌ أصليون من قطيعه وأفرادٌ جدد مختارون ليشهدُوا.
وهي..
ما إن دقّ حضورها ناقوسَ محيطِ قبيلتهم، وسارت بين خيمهم وبيوتهم، عبر طرقهم الغابية المتناغمة وبيئتهم، استشعرَ الكبير وأولهم هذا القدّيس الأحنكُ والأشسع خبرة وجودَها الغريب والمألوف في آن.
لإبقاءَ الأجواء الروحانية والمسالمَة في قدسية هذا اليوم، منعهم هذا القديس عن السؤالِ أو التصرف فيما من شأنه اِزعاجُ الآلفا وضيوفه، فمهما كانت هذه المرأة، بردائها العتيقِ وجدائلها وعيونها اللاواقعية، تبقى ضيفة الآلفا في يوم ترسيمه..
وعليه لا بد أنها مهمة بالنسبة له.
لاحقًا إرايدا ظهرَ في الصورة، يحمل عصاه في كفّه ومشعلاً في الأخرى كرمزٍ أزلي متوازن بين الحياة وموتها.
نظرته لڤين ديرما كانت قصيرَة ثم أرجأ وجه بروس الذي لم يغادر جانبها يترصّد أي فرصةٍ لينفجر فيهم، أنيابه حملَت عداءًا لهم بحقّ السنوات الثلاثة التي جعلوا فيها صديقه وقطيعه يتمكّثان.
و في ذات الوقت كانَ الكبار قد دعوا بعض ممثلي الإيكواز، اثنان تحديدًا والثالث لم يحضُر وكان سوكادور يتحكَى عيون القديس الأكبر أن يسأله عن ڤين ديرما فيرعد عليهِ سماءَ مقته لوجود هذه الأشكال هنا.
فلو عدنا قليلاً للماضي، ما كان لهؤلاء مجلسٍ عندهم ولا شأنٌ، ولا كان تحتم عليه السماحُ للإيكواز بدخول مساحة ترسيمه كيلومتراتٍ أبعد عن هنا، خاصة وهو يعلمُ أنهم مسؤولون عن تحركات جامعي التحف الآن وعدة أمور من بينها اغتياله الذي أفشلته غريمته.
ثم الدخلاء في أرضهَا الذين كانوا منهم أيضًا.
لذا هكذا كان المشهد، الجميعُ يترقّب خطأ الآخر والجميع على خطأ، لكن عليهم المواصلة لأن نجاحَ هذا الأمر يهمهم وقدسيتهُ أعظَم من التنازل حتى بالكلام.
لولا والتي سمعت وصبوها عن دخلاءِ أرض ڤين ديرما وجرى بينها وبين الإيكواز مواجهَة قبلاً جانبًا لمعرفتهم بأفعالهم الدنيئة، استذكرَت مشهد النساء في فيلا سبينوزا، والدماء.. الكثير منها حتى أنها شعرت برائحتها على أنفها.
كانت تحاولُ أن لا تميل بعينها على الإيكواز فتستفز ماريا ها هنا والآن، آليكساندر جانبها لم يكُن في أرزنِ حالاته ولا صبره لكنه شدَّ على يدها لما شعر باللهيبِ يرتفع من رأسها وابتسمَ يركّز عليها.
أشار القديس أن يقتربَ سوكادور لمجلسه حيث النار وإذ به يتقدّم على أكتافه العارية ضياء الشمس وفي وجهه وقارُ الأساطير الغابرة، في يدهِ من طين الأرض حنة وضعتهَا أحد الكبارِ فاقدة البصر، وغنّت أثناء ذلك أغنية عن الحرب والحبِ وعظمَة الذئاب في الشيب والشباب.
لم يخفى عن عينٍ شاخصة فيهِ مدى عظمته كذلك، جسدهُ يعانق خيالَ المحارب ويرتديه جلدًا وعضلاً وطولاً.
وحركتهُ حانية دانيةٌ تعكسُ رحمة من ماءِ قلبه كما يعرفوه.
سأله القديس أن يجلس فقعدَ أرضًا مقابله، الحجارة لمعت مع النار والشمس واتخذَت لونًا يروح للأحمر ثمَّ يعود للأزرقِ المظلم، وظلّ يراقب ويراقب حتى سمعه ينادي آليكساندر ولولا ليجلسَا على جانبيه أبعد للخلف من محلّه، مجسدينِ الجزئين الذين يجتمعان للكمال.
ثم البيتا الذي أشار لميكي وإريك أن يقربا ڤين ديرما وراح هناك يتخذُ المكان الذي يعرفهُ من أسبقِ ترسيم للآلفا جونيور، خلفَ الآلفا تمامَا، وأقربَ إليه من أي أحد.
ثمّ نادَى القديس ميكي فتفاجأت.
-- لم يخبرني أحدٌ أنني سأضع يدي في ترسيم سوكا!
هل يظنون أن هذا فآل جيدٌ له؟--
قهقهَ إريك عليها وهي تذهبُ ومن رأسهَا وجدَ عيون آليكساندر خلفها بخطواتٍ تكادُ تأكل وجهه السمجَ وتلفظه في النار أمامه فابتلعَ ضحكته.
سأل القديس ميكي أن تقترب منه هو لا من شقيقها، ورغمَ أن الجميع رأى هذا مراتٍ عدة لكن ولسببٍ ما ميكي بعقلها ذاك وكذى صغر سنها عندما تم ترسيم جونيور، لم تتذكّر هذا الطقس ولم تعرف ما يريده القديس منها حقًا وليس هزلا.
-- ميكايلا دو ثيراس..
الذئبة الأصغَر لآل ثيراس والأخت الوحيدة الآلفا المستقبلي سوكادور دو ثيراس..--
كان يواصل كلامه عندما همسَت
-- آلفا منذ ثلاث سنين يا...--
لحسن الحظِّ لم تكمل شتمها ولا القديس اكترثَ بغطرستها سوى أن سوكادور والثلاث خلفه ابتسمُوا لسلوكها غير المقبول.
-- هل تقدمين أي شيءٍ بأخيكِ ميكايلا؟--
ميكي لم تكُن تعلم ما يريده لكنها تعلمُ جواب ذلك السؤال.
-- أعطيه حياتي لو تطلّب الأمر.--
توقّف القديس فجأة، فالجواب عن سؤالهِ، الجوابُ المعروف لأجيال والملقّن للإخوة الذي سيقومون بالطقس أو الأقارب هو " نعم، كل شيءٍ للآلفا، كل شيء للأخ، كل شيء للقبيلة."
لكن لا أحدَ بين كل ما مرُّوا به تذكر أن يتفقد إن كانت ميكي تعلمُ الجواب أو تدركُ عن هذا الطقس شيئا.
لذا ها نحنُ ذا، فخرٌ في عيون سوكا والجميع بها وخروجُ القديس عن الترتيب ليسألها مجددًا.
--والقبيلة؟--
-- إن كانَت لأجله، نعم.--
لم يناقش، أخذ يدها بهدوءٍ وحرّر بضع قطرات دمٍ من راحتها على قماشٍ قطني، لم يصدر من ميكي صوتٍ يدلّ على ألم رغم أنه استخدم قطعة صخرية مصقولة.
خزرت شقيقها وابتسمَت ونزلت.
لاحقًا كان دور البيتا لكن بروس لم يسمَح له بسؤاله بل وقفَ مباشرة إليه وقال.
-- نعم، نعم، كل شيءٍ للآلفا، كل شيءٍ للقطيع، كل شيءٍ للـ.. للقبيلة إن القبيلة فعلت كل شيءٍ لنا.--
بالطبع كانت تلك إضافةً أخيرة لاذعَة وغير مقبولة منه أيضًا لكن لا أحد يستطيع محاسبته الآن، حتى أنه أمسك يد القديس وقطع يده بيده وتركها تسيحُ على القماش مطولاً حتى صاح أفراد القطيع والقبيلة صيحاتَ إعجاب وتشجيع.
لولا همسَت تستفسر من آليكساندر سببهم فردّ عليها.
-- كلما منحُوا أكثر للطقوس كانت الروابطُ أقوى، وهذا رمزٌ لإخلاصهم وحبهم للآلفا، الأحمق بروس سيفرغُ كل دمائه لو تحتّم الأمر لكن أنظرِي.. سوكا يرفع يدهُ في لحظة وعليه التوقف.
هذا ليس رفضًا بل رمزٌ لتقدير الآلفا هذا الكمَّ من إخلاصهم وحبهم مهما كان قليلاً.
سوكا تركهُ قليلاً لأن بروس سينخرُ رأسه لاحقًا لو لم يفعل.--
كان التأثرُ باد على وجهها والنار تنعكس في عيناها، بدت مسلوبة ومسحورة بالأمر تمَاما.
عاد بروس مكانهُ وكان دورُ آليكسَاندر، نادرٌ هو حضور زعيم مجموعة أبناء قابيل لترسيم الآلفا الموالي له.
لأن في العادة يكون الوقت أضيقَ بين الإعلان عن الآلفا وترسيمه من ما حدثَ مع سوكا، فلا يكفي قائد المجموعة لجلبِ تقديمه للآلفا..
لكن ثلاث سنواتٍ كانت كافية لجمع التقديم.
عندما نادَى القديس آليكساندر قائلاً
-- أيها القائدُ الأعلى، هلمَّ لنا بما أتيت، ولو تأتي فارغ اليدان ما فرغَت يداك فحضوركُم يماثُل ألف رأسٍ من العدو وألف حربٍ تحمي سلطتكُ وقوتكَ من هم بيمينك.--
وما قصده القديس أن تقديمَ القائد الأعلى للآلفا سيكون دومًا رمزًا لأبناء قابيل، أي وببساطة : القتل.
وما يقتلهُ للآلفا يجب أن يرمزَ لما بينهما من إخلاص، حماية وحمية، وإخاء في الحرب والسلم.
عندما وقفَ آليكساندر كان هاتفهُ في جيبه يهتزُّ منذ ساعة، ابتسمَ للقديس ولوجه سوكادور الذي استدار إليه ثم حملَ هاتفه وأخذ المتصل يقول
-- يمكنكَ الدخولُ الآن.--
من الطريقِ التي أتوا منها جاء رجال ونساءٌ ذوي وجوه مألوفة بين أخرى لا يمكن التعرّف عليها، على أكتافهم يحملونُ صفوفًا وصفوفًا من النعوش المعدنية، تجمهروا وسط الساحَة وراحت كل مجموعة تجدُ مكانا لوضع النعش عظيم الحجم الذي تحمله.
ومن وسطِهم ظهر وجه اشتاقه الجميع، وجه لم يراه بعضهم منذ ثلاث سنين مرئيا وليس خلف شاشة بائسَة تطيل المسافات.
وآخر وآخر وآخر..
على هذا الترتيب خرجوا ليكتمل اليوم في قلب وعقل سوكادور:
جوليان يقودهم بجهازٍ بين يداه، كلوثار ومجموعة يحملون أكبر نعش بينهم، مون تحملُ صندوقًا متوسطًا وحدها وتتوجّه نحوهم بينما بينولوبي ترشدُ المجموعات الباقية حيث يضعون النعوش.
-- ببطءٍ وحرص، لقد عدّلت آليات التبريد لتتحمل حرّ البرازيل لا لتتحملَ غباء رميها أرضًا، لا تودُّون شم الرائحة إن تعطلت.--
ومون أجابته بينما تتخطاه.
-- نعلمُ أنك فعلت، لكن أليس عليكَ قول مرحبًا لرجل الساعةِ وسيد يومه الكبير أم عليكَ التصرّف دون لباقة كالعادة عزيزي؟--
طارَت ميكي من مكانها تحتضنهم أو تقبلهم ما استطاعت، لم تسمح لكلوثار بوضع النعش حتى..
بينولوبي أخذت أكبر نصيب من الحضن لأن مون لم تستطعِ التخلص من الصندوق دون اتباعِ تعليمات القائد بإحضاره مباشرة لسوكادور.
بروس والبقية لم يستطيعوا التحركَ لكن الجميع اكتفى بعيون الجذل التي تقطرُ منها السنين والذكرى معًا.
آليكساندر كان جانب القديس الآن، ينظرُ لاكتمال مجموعته بفخرٍ طال الجبال، وشرع حديثه بصوته الذي يُخرس الأبواق.
-- أما الحروب أيها القديسُ فقد خضنا بدل الألف ألفًا و مزال الزمن شهيدًا..--
رفعَ يده للسماء وكان في ذات اللحظة قد حلّق عقابٌ من مكان ما، عيون ميكي تعرّفت عليه.
آزاليس، شاهدُ الزمن.
--وأما الأعداء..
حسنًا..
توقفت عن عدّهم منذ أشهر.--
تحدّث كلوثار وهو يسير نحوهم، هالتهُ أكبر من ضخامة جسده حتى..
-- عددتهم لأجلكَ زعيم!
مئة وسبعة وتسعون رأسًا من أعداء سوكادور والقطيع، جامعوا تحفٍ وشرهون ومستذئبون خارجون عن قطعانهم ويدعونَ لمضرة القبيلة..
أكلوا نارٍ تنازلوا وأقسموا على صراعه، وبعض الهاربين من الميغاليترو..
وهناك.--
أشار للصندوق بين يدي مون التي صارت أمام سوكا الآن، تستأذن القديس فيما تفعلهُ بوقوفها أمام النار فوافق.
فتحت الصندوق أرضًا وقالت
-- آغوستينو بالادا، عين الميغاليترو وآخر لورداتها الهاربين.--
ابتسَمت له مون تلك الإبتسامة المشرقة البريئة بينما تحمل الرأس فقط لآخر لورد للمنظمة التي كانت سبب موت جونيور، مزيّن لأجله باللبلابِ والحجارة، والدماء مخثّرة عليه تشير أن موته لم يتجاوز الأشهر.
نظرَ له باعتزاز عظيم، إليهم جميعًا، في الواقع أراد الوقوف من مكانه واحتضانهم لحظتئذٍ لجعله يشعرُ بهذا..
لجعله أيضًا أول آلفا منذ سنين، يقدّم له قائده الأعلى هدية الحماية والأخوة في مراسم ترسيمه.
رفع يده ثمّ وضعها على صدره جهة قلبه، فصاح الحضورُ وقُرعت الطبول، وإرايدا تقدّم يقفُ جانب القديس.
خزر بروس ڤين ديرما التي - رغم جلدِ وجهها وقصور تعابيرها- بدت مبهورَة بما تراه وما تسمعه.
بالضغط على زرٍ في جهازه اللوحي وبعد تأكد جوليان من رؤية الجميع لتقديم آليكساندر لآلفاه سوكادور، قامت النعوش المبرّدة بالإنغلاق أوتوماتيكيًا، وتقدم هو يقف جنب بينولوبي، كلوثار ومون بينما تمازج الذين كانوا يحملونُ النعوش معهم وسطَ قطيع سوكا سوى من فتاتين يانعتين لم يبتعدا عن مون بل بقيتا خلفها.
عندما يعودُ آليكساندر لمكانه يقول القديس..
-- لا يمكنُ وضع التقديم في النار لذَا سيقبله الكبارُ بعد أن قبله وبجّله الآلفا.--
أومأ سوكا لجميع الوجوه المجعّدة بالزمن التي تقف في دائرة خلف القديس، ثم إليه بالطبع فأكمل.
-- والآن صبو القائد الأعلَى..--
العيون شخصَت إليها، القبيلة كلها تبحثُ في جسدها عن فهمٍ لتلك الطاقة المنبعثَة منها، لتلك القوة التي سمعوا عنها والهالة التي تطبقُها بجلوسها هناك.
ولم تقف بعد حتى قال..
-- الصبو ترمزُ للترابط والتلاحمِ في المجموعة، لذا هي رمزُ ذكرى الإستمرار للإخوة بين المجموعة والقطيع..
والصبو تحملُ ذكريات الجميعِ كما تحمل الأمُ صغيرها.
أيتها القائدة، في حضارتنا الشعرُ هو رباط العقلِ بالماضي وحامل ذكريَات الموتى والأحياء بين العالمين.
فهل تسمحين بمباركَة ترسيم الآلفا..--
رفع الصخرة التي قطعها بها ميكي وبروس، ففهمت أنه يريد القليل من شعرها، لا بد أن دمائها لا تنفع هنا لأنها وآليكساندر ليسا تقنيًا من القطيع ولا يحملون دماء المستذئبين.
--أي شيءٍ للآلفا، كل شيءٍ لسوكا.--
سارت نحوهُ متذكرة ما قاله آليكساندر، حرّرت شعرها وحين امتدت يد القديس إليها أخذت منه الصخرة وجذبت شعرها من الجذور تقتطعهُ كليًا وتجعلُ سوكا يسرعُ الهتاف لإيقافها لكنه كانت بالفعل قد اجتذته..
الصياحُ يعلو مجددًا، بينما لولا تضع كل شعرها بين يدي القديس، يبقى شعرها العلوي الذي لن تصله الصخرة المصقولة بجذبها للسفلي، وغرتها على جبينها..
رفعَ سوكا يده قبل أن تكمل، وفاه لها دون صوتٍ..
-- أيتها المجنونة، أحبكِ.--
كانت ضحكتها تمتد من الشرق للغرب وهي تفعل مثله
-- أحبكَ أيضًا، عنصري.--
عادت لمكانها وسألت آليكساندر عن رأيه بتسريحتها الجديدة..
-- ستغرينِ بالأنضار وتذهلينها حتى لو كنت صلعاء ودون حواجب.--
أخذ القديس القطعة القطنية بكل ما فيها ودار حول النار وفي كل مرةٍ يلمس جبين سوكا يردّد كلامًا من زمن غابر لا يفهمه أحد، عدّت لولا تسعةَ عشر وشعرت بالغرابة لسبب ما.
الهدوء كان مخيّما على الجميع، بحثت عن إريك وميكي فوجدته فيهما أيضًا.
لا بد أنها الطقوس..
-- هذا رمزُ الأجيال.--
همسَ لها آليكسَاندر عندما استشعرَ ضياعها أو هذا ما ظنه.
بعد مزيدٍ عاد القديس لمكانه ودون أن يقعدَ رما القطعة، بالدماء والشعر ارتفعَت النار تلقفهَا وعلَت حتى تركت سوادًا في سقف المجلس.
فهتفُوا مجددًا عن مباركَة النار للترسيمِ وجلس المستذئبون أرضا بقدمين متعاكسة، خزرهم البقية الذين لم يعرفوا عن ذلك وتبعوهم..
لسبب ما حتى ميكي لم تكن تعرف.
أحضرَ أحد الكبار صولجَانا مرصّعًا بالحليّ والحُلى، رأسُه كالزجاج تلمع وداخلها سائل يدور ويهتز، يبدو أقدَم من أي شيءٍ في هذه القبيلة العريقة.
أخذ أحد حجارته فجعلَ الماء ينسكِب بروية على رأس سوكا فأغمضَ عيناه وتنفس ولوهلة لم يستطع سماع أي شيءٍ، أو الشعور بأي كيان حوله رغم أن الجميع يهتف لمباركة الماء له.
قدرته توقفت لثوانٍ ثم عادت، وحين فعلت كانت آيثن ثير في الأرجاء.
كان صاحب الصولجان قد توقفَ وأغلقه، الماء عاد لمنسوبه الأول كأنما لم ينتقص منه قطرة، وبينما الجميعُ يرقب ذلك كان سوكادور ينظُر وجه ڤين ديرما..
لا يعلم أيفعَل ليستفهم وجود آيثن ثير الآن تحديدًا بعد ما حدث مع قدرته، أو لأنه ولأول مرة فقدَ شعوره المقيت بطاقتها الملعونة بالنسبة له، أو فقط لأنها الوحيدة التي لا تبركُ أرضًا مع البقية.
أبقت عيناه في عيناهَا لثوانٍ ثم أشارت للصولجَان، لم يستوعب ما تعنيه بالطبع لكنها سيسألها لاحقًا.
فردٌ آخر من الكبار تقدّمت بعد أن تراجع مثيلها، بقدر صغيرة من طينٍ أحمر احتوت عشبة مطحونة بالزيوت، انحنت للآلفا فهزّ رأسه لسنين الحكمَة التي اختارَت أن تبين تعظيمها له حتى قبل انتهاء المراسم.
أخذت قطعة من الأعشابِ لها أولاً كفعل طبيعيٍّ للتأمين، ثم وضعت القدر الذي تبقى في فمه فابتلعه مغمضًا العينين، كتفاه ارتجفَا لثقل القوام وما فيه.
فتنفسوا الصعدَاء وقرعت الطبول والألسنة عن مباركة الغابة والأرض له.
فتياتٌ من القبيلة بعمر العاشرة أو كذاك عمر الزهور ركضن حينها وأربعة أيادي ملتصقة في تاجٍ من الورودِ وشوكها ونباتاتٍ عديدة، تزيّن منتصفه بقطعة صخرية تلمعُ كحجر كريم.
والفتيات يضحكن ويجذلن ويخجلن، ثم لا يفعلن فيغنين مقترباتٌ منه وحين يضعن التاج على رأسه ينحنين له ويقبّلن وجنتيه فيبتسم لهن ويراقبهن الجميع ينزلن بفوضاهم من عنده فيصفقن للبيتا ويكملن الأغنية وينحنين..
ثم عند القائدين يدندن لحنّا انتقاليًا ويصفقن ويقلن "مرحبًا، مرحبًا بمن جائنَا محمّلاً.."
ثم يكملن بلغة لا يفهمها الجميعُ ويكملن الترحيب بباقي المجموعة فيصفّق لهم أفراد القبيلة والقطيعُ ويصفق القديس مرتين ثم يقف فيتبعه سوكادور لمقامه ويخبره أن عليه الآن أن يقفز فوق النار مرة بجسده ومرة بذئبه.
وفي هذا رمز للتفرقَة لا يُستحب ، ورغم أن القديس لم يحتّم عليه لكن سوكا يعود للخلف فيُفسح له المجال ويثب جسده للهواء وفي لحظة ينقلبُ على ظهره متحولاً لذئبه بسرعة تجاري مهارة العيون، الصياح يعلو ويعلو عنان السماء التي يعلوها ذئب سوكادور الآن حتى يحطّ في الجهة الأخرى أمامهم على أطرافه الأربعة ويزمجِر حتى ترعُد شغاف القلوب وتنحني له الرؤوس بداية من آليكسَاندر.
وصولاً إلى ڤين ديرما.
_______________________
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top