عائدون

« رغم جروحنا الدامية، رغم آلامنا الموجعةِ ، رغم صرخاتنا المُستنجدةِ التي تذهب أدراج الرّياح ، رغم دمائنا التي تُراقُ كلّ يومٍ في شوارعنا المُغتَصبة ، رغم استمرارهم في قتلنا ببطءٍ و وأدِ آمالنا وأحلامِنا وهي حيّةٌ تتنفّسُ وتحيى بقلبٍ نابضٍ ملتاعٍ لرؤية مبتغاه ، رغم كلّ ذلك لا تزالُ قلوبنا تنبضُ بحبِّك يا بلادي، لاتزالُ أفئدتُنا تشتاق لترابِك الطاهرِ الذي لن يطول تدنيسهم له وسنمحو آثارهم من أرضنا ، لانزالُ نُجاهد بأرواحنا فداءً لكِ يا فِلَسطين الحبيبة. »

ترددّت تلك الكلمات في ذهنها وهي تجول في بلدتها التي سُلبت منها بوحشيّة وعنفٍ ، رغم اختلاف البلدة عمّا كانت عليه سابقًا إلا أنّ جهاد لا تزالُ تتذكّرُ شوارعَ بلدتِها الحبيبةِ " دير ياسين" كما كانت ، فهنا كانت تلعب مع صديقاتها حين كنَّ أطفالاً صغارًا ، وهنا كانت تتمشّى مع والدها لإحضار حاجيّات المنزل من السوق ، وهنا لعبت بالحجارة والرمال ، وهنا....

توقّفت عندما وصلت إلى مكانٍ بدا مألوفًا جدًّا بالنِّسبة لها ، طالعت الرمّالَ على الأرضِ وقد تجمّعت الدموعُ في عينيها ، انحنت تقبضُ حفنةً من الرمالِ وهي تُحدّق فيها لكأنّما تُشاهد مشهدًا حزينًا مأساويًّا. ولكم كان مؤلمًا بحقّ !.

انزلقت حُبيبات الرمل من قبضتها كما لو كانت ساعةً رملية تعودُ بالزّمن إلى الوراء لتؤجِّج عليها تلك الذكرى الموجعةِ التي لطالما جاهدَ قلبُها لتجاوزها، إلّا أنّه وللأسف لم يُفلح. لم تستطع كبح ذاكرتها عن العودة لذلك الصباحِ المشؤوم، صباح الخامسَ عشرَ من مايو عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين .

تزيّنت صفحةُ السماءِ الزرقاء بوهجِ الشمسِ الساطع الذي يبعثُ الدفءَ في النُّفوس ويغمرُ شوارعَ دير ياسين بنوره الوضّاء.

في أحد شوارعها الهادئةِ تعالت ضحكاتُها وهي تطالعُ رسمةَ أختها الصغرى التي خطّتها بغُصين شجرةٍ على الرمال التي كست الشارع ، كانت رسمتها عبارةً عن خطوطٍ متعرجةٍ شقّت الرّمال مشكِّلةً وجهًا ضاحكًا صغيرًا وبجانبها ثلاثةُ أوجُهٍ بَدَوْ أكبرَ من الأوّل ، رمت الغصين أرضًا وقد ظهر العبوسُ على قسمات وجهها وقالت بنبرة متهدّجة طفوليةٍ : « جهاد ! رسمتي ليست سيئة ! لمَ تضحكين؟.. هذه أنا ، هذه أمي، هذا أبي، وهذه أنتِ » قالت وعد وهي تشير على رسمتها في الرمال ببراءة.
ابتسمت جهاد بوجهها وهي تُربّت على شعرها البندقيّ الزاهي.

«هكذا ترسمينه، انظري... » قالت بابتهاجٍ لتلتفت شقيقتُها إليها مسرعةً وقد ارتسم الحماسُ على وجهها. بدأت جهاد ترسمُ على صفحةِ الرمال أربعةَ أشخاصٍ مثّلوا عائلتها الصغيرة. صفّقت أختُها بيديها عاليًا وهي تضحكُ بسعادةٍ قائلةً :« رائع ! هذا جميل ! أحبك
أختي » اختتمت كلامها بقبلةٍ طبعتها على خدّيها بشفتيها الغضّتين، فضمّتها جهادُ بحبٍّ وشوقٍ بالغين وقد خالجها شعورٌ بأنّ هذا العناق سيكون آخر عناقٍ يجمعهما معًا. هبّت نسمةُ هواءٍ باردةٍ تحرّك معها طرفُ حجابها فسارعت بإحكامه على رأسها، وما إن توقّفت تلك النسمة حتى لاحظت جهادُ أنّ الرياح قد طمست الرسمة كلّها عدا الشخصيّة التي رسمتها لتعبّر عن نفسها ، استفاقت من شرودها على صياح أختها وهي تشير على الرّسمة :
« انظري ! انظري ! ،لقد رسمتها هي أيضا، ستأتي أختي قريبًا أليس كذلك؟ ».

نظرت جهادُ إلى الرّمال وإذ بها تلحظُ جسدًا صغيرًا جدًا بوجهٍ ضاحكٍ قد رسمته أختها قبل ثوانٍ. تبسّمت ببهجةٍ وحملتها واضعةً إيّاها في حجرها وهي تُحادِثها : « قد يكون أخًا أيضًا صغيرتي ، لكن أيًّا كان ، أنا واثقةٌ من شيءٍ واحد. أتدرين ما هو ؟ عندما يأتي مولودنا إلى هذا العالم ، سيكون محظوظًا بحصوله على أختٍ مثالية مثلك ، عديني... عديني يا وعد ... أنّك ستحمينه بكلّ ما أوتيتِ من قوّة، ولن تتركيه أبدا. »

أومأت وعدُ بجديّة واضحةٍ وهي ترفعُ إصبعها الصغيرَ قائلة ً:« أعدك،لن أتركهُ أبدًا. »

أوصلت جهادُ وعدَ إلى المنزل وخرجت لإحضار بعض الحاجيّات بعد أن قبّلت رأسَ والدتها وهي تُشدّد عليها بألّا تُرهق نفسها وأن تستريح حتى تلد الطفل بأتمّ صحةّ وعافيةٍ. شدّت الخُطا إلى المتجر وهي تشعرُ بشعورٍ مخيفٍ يُخالجُ قلبَها ويؤرِّق راحتها، ولكنّها تجاهلتهُ وأكملت طريقها ، وما كادت تصلُ نحو عتبة المتجرِ حتى فوجِئَت بأولئكَ الرِّجال الذين لم تلمحهم عيناها قطُّ في المكان من قبل، يقتحمون البلدةَ حاملين معهم شتّى أنواعِ الأسلحةِ الفتّاكةِ ، محطّمين كلَّ ما يعترضُ طريقَهم. دبّ الرعبُ في أوصالِ جهاد وهي تُطالعهم وهم يتهاوون بالضّرب على رجالِ القرية ونسائها ، اخترق صوتُ الرّصاصِ العالي أُذنيها حتى كاد يصمُّها وشعرت كأنّ تلك الرصاصات تخترقُ جسدها هي.

تعالت ضحكاتهم المقزِّزةُ في الأرجاء وهم يتحادثون فيما بينهم بلهجةٍ غريبةٍ لم يعتدها عقلُها ولم تعرف كُنهها ولكنّها شعرت أنّها تمقُتها من زمن ولم تستسغها أُذناها أبدًا ، سارعت بالابتعاد عن المكان والخوفُ يتملّك قلبها وقد بدأت تسمع دويّ انفجاراتٍ هنا وهناك. أرعب قلبَها صراخُ الأهالي ومزّق فؤادَها بكاءُ الأطفالِ المُتعالي وهم يرون رجالاً ضخامَ الجثثَ يحملون الأسلحةَ المختلفة من بنادقَ ومسدساتٍ وحتى سكاكينَ يُقتِّلون آبائهم وأُمّهاتِهم بوحشيّةٍ لم يسبق لها مثيل.

ركضت جهاد مُبتعدةً عنهم بأقصى سرعتها وقد رأت عيناها ما يكفي من الدِّماء والمناظر المؤلمة، أصبحت رائحةُ الشوارع ممزوجة برائحة الدماءِ والبارود ، وملأت الجثثُ الأرجاء ، جثثٌ مُقطّعةُ الرؤوس ، جثثٌ مُقطّعةُ الأيدي والأرجل، جثث نساءٍ قد خُدش حياؤهنّ ثم بُقرت بُطونهنّ بلا هوادة ، وذُبحت فلذة أكبادَهنَّ قبل أن يروا النورَ حتى، سالت الدموع من مقلتيها وهي تُغطّي وجهها بكفّيها هاربةً من تلك المناظر الفظيعة وهي تعدو بكلّ قوّتها نحو منزلها خائفةً وجلةً ممّا ينتظرها هناك ، كلُّ شيءٍ حدث سريعًا، فجأة اقتحم أولئك الأشخاص بلدتهم وبدأوا بتدمير كلّ ما يعترض طريقهم وقتل أكبر عددٍ من البشر، كأنّ كلًّا منهم يحاول أن يُثبت للآخرين أنّه الأشّد إجرامًا بينهم ، بدت أشبه بإبادةٍ جماعية لأهالي القرية.

تصلّبت قدماها عند عتبة منزلهم الذي بات حُطامًا وترابًا تتلقّفه الرّياح ، لم يكن منزل جهاد الوحيد الذي تحطم، فقد تحطّمت معظم منازل القرية ، وبتحطّمها تحطّمت آلاف القلوب المُنكسرة الجريحة ، من بينها قلبُ جهاد الذي صار ركامًا هو الآخر وقد تناثرت أشلاؤه وبات من الصعب لملمته مرةً ثانية ، هوت على ركبتيها وهي تنظر إلى جسدِ من كانت أغلى عليها من نفسها، من كانت قرّة عينها و بهجتها، رأتها ملقاةً بلا حراكٍ وقد تلوّن ركامُ المنزلِ بدمائها الطّاهرة ، انحنت تُقبّل وجهها البارد الذي اصطبغ بدمائها القانيةِ ، انهمرت دموعها وهي ترى والدتها راقدةً وقد سُلبت منها حياتها ، لم يكتفوا بقتلها، بل تجرّأت وامتدّت أياديهم القذرةُ لمن كان قابعًا في أحشائها ينتظر اليوم الذي سيرى فيه النور، إلا أنّه وللأسفِ لن يأتيَ أبدًا. أمعنت النظرَ وإذ بها ترى يد والدتها تتوسّدُ كفًّا صغيرًا ، هرَعَت إلى يدها وهي تُزيح الرُّكام بيديها عمّن سكنت قلبَها و جوارِحها ، وآنست وحدَتها ووحشتَها في هذا العالم. أختُها..وعد الصغيرة... حتى شقيقتُها ذاتُ الخمسةِ أعوامٍ لم تسلم منهم. انتشلتها من التُّرابِ وهي تضمُّها إلى صدرِها باكيةً هامسة من بينِ شهقاتها :
« أختي.. أرجوكِ... لا تتركيني وحدي... سنرسمُ معًا على الرمال ثانيةً.. ستكون أُختنا معنا صحيح؟ أرجوكِ... لا تذهبي... أرجوكِ يا وعد... لا تفعلي هذا بأختك.».
هاقد وفّت وعدُ الصغيرةُ بوعدها لجهاد ، بالفعل لم تترك مولودهم وحيدًا بل ذهبت معه وحمته بكلّ ما تملك من قوّة حتى فارقت الحياة.

جالت ببصرها بحثًا عن أحدهم وهي تأمل أن يكون حيّا، التفتت وهي تبحث في حطام المنزل عمّن كان سببًا في وجودها بعد الله، عمّن بذل كلّ ما لديه ليُسعدها في حياتها ، والدها، سندها، حصنُها القويم الذي يحميها من كلّ الأخطار، هاقد أصبح والدها في عدّاد الموتى مُضرَّجًا بدمائه تحت أنقاض المنزل.

لن يداعبها ثانيةً ، لن يمسح دموعها ثانيةً، لن يرسُم البسمة على وجهها، لن يكون مُوجودًا في حياتها بعد الآن. انهارت جهادُ على ركام منزلها وانخرطت في بكاءٍ مريرٍ وهي تُنادي على عائلتها بكلّ لوعةِ الدنيا ومرارتها، ولكنّ أحدًا لم يُجبها هذه المرّة.

تعالت ضحكاتُ المعتدين وصاروا يرفعون أعلامًا بيضاء توسطتها نجمةٌ زرقاءُ غريبةُ الشكلِ ، و بدأوا يُثبِّتونها في شوارع دير ياسين كلّها.

في ذلك اليوم لم تكن جهادُ هي الوحيدةُ التي فقدت أهلها ومنزلها وديارها وهاجرت رُغمًا عنها ، فقد شُرّد أكثر من سبعة آلاف شخص يومها واستشهد ما يقارب الخمسين ألف شهيدٍ في مختلف القرى منها : دير ياسين، بيت أمّ الميس، بيت عطّاب، دير الشيخ ، دير الهوى ، دير إبّان وغيرها الكثير من قرى فلسطين التي احتُلّت وسُلبت بكلّ وحشيّة وضراوة من قبل اليهود.

لم يتوقفّ اليهود عند ذلك الحدّ بل استمرّوا في الزحف إلى باقي بلدانِ فلسطين ليحتلّوها ويسيطروا عليها بارتكاب المزيد من المذابحِ البشعة التي انتهت بهدمِ أكثر من خُمسمائة قريةٍ فلسطينيّة واحتلالِ معظم أراضي فلسطين من قبلِ الحركةِ الصهيونية. كما قاموا بارتكابِ عشرات الفظائع والمجازر وأعمال النهب ضدّ الفلسطينيّين وتمّ طردُ مُعظمِ القبائل البدوية التي كانت تعيش في صحراء النقب، كما بدأوا بمحوِ الأسماءِ الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبريةٍ. بدأ التطهيرُ العرقي في عام ١٩٤٧ ميلاديًّا بعد اقتراح الأُممِ المتحدة لقرارِ تقسيم فلسطين. بدأت العصابات الصهيونية بعمليةٍ هدفت لبدأ التطهيرِ العرقي على نطاقٍ واسعٍ لفرضِ سياسةِ الأمر الواقعِ على الأرضِ لإبطال قرارِ التقسيم وتجاهل قرار الأُممُ المتحدة بتنفيذه ؛ حيث أراد اليهود الاستحواذ على جميعِ أراضي فلسطين.

أدركت جهاد بعد سنينٍ طوال أنّ احتلال دولتها كان مُدبّرًا و مُخطّطًا بدقّة منذ عدّة سنين، منذ صُدور تصريح بلفور المُتعارف عليه باسم« وعد بلفور ». التصريح الإجرامي الذي أهدى وطنًا كاملًا لليهود، ضاربًا بكلّ القوانين والعهود عَرض الحائطِ. كان ذلك التصريح أساسَ نكبةِ الفلسطينيّين واقتلاعهم من أرضهم لإقامة ما يُسمّى بـ« دولة إسرائيل » على أنقاضِ منازلهم عام
١٩٤٨ ميلاديًّا.

وفي ذكرى بلفور من كلِّ عام ، تُحمّل الفصائلُ والقوى الوطنيَّةُ والإسلاميَّةُ الفِلسطينيّةُ بريطانيا المسؤوليَّة الكاملةَ عن هذه الجريمةِ البشعة بحقّ الشعبِ الفلسطينيِّ.مشدّدةً على أنّ الحقوقَ الفلسطينيَّة لا تسقُط بالتّقادُمِ مهما طالَ الزَّمنُ. ويحيى الشعبُ الفلسطينيُّ في الوطنِ والشتات هذه الذكرى الأليمةِ بمسيراتٍ حاشدةٍ ومظاهراتٍ غاضبةٍ ، وكتاباتٍ وتغطياتٍ إعلاميَّةٍ تنديدًا بهذه الجريمةٍ الاستعماريَّةِ، وتأكيدًا لتمسُّكهم بأرضِهم و بحقّهم في العودة لمنازلهم وقُراهم ومُدنهم التي أُخرجوا منها عنوةً بلا أدنى ذنب سوى أنّهم امتلكوا وطنًا طمع فيه الصّهاينة .

وتتعالي في كلّ عام الدّعواتُ لمنظّماتِ حقوقِ الإنسان والمجتمعِ المدنيّ المحلّية والدُّولية ؛ لرفعِ الدعاوى القضائيَّة أمامَ المحاكمِ الجنائيّةِ والدُّوليَّةِ على الجرائمِ السياسيَّةِ والجنائيَّة التي ارتكبتها حكومةُ بريطانيا وحكومةُ الاحتلال والعصاباتِ الصُّهيونيَّةِ بحقِّ الشَّعبِ الفلسطينيِّ باعتبارها جرائمَ حربٍ. كما يُطالب الكثيرون بريطانيا أن تُكفِّر عن جريمتها الكبرى وأن تعتذرَ للشّعبَ الفلسطينيِّ وتُقدِّمَ كافّة أشكالِ الدّعمِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ للقضيَّةِ الفلسطينيَّة.

ووعدُ بلفور أو تصريحُ بلفور هو الاسمُ الشائعُ الذي أُطلق على الرسالةِ التي أرسلها وزيرُ الخارجيّةِ البريطانيّ
« آرثر جيمس بلفور » بتاريخ ٢ -١١- ١٩١٧
إلى اللورد « ليونيل وولتر دي روتشيلد » يشير فيها إلى تأييد الحكومةِ البريطانيِّة لإنشاءِ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطين. إذ يومها كانت قوّاتُ الإمبراطوريِّة البريطانيَّة المنتصرةِ في الحربِ العالميَّةِ الأولى قد بدأت تدخُل فلسطين لتُعلِنَ عليها انتدابها الذي استمرّ من عام ١٩١٨ إلى عام ١٩٤٨ ، وعلى مدى ثلاثينَ عامًا من انتدابها، وظّفت حكومةُ بريطانيا العظمى وعدها على أرضِ الواقع، وترجمته إلى حقائقَ لا تمتُّ بصلةٍ إلى الحقِّ الفلسطينيِّ ؛ فما إن أطلّ يومُ الخامس عشر من أيار لعامِ ١٩٤٨ ميلاديًّا ، حتى كانت الدولة اليهوديَّة جاهزةً لتحتلّ الجزء الأكبرَ من أرضِ فلسطين التاريخية؛ لتقيم عليها دولتها. وفي المقابل تم اقتلاعُ مئاتِ الآلافِ من الفلسطينيّين من أراضيهم وتحوّلوا إلى شعبٍ مُهجّرٍ منفيٍّ خارجَ حدودِ وطنِه التاريخيّ ، وما زالت نكبتُهم قائمةً حتى الآن، رُغم أنّهم كانوا يُشكِّلون خمسًا وتسعين بالمئة من مجموع سُكَّانِ فلسطينَ حينما صَدر هذا الوعدُ الذي يُطلق عليه المُناصرون للقضيّة الفلسطينيّة عبارة
«وعدُ من لا يملكُ لمن لا يستحقُّ».

" عزيزي اللُّورد روتشيلد،
يسرُّني جدًّا أن أُبلِّغكم بالنّيابةِ عن حكومةِ جلالته التصريحَ التالي الذي ينطوي على العطفِ على أماني اليهودِ والصُهيونيّة، وقد عُرض على الوزارةِ وأقرّتهُ :
«إنّ حكومةَ صاحبِ الجلالةِ تنظرُ بعينِ العطفِ إلى إقامةِ مقامٍ قوميٍّ في فلسطين للشعبِ اليهوديِّ ، وستبذل غايةَ جُهدها لتسهيل تحقيقِ هذه الغاية ، على أن يُفهم جليًّا أنّه لن يُؤتى بعملٍ من شأنهِ أن ينتقص من الحقوقِ المدنيّة والدينيّة التي تتمتعُ بها الطوائفُ غيرُ اليهوديّةِ المقيمةِ في فلسطين، ولا الحقوقِ أو الوضعِ السياسيّ الذي يتمتّع به اليهودُ في أيّ بلدٍ آخرٍ ، وسأكون مُمتنًّا إذا ما أحطتُم الاتِّحاد الصهيونيّ علماً بهذا التصريح. "
المخلص
آرثر جيمس بلفور.

كان هذا نصُّ وعدُ بلفور الذي كان أوّلَ بذرةٍ لزرعِ شجرة الاحتلالِ في دولة فلسطين.

استفاقت جهادُ من تلك الذكرياتِ الموجعة وقد اخضلّت عيناها بالدموع وارتسمت ابتسامةٌ شاحبةٌ على وجهها وهي تُطالع الرمال التي كان آخر عهدها بأختها الصغيرة عندها، حين كُنّ يرسمن معًا على الرمال الذهبيّة ، انهمرت دموعُها مندّيةً الرمال وقد أدركت حينها فقط لكم هو مؤلمٌ أن تفقد أعزّائك وأحبّائك.

رفعت إبهامها وبدأت ترسمُ على الرمال وجهًا حزينًا باكيًا وهي تُنادي عليها بخفوت قائلة :« هيا يا أختي... ألن ترسمي معي؟ ... لقد باتت أختُك حزينةً ، ولم تعد سعيدةً كما رسمتيها بأناملك الصغيرة... تعالي لترسمي البسمة على وجهي مرةً أخرى... تعالي لتضحكي على رسمتي التي غدت بائسةً كئيبةً من بعدِ رحيلكِ
يا أُختي... »

تناهى إلى مسامعها همهماتٌ بالعبريةِ وضحكاتٌ خافتة ، مسحت دموعها وهي تلتفتُ للخلف ، اعتلت وجهها ابتسامةٌ شامتةٌ وهي تستقيم مُحدِّثةً حفنةً من جنود اليهود قائلةً :« أتظنّون أنّكم قد انتصرتم علينا ؟! أوتخالون أنّكم بواسل شُجعان بعد أن استعمرتم بلادنا؟! أتظنّون أنّكم ستُظهرون الشجاعة بقتلكم الأطفال والنساء والرجال؟! أوتظنّون حقًّا أنّها بلادكم؟!
لا والله !، لا والله ماكانت ولن تكون بلادكم أبدًا ، لا والله لم ولن تنتصروا علينا أبدًا، لا وربُّ القدس لستم سوى حثالةٍ جُبناء متوحّشين تخافون من ظلّكم ، واللّه الذي لا إلهَ إلّا هو سيأتي اليوم الذي سنقتلعكم فيه من جذوركم ونُحرقكم ونرمي بكم خارج وطننا لتنهش الغربان من جيفكم البغيضة أيّها الجُبناء... »

لم تصمُت جهاد الثلاثينيّة وإنما قُطع كلامُها بركلةٍ من ذلك الجندّي الحقير لترتدّ للوراء مُرتطمةً بجدران أحد المنازل. لم تزدها تلك الركلةُ سوى فخرًا واعتزازًا وهي تصيحُ في وجوههم مرفوعة الرأس بشموخٍ :« لن تقهرونا ! لن تخيفونا بأسلحتكُم البالية تلك ! سنظلّ نحاربكم بكلّ قوتنا، سنظلّ نجاهدُ حتى نستعيد أرضنا ووطننا وبلادنا فلسطينَ الحبيبة » اختتمت كلامها وهي تدفع جنديًّا إسرائيليًا اقترب منها مُشهرًا سلاحه بوجهها علّها تبتعد إلّا أنّ ذلك لم يُزعزعها ولم تتراجع قيد اُنملة، بل ازدادت عزيمتها على فعل ما جاءت إليه من الأساس ، بعد تلك السنين الطوالِ التي قاست فيها شتّى أنواع الآلام والصّعاب وهُجٍّرت من بلدها وأرضها، لم تأتي لبلدتها سوى لتُسدي لها جميلاً تُعبّر به عن ولائها لها ولفلسطين ولكلِّ شهدائها الذين ماتوا وهم يبذلون مُهجَهم فداءً لوطنهم، فداءً لفلسطين الحرّة التي ستبقى كذلك رغم كيد العِدى.

طالعها الجنودُ الإسرائيليّون بمَقتٍ وهم يتمتمون بلهجتهم العبرية البغيضةِ مُشيرين لها بالابتعاد عن المكان، تبسّمت جهادُ وهي تستذكر عائلتها الحبيبة وذكرياتها الهادئة والسعيدة معهم ، وذكرياتها مع صديقاتها وأختها في شوارع دير ياسين حينما كُنّ يلعبن وهنّ صغارٌ... حينما... حينما... كانوا هناك...

انتشلت جهاد ذلك السكين من جيب جِلبابها بسرعةٍ خاطفة وهوت به في صدر أحدِ الجنودِ ثمّ أخرجتُه وهوت به مرّةً ثانيةً في صدره لتتأكّد من هلاكه قبل أن تخترقَ تلك الرُّصاصات العشرةُ جسدها الهزيل ، وانهارت جهادُ ساقطًةً على الأرض مُثخنةً بجراحها الدامية تعانق الأرض بسرور كما لو كانت تُريد أن تروي ظمأها وتُطفئ نار شوقها لأرضها وبلادها التي سُلبت منها بكلّ قسوة، ولكنّها بالنهاية استطاعت أن تحقّق أسمى أمانيها بالاستشهاد في سبيل الله دفاعًا عن دينها وبلدها ووطنها فلسطين، استطاعت البسمة أخيرًا أن تجد مُستقرًّا لها على وجه جهاد الذي بات مُبتسمًا راضيًا وقد تبددّت آلامه وأوجاعه ولم يعد لها أثرُ. استُشهدت جهادُ بعد جهادٍ طويل خاضته في حياتها رغبةً في استعادة أرضها ووطنها الحبيبِ ، استُشهدت وهي تُرددّ الشهادتين بابتسامةٍ وضّاءة تُزيّن ثغرها ، استُشهدت وكُلّها يقين أنّ نصر الله آتٍ لا محالة، و أنّ بلادها ستعود شامخةً قويّةً مرفوعة الجبين، وستتحرّرُ من قيودِ الصَّهاينة المعتدين ليرفرف علمُها باعتزازٍ فوقَ أراضيها، سيعود الفلسطينيّون ومعهم جميع الأحرار في وطننا الذين يتوقون لذلك اليوم مُتقلدّين سيوفهم ودروعهم يُحاربون بعزّةٍ وشجاعةٍ حتى يتقهقر المعتدون ويرفرف اللّواء على أعالي فلسطين ليُعلنَ أن قد انهزم الأعداءُ وسكنت الأرجاءُ وعاد الصهاينةُ يفرُّون للبقاع التي أتوا منها في شتّى أصقاع العالم مدحورين مهزومين مُقرّين أنّه مهما طال الوقت و الغُمّة فلابُدّ لتلك الغمامة السوداء أن تنقشع لتعود الحقوق لأصحابها ، استشهدت جهادُ لتلحق بعائلتها التي طالَ حنينها لهم وهي تُهمس لبلادها أن اصبري يا بلادي... فإنّا عائدون..... عائدون... وإن طالَ الزمانُ يا وطني...عائدون... يا فلسطين.

____________________

تمت بحمد الله

المصادر : موقع ويكيبيديا ، موقع addustour.com،. موقع الجزيرة

« جميع المعلومات التي ضمّنتُها في قصّتي تم التّحقق من صحّتها »

©جميع الحقوق محفوظة

دمتم في أمان الله

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top