~الفصلُ الخامس عشر والأخير: تزاحمُ رغبات~
~لمَ يقرنُ النَّاس الأحاسيسَ بالقلْب رغم أنَّها في الدِّماغ؟
لأنَّها الحياة! ولو أردت التَّظاهر بأنَّك قدْ تجرَّدت منها، فجِدْ قبرًا يحتضنُ كتلتكَ كدليل~
~لماذا يسخط النَّاس على الحياة و يُفضِّلون تركها، رغم أنها مؤقَّته، ومهربهم هو السِّجن الفعليُّ الأبدي، الحياة الأخرى والأخيرة~
~أن يلتقي قلبان محطَّمان هو الأفضل، الأمر أشبه بتقاسُمٍ البلسمِ مكان إغراقِ أحدهِما به، فتُملأُ شروخُهُما ويشفيان بنجاعة البلسم ولذَّة المشاركَة~
~حياتكَ مهما طالتْ، تظلُّ فرصتكَ الأخيرة~
•
•
•
«الكثير من الدِّماء! الكثير من الدماء! لا أعلمُ ما جرى!»
في غيبوبةٍ مُتيقِّظة استطعتُ سماعَ بعضِ كلمات ماري الهلعَة
أشعر وكأنَّني أحلِّق قريبًا جدًّا بما أنَّني مازلتُ قادرة على سماع الأصوات من حولي، وأحلِّقُ بعيدًا جدًّا لمُجرَّد شعوري بأنَّني أطير
«تستمتعينَ بفضح النَّاس لأنَّ ذلك نوع من السادية، لا تفاني في العمل!
واجهي! اسحقي الماضي! رميهُ خلف ظهركِ سيُعرِّضكِ إلى طعنةٍ خلفيَّة»
«لقدْ ماتَ أَدْهَمْ! روحهُ انتقلَتْ إلى السَّماء، لكنَّ جسدهُ منسيٌّ هنا، لم يُدْفَنْ! هو أمامي! هذا ما أُفكِّرُ فيهِ كلَّما أراكِ!»
حجَّتُها واهية!
المواجهة تعني إخبار الجميع بما حدث لي؟!
قرَّرت تحريرها من جسدِ أدْهم، فقطعتُ معصمَ يدي
جروحٌ عديدةٌ أملتُ أن يفوزَ أحدُها في المعركَة ضدَّ الرُّوح، ألمُها لم يفُق صداعَ رأْسي بسببِ الأصوات والأطياف
•
تعانقَ اللَّيل مع النَّهار سبعة مرَّات
أستطيعُ الشُّعور بها خلفي، تُحيطُ بي من كلِّ جهة، تراقبني كي لا أُقدم على تلك الفعلة الشَّنيعة مرَّة أخرى، بيد أنَّها لا تعلمُ أنَّ تواجدَها معي في نفس المكان هو ما يقتلني، وابتلاعي لتلك الحقيقة بداخلي هو المساعد على إمساك جسدي لتتراقص عليه السَّكاكين بحريَّة
«أناسٌ يبذلونَ أقصى مجهوداتهم ليعالجوا جروحكِ ويفوزونَ بروحكِ البريئَة رغم شوائبك، أفضل من آخَرينَ أخذوكِ سليمةً وصنعوا بك جروحًا، رغم أنَّ أدهم أحبَّك بسبب جروحكِ وطمع في صنعِ المزيد منها، وهذا ما يؤكِّدُ على ضرورة إحسان الاختيار»
ما الذي تقوله؟
صمَتتْ هنيهةً، ثمَّ أضافتْ قول آخر زرع بداخلي شكًّا في ما إذا كانت تقرأ أفكاري
«لم تفهميني صحيح؟
فقطْ لا تكوني مثلي، ضاعت السَّنوات، ولمْ أملك القوَّة اللَّازمة لا لتحمُّل نفاذها منِّي، ولا لأمسك بها وأتحكَّم فيها، وعندَما رغبتُ في رفاقٍ اكتشفتُ أنَّ الأوان قد فات، فلم أجدْ سوى الأجْساد الخاويَة
طلب يدي الكثيرونَ هنا، كانوا كلُّهم جيِّدين، أسوأُهم كان يفتقر إلى عدد يفوق سابقيه من الخصال الحسنة ليتَّصفَ بالكمال البشري، وما من بشريٍّ كامل!»
صمتتْ قليلًا وتنهَّدتْ بوجع، ثمَّ استأنفتْ ثرثرَتها
«لن أكون متخلِّفة وأطلب منك أن تبيعي روحك وبقيَّة سنواتك لرجلٍ وعائِلة فقط لتجدي رفيقا وأحفادًا، وشخصًا يهتمُّ بمراسمِ دفنك، في أيَّامك الأخيرة، ولكن جدي لكِ أشخاصًا، أو شخصًا واحدًا، يشعرونكِ، أو يشعرُكِ، بأنَّ كل يوم هو يومك الأوَّل في الحياة، حتَّى وأنتِ تحتضرين!»
«أريد أن أتحرَّر! ثمَّ سأموت راضية»
نبستُ بتلك الكلمات دون أن أتفطَّن إلى نفسي، أهذا ما أريدهُ بالفعل؟!
«لتتحرَّري عليكِ أن تعيشي راضية، لا أن تموتي راضِيَة!
لديكِ موعدٌ في البرنامج التلفزوني بعد شهرٍ من الآن، لتستغلِّيهِ في إصلاحِ كلِّ شيْء!
ارتاحي الآن، رغم أنَّك ستشفين بمواجهَة الحقيقَة، لا بالإحتِماء بالأحلام»
نبرةُ صوتِها فضحت بكاءها، وأنا لم أكن أفضل منها حالًا، لأنَّ سيولًا من الدُّموع نزلت منْ عينَيْ
لقد جرحَتْني كما لم يفعل أحدٌ من قبل! بفضحِها للماضي بدتْ لي وكأنَّها قد فعلَتْ كلَّ الجَّرائمِ التِّي ارتُكِبَتْ بحقِّي مُجْتَمِعَة، وأضافتْ إليها أخرياتٍ أبشع
•
«لتَدْخل! أعلمُ أنَّكَ أمام الباب!»
أمرتهُ بذلك بعصبيَّةٍ، ثمَّ حرَّكتُ جسدي ليُقابلَ وجهي الباب، لا ظهري
ظهرتْ وجنتُه ثمَّ عينُه ثمَّ بقيَّته، بتوتُّره صار كلعبةِ تركيبِ الصُّور
فجأةً تحوَّل إلى ذلكَ الشُّجاع، وجلس أمامي قائلًا
«حتَّى في المُستشْفى، بالدُّموع التِّي تغطِّي وجهك والأدوية التِّي تغلِّف خلاياك، تبدينَ شرسة مخيفة ،لا مثيرة للشَّفَقَة»
-ماذا تفعلُ هنا؟
-أزورك، أليس هذا شديد الوُضوح؟
-كيف عرفتَ أنَّني هنا؟
-كلَّا! ستحاولينَ الإنتحارَ مجدَّدًا لو أخبرتك
-يمكنكَ الرَّحيل
-هل سيسمحُ لي بالبقاء لو أخبرتُك؟
-....
-السُّكوتُ علامةُ الرِّضا
ذلك الرَّجلُ هدَّدنا بإخبار الجَّميعِ عن محاولة انتحارِك إن لم تعْتذِري رسميًّا في التِّلفازِ وتعِدي بتركِ العمل في الصَّحيفة والتِّلفاز إلى الأبد.
تأمَّلتُه، ثمَّ صدَمْتهُ بابتسامَة، وبإمساكي ليدهِ التِّي قرَّبتها منِّي، كثيرًا! إلى درجة أنَّه حاول سحبهَا منِّي بتوتُّر
«اضربْني!»
تركتُ يدهُ لتسقطَ على السرير، ويسقطَ معها قلبُه
«ماذا!»
لم أشهد منه مثل ذلك الصَّوت المضطرِب، وأعتقدُ أنَّني سأساهمُ في رفعهِ أكْثر
«أكره هذا الجِّسم! أكره الرُّوح السَّاكنة بالدَّاخل!
اضربني بأقصى قواك علَّك تُصيبُها! لن أنتحرَ بسبب ذلك الرجل الحثالة، ولكنَّني سأنتحرُ لا محالَة، إن لم تنفِّذ طلبي!»
اقترب مني باندفاع فضحكْتُ لاشعوريًّا بسعادَةٍ، رفع يده إلى الأعلى فضممتُ شفتيَّ في تأهُّبٍ للضرب، وأغمضت عينيَّ مرحِّبةً بأيِّ كانَ ما سيفعلُه
«لا تفتحي عينيْكِ أبدًا!»
نبرتهُ صارمة، انحنتْ لها أصابع قدميَّ بنشوة
لكن تمَّ دفعي برفقٍ لأستلقي على ظهري، فخابتْ طموحاتي
رفَعَ كمَّا قميصي الطَّويلَيْن ليعودُ إليَّ الأمل ، ولكنَّه لم يطبع أصابعهُ على بشرتي، بل طبع، قبلة؟
طبع قبلات إنطلاقًا من أناملي صعودًا إلى الأعلى، وصولًا كتفي، وكرَّر نفس الشيء مع ذراعي الأخرى، غير سامحٍ لي بتحريرِ نفسي منْه بجزَع
انكتمتْ أنفاسي عندما شعرتُ بشفتيْه ضدَّ عنقي، ثم ضدَّ مختلف أنحاء وجهي
عاصفةٌ بداخلي، لم أعلمْ ما إذا كنتُ ابتلعْتُها أو هي ابتلعَتْني، صنعتُ بيدي قبضةً لم أعلمْ سبب رفضها لضرْبه، احتقنتْ دموعي ولم أعلم لمَ لم أذرفها، لكن ما هو مؤكَّدٌ هو أنَّني كنتُ في فوضى عارمة
قبَّلني وقبَّلني ولكنَّه أبى لثم ثفتيَّ وسكنَت حركتهُ أمامهُما، ففتحتُ عينيَّ لأجدهُ يحدِّق إلي، مبتسمًا بخبث
«هذا هو نوع الألم الذِّي أسمحُ لكِ بالشُّعورِ به، ألمُ رغبةٍ لن تنطفئ»
كاد أن يبتعد عنِّي ولكنَّني أمسكتُ بوجهه بينَ يدي، وأجبرتهُ على الاقتراب منِّي لأستطيع تقبيله
أدهم كان تجربتي الوحيدة، وأنا لا أثق بالكتب، ولم ألوِّث عينيَّ بالإباحيَّات
لذلك استغللت ليفايْ لأعلم ما إذا كانت القبلة الصَّحيحة هي التِّي يتحكَّم بها الرَّجل، وتُضرب فيها الإمرأة لو تفاعلت
أحاط بوجنتيَّ دون تردُّد، وبادلني قبلةً ممزوجةً بضحكاتِه، على نقيضِ أدْهمْ تمامًا، كان يبْدو لي أدهم مستمتعًا فقطْ ، ولكنَّ ليفاي يبدو سعيداً ومستمتعًا في آنٍ واحد
«هذا ما تريدينه لا الضَّرب، والآن لنتوقَّف، لا أريد أن تلوميني لاحقا»
حاولتُ تقبيله مجدَّدًا، ولكنَّه وقفَ وابتعد عني
«معك حق! يحب ترويض الرَّغبات، لقد تأكَّدت للتوِّ من شرِّها، كدت أن أنساق معكَ للحظة، لكن، ماذا قصدت بأنني سألومك؟ فأنا طرفٌ في هذا، أتقصدُ أنَّني فاقدةٌ لعقلي؟»
«لو كنتِ تقصدينَ فقدانَ العقل النَّاجم عن الشَّهوة، فنعمْ أنتِ فاقدةٌ لعقلك!»
صمتَ قليلًا بإحراجٍ غلبه بغتَة، ثمَّ قال بمرح
«سأضيِّف نفسي بنفسي، وأجلب لنا شيئًا دافئًا لنحتسيه! »
هرولَ إلى الخارجِ وتركني بمفردي في الغرفة، بصحبة الخزي وتأنيب النَّفس
شعرتُ بأنَّني مقيَّدة على بعدٍ آمنٍ من نارٍ لن تحرقَني، ولن تغفلَ عن لفحي في نفس الوقت
«أنا هنا!»
انتفض جسَدي بعد أن أفزعني صوته، ولاحظتُ ابتسامةً سبَّبتها له فحاول كبْحها بأقصى قواه
استلقى بجانبي على السَّرير، أحاط كتفيَّ بذراعٍ وشربَ قهوتهُ بيدهِ الأخرى، أمَّا أنا فأمسكتُ كوبي بكلتا يديَّ وأرتشفْتُ منْه القهوة بهدوء، محاولةً تجاهلَ وضعيَّتِنا
«لتنامي الآنَ باطمِئْنانٍ ودون تفكيرٍ في أيِّ شيء»
أعلن عن اقترابِ موعدِ رحيله بطريقةٍ غير مباشرة، جعلتُها أنا مباشِرة
«إذْهَبْ»
رفعَ حاجبهُ الأيمنَ الكثيف عاليًا بتعجُّبٍ وبرز بُرهان ابتسامته، غمَّازتاه
«سأذهب، أنا لا أمزح، أنا راحل»
ثرثر دون أن يتزحزحَ عن مكانه، فابتسمتُ رغمًا عنِّي
«الآن يمكنُني المغادرة بالفِعل»
وعاد من حيثُ أتى دون سابق إنذار، تاركًا خلفهُ نغزاتٍ صدريَّة بشعة، وذكْرى جميلةٌ تأثيرُها بشع
•
•
•
منعتُ كلَّ النَّاس من لقائي طيلة أسبوعيْنِ كاملَيْن
خيالي الشَّاسعُ حذَّرني من الغرقِ في دموعِي، لعنتهُ بحنقٍ لأنَّهُ مجرَّدُ مصنعٍ لأوْهامِي ومشاكِلي
يرنُّ جرسُ المنْزلِ كلَّ يومٍ، وعند فتحِ البابِ أجدُ أمامهُ كوب قهوة، عليهِ رقمُ الأيَّامِ التِّي مرَّتْ في سجني الإنفرادي، ولولا تلكَ الأرْقامُ لما شعرتُ بطولِ مدَّة الحجْز، وبالتحسُّن، فالبشرُ بقلَّةِ حيلةٍ يميلونَ إلى الإيمانِ بأنَّ الوقتَ يشفي الجُّروح
في اليوم الثَّاني عشرة لم أجد القهوة فقطْ أمام باب منزلي، بل رافقها صانِعُها، الذِّي احتضنني فور أن رآني، وقبل أن أقوم باستيعابِ ما أراه بعينيَّ
«لن تكونَ قهوتُكِ ألذ، ولكن اصنعي لي واحدة»
دفعني برفقٍ إلى الدَّاخل ضاحكًا بسعادة لا يمكن تفسيرُها بأيِّ شيء
بصمتٍ مطبقٍ وسرعةٍ شديدةٍ أعددتُ له القهوة لأتخلَّص منه ومن شعوري بالامتنان نحوه
جلس أمامي ممسكًا بفنجانهِ بين يديه، يعضُّ شفتيه مرارًا، ويَتفحَّصُ الأَرْجاءَ لتخفيف توتُّره وفضوله
أنا أستمتع بارتباكه، بالتحكُّم الدَّائم به، وبتحكُّمه اللحظيِّ بي
آلمني قلبي، مشاعري عذَّبتْني، وشعرتُ بزخَّات دموعي على قميصي، فنهضتُ عن مكاني وركضتُ نحو غرفتي
الدُّموعُ تتساقطُ الواحدة تلو الأخرى استجابةً إلى مشاعر لم أفْهَمْها لأستطيعَ التحكُّمَ بِها، فقمتُ بالهروب منها بما هو تقليدي، البكاء!
القوَّة التِّي استعْملْتُها لكبح أنيني ونوبتي تطلَّبت منِّي التخلِّي عن طاقةِ تحمُّلِ رجليَّ لثقلي فوقعت أرضًا، وباطن كفِّي ملتصقٌ بثغْري
فُتحَ الباب فجأةً فصرخت
«ليس من الذَّوق أن تتعدَّى على مساحاتِ النَّاسِ الشَّخصيَّة!»
فزع ولكنَّه تمالك نفسه ،جلس أمامي، وعانق فخذيه، رأسه مائلٌ ونظرته إلي ثاقبة
يشعرني بأنَّه تلميذي، وشراهتهُ تَزيدُ من رغبتي في الحديث
تمازج بكائي بضحكاتي المباغتَة، وسألته بفضولٍ شديد صار يتحكَّم بي مؤخَّرًا
«لم تمثل بأنَّك جاهل؟ أنت تعرف كل شيء»
-مهما كشفوا من حقائق، لن أعرف ما في قلبك أو في عقلك، لن أستطيع تغيير أيِّ شيء لا في حياتك ولا في نفسيَّتك، ولكنَّني سأكون بجانبك
-كلُّكم هكذا في البداية
-ماذا؟
-الدَّاعم في البداية هو القاتل في النِّهاية
-هل ستقتلينني؟
-ماذا؟!
-أنتِ خفَّفتِ عنِّي كثيرًا ودعمتني، استلهمتُ منكِ القوَّة قبل وبعد أن صرتُ سياسيًّا، فهل أنت كاذبة؟ وهل ستقْتُلينَني؟
تجمَّدت، لم أستطع الإجابة عن سؤاله, وما زاد حالتي سوءًا هو براءته المعهودَة أثناء طرح أسئلَته عليَّ
هل أنا كذلك؟ هل أريد إيذاءه؟
عندما لاحظ صمتي أضاف
«إذن ما الفرق بيننا سوى أنَّني رجل وأنتِ إمرأة؟ لحظة!
ماذا لو كانت هذه هي المشكلة الوحيدة بيننا؟»
وضع يده على فمه ليكتم ضحكاته، ثم قال بعدم تصديق
«لم أكُنْ أظنُّ أنَّك سطحيَّةٌ هكذا»
«أصمت!»
صرخت بوجهه رغما عنِّي، فشعرت باستيائه مني، كان واضحًا أنَّهُ مازحني بسؤاله، ولكنَّني بيَّنتُ له أنَّه على حق، وأنَّني بالفعل سطحيَّة
تنهَّد وصمت، يبدو أنَّه فقد رغبته في الكلام، ولا يريد المغادرة لأنَّه يشفقُ علي
سأريحه من هذا العذاب
-إذهب!
-سأفعل! لكن معك!
-ماذا؟!
-نصف ساعة فقط! ولن أزعجك أبدًا من بعدها!
-حسنا
استسلمتُ فهمَّ بالمغادرَة، ولكنَّني دون وعيٍ برَّرت له موقفي
«لست من ذلك النَّوع من النسويَّات، ولستُ أفضل، فأنا معادية للجِّنسيْن
أنا فقط مكسورة، وأحاول إفراغ غضبي في جميع النَّاس بمن فيهم أنت»
نظر إليَّ بتفاجؤٍ تحوَّل فجأةً إلى ابتسامة وديعة، قبولٌ غير مباشر لاعتذارٍ غير مباشر
تركني لوحدي فسهوت في الأفق، واستحضرتُ كوابيسي الأخيرة، ففي السَّابق كنتُ أحلمُ بأنَّني أطعنُ نسختي الصَّغيرة، ولكنَّه جثى أمامي بخضوعٍ مكانها البارحة وما سبقها من ليالي
اختلفت الضحية، واختلف السلاح
صار ليفاي ضحيتي، وصارت سكيني صائمة، وهذا لم يجعل منه ضحيَّةً حرفيًّا
•
اختار الزُّجاج الأسود، ولم يستعمل الخريطة
سأعترف بأن هذا أشعرني ببعض الدفء
نظرَ إليَّ وقرب وجهه مني فجأةً فتجمدت
ابتعد بسرعة وقال
«جميل! دموعك جفَّت وتبدين جميلةً جدًّا، لنترجل من السيَّارة »
أخذنا إلى مقهى آخر، فيه خزانة ذكرياتٍ أخرى
-ما الفائدة من التذكارات؟
-الذِّكريات هي أفضل سلاح لمقاومة النُّفور الطَّبيعيِّ من النَّاس وكرههم
-كيف؟
-هذا سر ولكن...
من الطبيعي أن تضعف مشاعرك نحو أحدهم، ولكن يمكنك إعادة شحن الحب أو حتى الكره بالذكريات...وأكثر ما أخشاه هو كره أبي وعائلتي، لهذا تساعدني الذكريات على التحمل، أخاف أن أنساها يومًا فأحفظها هنا
لقد ذكَّرني في نفسي
كلَّما أردت الإستسلام من شدَّة التَّعب أستحضر الذِّكريات السيِّئة مع الآخرين لأكرههم أكثر فأتحفَّز أكثر
هو يربكني!
شربت عصيري البارد كاملًا بارتباك
-للأسف
-ماذا؟
-أردت أن تبقي معي أكثر، لكن كل شيء يفضح ضيقك
-يمكننا أن نطلب مشروبا آخر
أبتسم بسرورٍ فأجبرَني ثغري على تقليده، وأنا لست بمجبرة
-لا أريد أن أعرف أي شيء عن الماضي فلا تتوتَّري، لا أريد أن أداوي جروحك، بل أريد أن أقنعك بأنَّك بخير و مشاكلك من صنع خيالك الذي يوهمك بأنك مازلت كالماضي، أريد أن أكون جزءًا من مستقبلك الزَّاهر، لكن هذا لا يعني أنَّني لن أكون في الجوار إذا أردت الحديث والمناقشة عن الماضي ،شرط ألَّا تندمي و لا تهربي مني لاحقا، وبخصوصنا..
-أصمت!
-لم أقل شيئًا بعد
-أنا فقط لا أرغب في ذلك، والرغبة تطغى على كلِّ شيء، أيضا الأمور تجري بيننا بسرعةٍ أنا عاجزةٌ عن تقبُّلها
-لا نفعل ما نريده فقط لأن تطور علاقتنا سريع؟ ألا يظهر هذا التناقض في كلامك؟
الرغبة هي أهم شيء
- كل شيء سريع وأنا لا أرغب بك في نفس الوقت
-أحب تهربك مني
-أنا أرفضك!
-وأحب رفضكِ المزيَّف
كدتُ أن أردَّ عليهِ ولكنَّه قاطعني
«بدأت بدوري أستاء ، وهذا يعني أنَّهُ علينا أن نذهب إلى مكان آخر»
تبعته بلامبالات، وأخذنا إلى مكانٍ ما
-ما هذا؟
-المنزل
-ماذا؟!
-لتبقي في السيارة
ذهب باستياء سببه هو خوفي منه لامحالة، ولكنَّه عاد إليّ راكضًا بحماسةٍ ومعه زرُّ ذاكرة
ضغط عليه فظهرت صورةٌ ثلاثيَّة الأبعادِ لإمرأة
-لحظة! هذه تشبه..!
-نعم! تشبه 'صوفْيا ليكْسا' ، الكاتبة المشهورة التِّي إنتحرت في بيتها شنقًا، لكنَّها لم تنتحر، بل قُتلت
-من أين لك هذا؟
-أمي كانت صماء، ولكنها حققت حلمها وصارت مقدمة برامج بالذكاء الإصطناعي، فقط احتاجَت إلى عيِّنة من الصَّوت ومجسَّمًا مطابقًا لها في الشكل وسيقدم كل ما تكتبه للمشاهدين
ولكن بعد مقالٍ مثير للجدل نقدت فيه عالمنا وخفاياه من رشاوي واضطهاد وحيوانية وشهوات، قُتلت شنقا في بيتنا أثناء نوم أبي، وأمام عينيَّ، لكنَّني لم أتزحزح من مكاني بسبب خوفي! يومها تمنيت أن تكون أمي طبيعية
تصير ثريا بلا قيمة، عندما يتعاون الأثرياء ضدك، وهكذا لم يصدقنا أحد عندما أصررنا على أنها مقتولة
لذلك لا تصمتي مثلها إلى أن تموتي! لا تموتي بسبب الصَّمت مثلها!
تأثَّرت باتسامته أثناء سردهِ لقصَّته أكثر من القصة نفسها، وسألته عن ذلك الشَّيء الذي خدش كبريائي
-لم تبتسم؟
-لأنَّني تجاوزت الأمر، رغم أنني اكتأبت لفترة طويلة، ورغم أن أبي قد جنَّ تقريبا من بعد موتها ليضغطَ عليَّ بشدة كي لا أُخيِّبها في قبرها، وربَّما بسبب لومهِ لي على ما جرى لها، وهو يريد تزويجي الآن من ابنةِ صديقه فاحش الثَّراء كي يعتبر أن مهمَّته الأخيرةَ قد انتهت
-يبقى الأمرُ مؤلما رغم تجاوزه
-تجيدينَ التهرُّب من كلامي، ولو أولى البشر أحزانهم اهتمامًا أكثر من اللازم لبكوا إلى الأبد
على كلٍّ!
هنا نسَخ عن كل كتبها ومقالاتها، لتبدي لي رأيك فيها عندما نلتقي في المرَّة القادِمَة فأنتما زميلتان
و، سأتمرَّدُ فقطْ لو بيَّنتِ لي أنَّك تريدينني
-لم كل شيء بسيط عندك؟
-لأنه كذلك! نحن نصعِّب الحياة علينا، ولكنَّها تستنجد بنا صارخةً بأننا نظلمها.
أنا ابن لوكاس وصوفيا وأخ ألكس وابن عمِّ ماثيو، ولكنَّني ليفاي قبل كل شيء، وهدفي هو إرضاء ليفاي فقط.
لقدْ فعلْتُ أشياء محرجة أوْهَمَتْني بأنني فقدت قدرتي على مواجهة البشر إلى الأبد، ولكنَّ علاجي هو كلامٌ بسيطٌ قالته لي أمي يوما 'لا يمكنُكَ تغيير الماضي، ولكن يمكنك تغيير نفسك، لا يمكنك إنقاذ نفسك من المواقف المحرجة، ولكن يمكنك إنقاذ نفسك من أبديَّة شعورك بالخزي من نفسك'
سأسمح لكِ باستخدامِ حيلتي
-أنتَ رجلٌ رائع!
-أنا رجلٌ رائعٌ لأنَّ أمِّي كانتْ امرأةً رائعَة
-سآخذ إجازة
-هل استشرتِ المدير قبل ذلك؟
-هو بشحمهِ ولحمهِ تهرَّب من العملِ ليتنزَّه معِي
•
•
•
من توق: ألديكَ مكانٌ آخرٌ تزوره عندما تكون مستاءً؟
إلى توق: عاد رقمكِ أخيرًا! كيف سمحتِ لنفْسكِ بأخذ إجازةٍ لسنتين!؟!
من توق: بعد نصف ساعةٍ نتقابلُ في موقف السيَّارات بجانب أوَّل مقهى زرناه
•
•
•
«لقد قتلَتْه وقَتلت نفْسها! كان عليَّ توقُّع هذا! كان عليَّ أن أُدركَ أنَّ تقبُّلها لرجُلٍ يسبق القضاء عليه! كما حدث مع زوجها تمامًا»
•
•
•
كوابيسي أيَّام إجازتي الطويلة كانت مشابهة لذلك الكابوس، قتلي لليفاي!
أركض وأركض إلى أو أوقفتني رسالة
"توق! هيا أسرعي!"
"لحظة ليفاي!"
"أعلم أنني رائع إلى درجة أنك تحاولين أن تبدي في أحسن صورة بجانبي، ولكن أسرعي فأنت لا تحتاجين ذلك لأنَّك جميلة"
" أوَّلا، أنا لا أقوم بتجهيز نفسي للقائك، وثانيًا، أنتَ مغرور!»
"إعترافي بجمالك ينفي كوني مغرورا"
"دائما ما لديك ردود!"
أخفيتُ هاتفي بجيبِ معطفي عندما لمحته على مسافةٍ ليسَتْ ببعيدةٍ جدًّا عنِّي
أردتُ أن أفاجئه ولكنَّه أفسد ذلك، وأدار جسده ناحيتي في اللَّحظة غير المناسبة
نظر إليَّ بعبوسٍ أثناء تكتيفه لذراعيْه بطريقةٍ غريبة، وكأنَّه يحتضن نفسه
أيرفض احتضاني، أو يطلبُ حضنًا بطريقةٍ غير مباشِرة
لا يهم!
ركضت نحوه وعانقتهُ بقوَّة قبل أن يستوعب سرعتي ويفكَّ عقدة ذراعيه على الأقل
أأبدو مستعجلة؟
لا يهم!
استطعتُ سماح ضحكاته وسعاله المزيَّف للتظاهرِ بأنَّه يختنقُ بسبب اعتصاري لجسده
لا يهم!
أنا لم أفعل مكرهة من قبل أبي، ولا من قبل أمي، ولا من قبل أدهم، ولا من قبل أي بشري!
أنا فعلتُ هذا لأنني أريده!
-أمُّكَ رائِعة، مثل ابنِها! لقد شاهدتُ وقرأت كل شيء يخصُّها
-شكرًا جزيلًا لكِ ولكن، أيمكنُكِ السَّماحُ لي باحتضانك؟ لأنني مكبَّل منذ زمنٍ طويل
-لا
-تستمتعين بإغاضتي صحيح؟
-نعم
-شاهدتُ لقاءكِ التلفزيوني قبل سنتين، كنتِ أروع من يستقيل!
-شاهدتُ إلغاءك لخطوبتكَ على الهواء مباشرةً، كنتَ أروع من يلغي خطوبته!
نعم
الأمر بسيطٌ إلى تلكَ الدَّرجة
﴿إلى كلِّ مغتصِب، مضطهد، قاتل للبراءة والأحلام
عاقبةُ كتمانِ كلِّ شخصٍ ضعيفٍ هو بركانٌ راكد، إمَّا أن ينفجرَ على ذلك الشَّخص، وإمَّا أن ينفجرَ عليكم
وبالطَّبعِ لن تقبلوا بخسارة دمية مسلِّية، كما لن تقبلوا بأن تحرقكم الحمم﴾
﴿النهاية﴾
...
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top