~الفصْلُ الثَّاني: زائرٌ غيرُ مُتوقَّعْ~

ارْتعدَتْ فرائِصي إذْعانًا لأمْره وسادَ الصمتُ في القاعةِ في انتظارِ إخلائها من زملائي الفضوليِّين

اقتربَ منِّي ودونَ تفكيرٍ مُسبقٍ جلسَ على طاولتي وأمْسكَ بيدِي اليمنَي ليحْبِسها بينَ كفَّيهِ فيخيَّل إليَّ لوهلةٍ أنَّهُ يعْتصرُ قلْبي بيْنهُما

لا أُحبُّ الملامسات! ربَّما لأنَّ معظمها كانتْ دفعاتٍ منْ قِبَلِ كارهيني وأرجل تترقَّب سقوطي وتتسابقُ على نيلِ شرفِ أن يكونَ أصحابُها هم السبب في ذلك

حتَّى في المنْزلِ العلاقةُ مع العائلةِ جافة جدًّا، ذاكرتي لا تحملُ بين طيَّاتِها حضْنًا أوْ قبلةً صادِقَيْن، لكن المنطق يقولُ أنَّه تمَّتْ معاملَتي كأُخْتي الصغرى المدلَّلة عندما كنتُ في مثلِ سنِّها.

« أظنُّ أنَّك تُواجهينَ مشكِلةً ما، كلُّ شيءٍ بخيْر؟ تسمحينَ لي بهذا السؤال؟»

رغْبتي في استعادةِ يدِي وعدَمِ استلطافِي للمستهِ واضحانِ جدًّا، ولكن هدوء تعابيرِه زرعا بداخِلي شكًّا في قوَّتي التِّي استنزفْتُها في محاولَةِ تحْريرِ نفسي منه

«أنا بِخيْر»

أجبْتُهُ على سُؤالهِ بصوْتٍ واجهْتُ صعوبةً في سماعه، فماذا عنه؟

« حسنًا! جيِّدٌ جدًّا إذنْ! أنا دائمًا في الجوار فلا تنسي هذا أبدا، حسنًا؟»

اكتفيْتُ بالإيماءِ بالإيجاب ورغم ذلكَ اتَّسعتْ ابتسامَتهُ وقلَّد حركةَ رأْسي للمُزاح الذي سبقَ استيلاء القلق على ملامحه

« شفتاكِ تنزِفانْ!»

حرَّر يدي وكادَ أنْ يوجِّه اصبعهُ إلى وجهي -أو هذا ما ظننته- فتراجعْتُ إلى الخلْفِ بفزع.

« لا يجبُ لمْسُ الجروح لكيْ لا تتلوَّثْ»

فركَ شعرهُ بتوتُّرٍ واضحٍ بعد أن نفى ما اعتقدتُ، قبلَ أن يُناوِلَني منْديلًا مُبلَّلًا مسحتُ به ثغْري بصمْتٍ فتوغَّلتْ رائحتهُ الطيِّبةُ في أنْفي

«شُكْرًا»

نحتُّ على وجْهي ابتسامةً أملتُ أن يراها فأجابني هو بأُخرى

« يُمْكنُكِ الذَّهابُ الآن»

أمرَني أخي بعدمِ التأخُّرِ مُجدَّدًا بانزعاجٍ بادٍ على محيَّاه، ولمْ يسألْني عن السببِ لأنَّه ظنَّ أنَّه ساقي العرجاء كالعادة

سرْنا في الطريقِ الرمليَّةِ ككلِّ يوم، حاولتُ تجميعَ ركامِ الحجرِ وإعادةَ تشييدِ البناياتِ في ذهْني كما جرتْ العادة

أعتقدُ أنَّ عمى الألْوان لمْ يُغيِّرْ شيئًا من المشهد الأصليِّ الباهت والميت للعالم من حولي

صحيحٌ أنَّ الأراضي عادتْ إلى مالكيها بعدَ الحرْب، ولكنْ ما من فائدة منْ أراضي بورٍ دونَ مسكنٍ أو حتَّى أموالٍ قدْ تُنقذُ الوضْع

وصلْنا بعدَ فترةٍ ليستْ بالقصيرةِ إلى المنزل، وعلى الأثَرِ شمَّر أخي عن ساعِدَيْهِ وذهبَ لمُساعدةِ أبي وأمِّي في الحقْلِ، أمَّا أنا فبدأتُ بإعداد الطعام

علّمَتْني أمِّي قواعِدَ الطبخِ منذُ الصِّغرِ وتردِّدُ أنَّ هذا هوَ ما سأحْتاجُ في المُسْتَقْبَلِ...لم تُندِّدْ بأهميَّةِ الدراسة يوْمًا فلطالَما كانتْ حمْلًا وواجبًا على الجميع نظرًا إلى إجباريَّتها، والسَّلاسل التِّي تقيِّدُ الهاربينَ منها تمْهيدًا لسحلِهِمْ بالدبَّابات أمامَ على مرأى ومسمعٍ من الجَّميع

كانَ لأُمِّي شعْرًا طويلًا أسْودًا لا تسْدلُهُ إلَّا نادِرًا، بشرةٌ لفحتْها الشمسُ لأنَّها تكْسو إمرأةً من النوع الهادئ الذِّي يكلِّفُ مهمَّة الثرثرة للعملِ الجَّاد، أمَّا عيْناهَا فقدْ تلوَّنَتا بلونِ العسلِ الذي تدْهنُ بهِ شفتيْها المتشقِّقَتيْنِ بما أنَّه لنْ يُباعَ من الأساسِ لغلاءِ سعرهِ البخْسِ في نظرِ الناس، وبسببِ حاجتهِمْ الملحَّةِ إلى الماء والحبوبِ مكانَ التحلية

مرَّ اليوْمُ بسلاسةٍ كالعادَة وعُدْنا إلى كوخِنا الذي جعلنَا من الأغنى في المنْطقَة، فأجدادُنا كانوا أغنياءَ بكلِّ ما تحملهُ الكلمةُ من معنى قديمًا، قبل أن تقطعَ الكارثةُ رأسَ الهرَم

حاولتُ أن أغفو ولكنَّ الذكريات عادتْ وملأتْ رأسي دونَ رحمةٍ فأثقلتْهُ وأفسدتْ الراحة والسَّكينة اللازِمَتَيْنِ للإنتقالِ إلى عالمِ الأحلامِ المُلوَّنِ بالسَّعادة المُزيَّفة والبؤسِ الواقعي

سحبْتُ أُخْتي إليَّ كيْ أدْفنَ رأسي بداخلِ شعْرِها المُموَّجِ، فلفَّت هي ذراعيْها حولي تلقائيًّا لأشعرُ بالأمان...شعورٌ جميل!

هذا لا يُعدُّ تناقضًا كوْني أعْرَبْتُ سابقًا عن مدَى كراهيتي للَّمس، لأنَّ كل ما في 'بُشْرى' يجبرنِي على غض الطرفِ عن الأشياء التي اعتدتُ على رفضِها من سائرِ البشَر

هيَ كثيرةُ الحركة، ثرثارةٌ ولا أذكُرُ أنَّ هذا أزعجَ أيَّ أحدٍ يوْمًا، بلْ أمنيتُنا الوحيدةُ الصادقة واليائسة هي ألَّا تتغيَّر طباعُها ولا تفقد سعادتَها عندما تكبُر وتنقشِع الطفولَة عن الحقيقة

يزعمُ الجميعُ أنَّ اليوْمَ هو يومُ عُطْلتِنا الأُسْبوعيَّة، ولكنَّهُ في الواقعِ يومُ عملٍ شاقٍّ حدَّ الإغماء

شحنَّا طاقتنا بوجبةٍ صباحيَّةٍ صغيرةٍ، وقبلَ أنْ أهمَّ بجمعِ الأطباقِ طرقَ أحدهمْ البابَ الخشبيَّ فاستجابتْ لذلكَ أجسادُ الجميع، وإذعانًا لنظراتِ أبي وأخي التحذيريَّة سحبتْ أمِّي أختي واستعنْتُ أنا بعكازي لنختبئ ثلاثتُنا خلْف السِّتارِ المنسدلِ في منتصفِ الكوخِ تأهُّبًا لمثْلِ هذهِ الزِّياراتِ المُفاجِئة

الخوفُ الذي تزرعهُ الحروبُ في القلوبِ لا يحصدهُ السلمُ بسهولة

هلْ ما أسْمعهُ صحيح؟

هذا هوَ صوتُ الأُسْتاذِ أدْهَمْ؟

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

1: البطلة عرجاء و عمياء، كيف كان شعوركم عند اكتشاف هذا؟

2: أي حرب تتحدث عنها البطلة؟ يمكنكم تخمين بلدها؟

3: ماذا يفعل الأستاذ هنا؟

ملاحظة: هناك أنواع من عمى الألوان، والبطلة ليست مصابة بعمى الألوان الكلِّي (أسود وأبيض ورمادي فقط)

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top