(١) بداية
تتلون الحياة بألوان عدة، تتقلب، تبهت، وربما تسوَدّ، لكن جزءا منها يبقى جميلا، إذا ما نظرنا إليه نسينا كلما ترهقنا إياه الحياة
الأطفال إنهم الجنة التي تتفيأ ظلالها فتحمينا من هجير الأيام، والنعيم الذي يبعث نسماته الرقيقة العذبة لتعانق قلوبنا بلطف فتلتئم جراحها، إنهم ألوان الطيف التي تزين سماءنا الملبدة بغيوم الحزن كأنما تهتف لنا "إني لبشير للغيث فلا تقطنوا"
هكذا عهدناهم، ولكن ماذا لو لطخت الحياة أياديهم الصغيرة بقذارتها؟ ماذا لو دفعتهم ليلتقطوا فتات الصدقات من الناس وقد يتسولوا حتى يحصلوا عليها؟ ليس كما لو أن ذلك جريمة يرتكبونها بل هي جريمة ترتكب بحقهم؛ ذلك لأنه ما من شخص سيضطر لأن يمد يده إلى الناس إلا بعد أن يدوس على كبريائه وقلبه معه
الحياة قاسية، نعم قاسية بما يكفي لأن تجعل طفلا صغيرا يفكر كالكبار، لا مجال له أن يفكر بعقله الطفولي الصغير؛ سيسحق! سيسحق فقط إن فعل ذلك، لذا عليه أن يرمي ذلك العقل الصغير خلف ظهره، ويشتري عقلا كبيرا باهظ الثمن، أو ربما سيدفع ثمنه مرغما حتى وإن لم يرغب بشرائه، وما هو الثمن برأيكم يا سادة؟ لن يكون إلا حدثا مؤلما يجتث ما بقي من ضعفه ليدفعه بعدها إلى مواجهة الواقع مجبرا
في عام ألفين وستة عشر ميلادية وحين كانت الحرب قد اندلعت نيرانها - اضطرت عائلة ما إلى السفر نحو العاصمة، هناك بعض الأوراق المهمة التي تحتاج لاستخراجها من هناك، ولذا فقد ذهبوا على الرغم من الظروف السيئة آنذاك، وأمام ذلك المبنى الحكومي وقفت السيارة لبعض الوقت قبل أن تدخل، البوابة كبيرة والحراس كُثُر، ومع هذا فقد كان الأمن متزعزعا بما يكفي لأن يجعل من يستطيع أن يدفع أكثر يدخل أولا، أو لنقل من سيدفع سيدخل سريعا، مر وقت ثم دخلت تلك العائلة المبنى
بعد مرور وقت لا بأس به بدأ بعض الأطفال يظهرون هنا وهناك، لقد كانوا يتسولون كما هو الحال في الأماكن الأخرى خارج نطاق المبنى، استغرب بعض أفراد تلك العائلة وجودهم في مبنى يعتبر تابعا للحكومة، لكنهم أوعزوا ذلك إلى الوضع غير المستقر حينها، أو ربما هم فقط لم يأتوا إلى العاصمة كثيرا ولذلك لا يعرفون كيف هو الحال في العاصمة، ليس غريبا أن تجد منظرا كهذا على أية حال، وسينتهي الأمر بأولئك الأطفال لأن يجدوا من يعطف عليهم ويعطيهم، أو أن يجدوا من يتجاهلهم والأسباب متفاوتة
مرت الدقائق وأعاد أولئك الأطفال دورتهم للتسول من الناس وإن كان للمرة الثالثة أو الرابعة فهم لا يملون ولا يقتنعون بما يُعطون، لم تبخل الأم في تلك العائلة عليهم وأعطت أحدهم مبلغا لا بأس به؛ رحمة به وشفقة عليه، ولعلها أيضا تسلم من إلحاحه كما يفعل مع غيرها، لكن ما لم تكن تعلمه هو أن ما فعلته فتح شهيته للطلب منها مرارا وتكرارا، حتى أنه كان يلتصق بها بطريقة مقززة أثارت حفيظتها وحفظية ابنتها التي عمدت إلى إبعاده عن والدتها، كانت ترغب بأن تكون لطيفة معه فهي لا تحب أن تكسر قلب أحد، سيما أن يكون طفلا بمثل حالته، لكنه أعاد الكرة وحاول أن يحصل على المال مجددا وإن اضطره ذلك لأن يفعل أي شيء، ثارت ثوائر تلك الفتاة وأبعدته وهي تتحدث بصوت عالٍ:
_ابتعد أيها الفتى ابتعد، ألا يمكنك أن تفهم هذا؟ لقد أعطيناك ما تريد، ماذا تريد أكثر من ذلك؟
كانت تلك الفتاة تتميز بنظرات حادة ترعب كل من تنظر إليه، لكن نظراتها تلك لم تجدِ نفعا مع ذلك الصبي، حدقت في عينيه مطولا، كان يغطي العين اليمنى قبل هذا الوقت، أما الآن فقد أصبحت مكشوفة، دققت النظر فيها فوجدت عدستها مصبوغة بالحمرة، شعرت بالشفقة عليه، لكن ملامحه التي لم تنطق بشيء والموقف الذي هي فيه - لم يسمحا لها بأن تظهر جانب اللين، كانت تتساءل في داخلها:
_هؤلاء الأطفال لمَ هم هكذا؟ لمْ يسبق لي أن رأيت أمثالهم، ترى من قتل كرامتهم؟ من وأد طفولتهم؟ أي حياة يعيشون تحت وطأتها؟ لمَ لا يقتنعون بما لديهم ويذهبوا فحسب؟
ظلت على وقفتها العنجهية تلك _والتي تناقض ما اعتلج في داخلها_ ترمقه بنظرات حادة؛ علَّه يبتعد قبل أن تؤذيه، هي لا ترغب بذلك وتخشى أن يحدث ذلك بالفعل إذا ما أصر على ما يريد، موقف لا تحسد عليه حقا، وحينما يئس منها تركها وذهب، تنفست الصعداء ثم بقيت بجانب والدتها احتياطا من أن يعود مجددا
فصلت بينها وبين شقيقاتها مسافة كانت كافية لئلا تسمع ما يدور بينهن من حديث، كان المكان ممتلئا بالنساء، والضجيج هو سيد الموقف، بقيت تراقب شقيقاتها بصمت من مكانها، وقد لاحظت بعد بعض الوقت أن أحد أولئك الأطفال الذين يتسولون في المكان قد كان يتحدث معهن، وما هي إلا لحظات حتى عاد ذلك الصبي الذي طردته قبل قليل وبرفقته طفل آخر، لمحته يشير لذلك الواقف بجانبه باتجاهها هي ووالدتها، تظاهرت بأنها لم تره واتخذت موقعا جيدا لتحمي والدتها
أقبل الصبيان معا وحاولا مجددا استخراج مالا منهما، لوهلة كادت أن تعطيهم ظنا منها أن ذلك سيخصلها منهم، لكنها أعادت التفكير فتوصلت إلى نتيجة: أن إعطاءهم سيزيد فقط من طلباتهم، فتجاهلتهم وحاولت جهدها أن تبعدهم بدون إثارة الفوضى، نجحت في الأمر لكن ما دار بين شقيقاتها وذلك الطفل الآخر قد شغل تفكيرها، فقررت أن تسألهن عن ماهية الحوار الذي دار بينهم، هي من النوع الفضولي فيما يخص هذا الأمر، ستكون سعيدة لو تعرفت على شيء ما جديد وخارج عن المألوف!
¶__________¶
انتهى الفصل الأول، والقصة تبدأ منعطفا جديدا من الفصل الثاني
ليس لدي ما أقوله سوى أن هذه القصة مقتبسة من الواقع، أو لأكون أكثر دقة مقتبسة من قصة حقيقية، غير أن هنالك ما أدخلته فيها ليناسب المقام الروائي
لا مجال للابتسام فحالتهم تدمي القلب 💔
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top