محاكمة

في غرفة التحقيق الضيقة، تدَّلى ضوء أبيض خافت مِن مصباح وحيد في السقف، ليُلقي ظلالًا طويلة على الطاولة المعدنية الباردة الَّتي تفصل بين رجلين، أحدهما ينتظر ماذا سيفعل، والآخر يُراقبه بعين صقر يترقّب حركة الفريسة الأخيرة.

جلس «جاسر» على الكرسي الحديدي، يداه مقيدتان خلف ظهره، لكن جسده مُسترخٍ بشكل مُتعمّد كأنّه جالس في مقهى لا في غرفة تحقيق، عيناه تتحركان ببطء في أرجاء الغرفة وكأنَّه يقيس المساحة؛ ليبحث عن مخرج غير مرئي.

على الجانب الآخر جلس «آصف» وجسده مائل قليلًا إلى الأمام، مرفقاه مستندان إلى الطاولة، وأصابعه متشابكة أمامه في هدوء أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، وفي عينيه بريق حاد ليس غضبًا، بل دهاءً خالصًا كمن يعرف أنه يملك الوقت واليد العليا.

قال «آصف» بصوت منخفض، لكنَّه مشحون بسلطة غير قابلة للتفاوض:
"إذًا أخيرًا وجهاً لوجه."

اِبتسم «جاسر» ابتسامة واهنة بالكاد اِرتفعت زاوية شفتيه، وقال بصوت أجش مُتهكَّم:
"تأخرت كثيرًا، كنت أتوقعك منذ زمن."

لم يُحرّك «آصف» ساكنًا، بل ترك الصمت يتغلغل في الهواء كأنَّه يُراهن على أنَّ الثِقل النفسي للغرفة سيبدأ عمله قريبًا، كل ثانية تمر كانت تُضاف إلى كفة ميزانه، بينما كان «جاسر» يُقاوم، لكن عيناه، عيناه كانتا تفضحان بداية الانهيار البطيء.

الساعة المعدنية المثبتة على الحائط أصدرت صوتًا رتيبًا، وعدا ذلك كان الصمت هو سيد المكان.

قال «آصف» أخيرًا بنبرة أشبه بفحيح أفعى تلتف حول فريستها ببطىء:
"نعرف كل شيء، لكن أريد أن أسمعه منك، كيف نجوت في تلك الليلة؟"

توقفت ابتسامة «جاسر»، للحظة خاطفة فقط، لكن تلك اللحظة كانت كافية ليُدرك «آصف» أنَّه أصاب الوتر الذي أراده، وأنَّ القصة التي ستُروى هنا في هذا الظلام ستكون الفصل الأخير، أو ربما مجرد بداية جديدة.

ابتسم «جاسر» ابتسامة واسعة حتَّى بدت أنامله ترتجف في محاولة كبح ضحكة مكتومة، وتوارت خلف ابتسامته نظرة غامضة كما لو أنَّ الكلمات الَّتي ستخرج مِن فمه هي الحبل الَّذي سيربط كل شيء معًا في تلك اللحظة القاتمة.

فقال بصوت منخفض مستمتعًا بتلك اللعبة الَّتي كان يتقنها، اللعبة الَّتي جعلت مِن «آصف» مجرد قطعة على رقعة شطرنجٍ تحركها خيوط «جاسر»:
"أنت لم تكتشف الأمر بعد، لكن لا بأس، استمع إليّ."

ابتسم «آصف» هو الآخر اِبتسامة غريبة لا تعكس سوى صمتًا عميقًا مملوءًا بالشكوك والظنون، كان يراقب خصمه كما يراقب أحدهم سلوك حيوان قام بترويضه دون أن يظهر أي قلق، ولكنَّه قال بهدوء:
"كلي أذان صاغية."

كانت كلماته مشبعةً بذلك النوع مِن الثقة الَّتي تأتي مِن سنوات مِن مواجهة الظلام وكأنَّ أي شيء سيقوله «جاسر» ليس سوى فصل جديد من كتابٍ قد قرأه مسبقًا، لكن في أعماق قلبه، كان يعلم أنَّ هذا اللقاء لن يكون كما توقَّع، فكل كلمة تُقال هنا قد تحمل مفاجأة جديدة.

لم يكن «آصف» يكتفي بالحصول على الحقائق فحسب، بل كان في لحظات كهذه يستمتع بتحليل النفس البشرية؛ محاولًا فهم ما وراء الكواليس، الابتسامات، العيون المتلألئة، تلك اللحظات التي يعكس فيها المجرم ملامحه الحقيقية كلها كانت تثير فضوله أكثر من أي وقت مضى.

أعاد «جاسر» رأسه إلى الخلف وكأنَّ تلك الحركة كانت استرجاعًا لذكرياته البعيدة، لحظات مرَّت وكأنها حلم غير مكتمل.

لحظة من الصمت العميق سادت الأجواء، ثمَّ فجأة شعر «جاسر» بجسده يميل إلى الوراء بشكل مفاجئ، انحنى جسده في الاتجاه الَّذي بدا للوهلة الأولى أنَّه سقوط قاتل مِن حافة المبنى، فكانت الصورة فوضوية ومربكة.

كان المشهد يوحي بأنَّه اختار الموت بنفسه، لكن الحقيقة كانت أبعد بكثير مِن هذه الوهلة الظاهرة، لم يكن السقوط سوى خدعة محكمة، خطة ذكية في مسرح الجريمة حيث اختار «جاسر» أن يغمض عينيه عن الواقع للحظة؛ ليخدع الجميع، بما فيهم نفسه!

لقد برع في إخفاء حقيقته لدرجة أنَّ الكذب أصبح جزءًا مِن كيانه، وكان ينسج خيوط لعبته ببراعة تامة محوّلًا كل خدعة إلى جزء مِن هوية جديدة له.

ومع السقوط الَّذي بدا مؤلمًا في عيون مَن رآه، كانت عيناه تلمعان في الظلام كأنهما ينبضان بالحياة كما يفعل المجرم الَّذي يتقن فنّ خداع العالم مِن حوله.

لكن السر كان في الحبل الشفاف، قبل ساعات مِن المواجهة، صعد «جاسر» إلى سطح العمارة المهجورة، حيث ثبت حبلًا رفيعًا شفافًا مِن ألياف النايلون إلى أحد الأعمدة الخرسانية القريبة مِن الحافة، أخفاه ببراعة داخل ظلال السطح المظلمة حيث لا يُرى في عتمة الليل.

أثناء سقوطه، وبحركة محسوبة بدقة قاتلة، أرخى الحبل بسرعة خاطفة، ليوقف سقوطه فجأة على بعد أمتار قليلة من الأرض، وظل معلقًا في الهواء كخيال داكن لا يكاد يُرى.

تأرجح «جاسر» ببطء مستغلًا الزاوية المظلمة للواجهة الخلفية للعمارة، ثمَّ دفع جسده بكل هدوء نحو نافذة قديمة في الطابق الثاني، كانت قد أكلتها سنوات من الإهمال والتقادم.

انزلق عبر النافذة بخفة قاتلة، ليجد نفسه في إحدى الغرف المهجورة الَّتي تغلفها رائحة عتيقة، بينما الجدران متصدعة تمامًا، ظلَّ في تلك الغرفة لدقائق جالسًا في الظلام يستمع إلى أصوات الشرطة في الأسفل، ويميز صراخ الأوامر وهدير ضوء الكشافات الذي يمر عبر زجاج النافذة المغبرّ، لكنَّهم لم يصعدوا، فقد افترض الجميع أنَّه سقط، ولم يخطر لأحد أن يبحث عن رجل ميت.

بعد أن تأكد مِن انشغالهم، تسلل بهدوء عبر السلم الداخلي المتهالك للعمارة وصولًا إلى سطحها مجددًا، لقد أصبح السطح هو وسيلة هروبه الثانية وكأنَّ العمارة نفسها كانت تحميه.

سار على سطح المبنى بخطوات هادئة، عينيه تراقبان الأزقة مِن علٍ وكأنَّه صياد يراقب فريسته من مكان مرتفع.

انتقل بين السطوح المتجاورة، يقفز بخفة من سطح إلى آخر، مستفيدًا مِن قرب الأبنية في الحي الشعبي حيث الفجوات بين المباني بالكاد تكفي لعبور شخص رشيق مثله.

بينما كانت الشرطة تفتش العمارة طابقًا طابقًا، كان «جاسر» قد ابتعد بالفعل، قفز إلى سطح المبنى المقابل، ثمَّ إلى الذي يليه متجهًا إلى أبعد نقطة ممكنة عن مسرح الجريمة.

في النهاية، وصل إلى مبنى منخفض، حيث انزلق عبر سلم خارجي متهالك إلى الزقاق الخلفي، ليجد نفسه في قلب الحي الشعبي مختفيًا وسط الظلال والضوضاء، لا يستطيع أحد أن يدرك وجوده.

مدَّ «جاسر» جسده إلى الأمام، وكان وجهه مشرقًا بما يشبه وهج النصر، عينيه تلمعان بالحيلة والدهاء، ثمَّ قال بصوت هادئ، لكنَّه مشبع بالثقة:
"ما رأيك، أكنت تتوقع ذلك؟"

تَفاجأ «آصف» مِن كلماته، وزَاغت عيناه في عمق الجملة حيث كانت تفيض منها نظرات مِن الحيرة والدهشة، ولكن سرعان ما ابتسم، فابتسامته كانت كمن يكتشف بريقًا جديدًا في أحد الألغاز القديمة، وقال:
"أنت حقًا ذكي، عليَّ الاعتراف، لم أتوقع."

ثمَّ أضاف «جاسر» بصوت منخفض:
"إذًا، فك قيدي، وسأريك شيئًا آخر لم يتوقعه أحد."

نظَر «آصف» إليه باستفهام، عينيه محملتين بتساؤل، ثمَّ نطق «جاسر» بتلك الابتسامة التي تحمل وراءها غموضًا:
"أنت تعلم جيدًا أنني لن أفعل حركة غبية كالهروب."

اِستجاب «آصف» دون تردد، فرفع يده وأزال الأصفاد، ومن ثمَّ انتظر في حالة مِن الترقب ما سيحدث، في تلك اللحظة، وبيد هادئة وضع «جاسر» يده على وجهه، ثمَّ أزال القناع برفق وكأنَّما كانت تلك اللمسة بداية لسر مكنون.

تساقط القناع ببطء، كما يتساقط الوهم أمام الحقيقة، ليظهر «جاسر» كما لم يره أحد مِن قبل، كانت ملامحه أكثر نقاءً، أكثر رقة، عيناه بنيتان واسعة، شعره الداكن كان ينزل على جبينه بانسيابية، وابتسامته تحمل دقة ونعومة تُخفي وراءها عالمًا مِن التناقضات، ذلك الجمال الممزوج بالغموض.

كان وجهه لوحة مِن الجمال البسيط، لم يكن مجرد وسيم، بل كان يحمل طابعًا مِن النعومة والأناقة الهادئة الَّتي تبهر العين.

كان يبتسم كما لو أنَّ الحياة بأسرها كانت جزءًا مِن لعبة لعبها بمهارة.

حاول «آصف» أن يثبت نفسه في مواجهة تلك الكلمات القاتلة، لكن قلبه كان يضطرب بشدة وهو يحدق في «جاسر».

ضرب الطاولة بقوة، لكنَّه لم يستطع الهروب مِن تلك الأسئلة الَّتي تمزق عقله، فسأل بصوت مملوء بالغضب لم يكن يعرف إن كان موجَّهًا إليه أم إلى نفسه:
"لِمَ فعلت كل ذلك؟ أنت شاب في مقتبل العمر، ما الذي دفعك لكل هذا؟"

ابتسم «جاسر» ابتسامة هادئة تكاد تكون مكرًا متحفظًا على أطراف شفتيه، وعيونه الداكنة تلمع، كانت الابتسامة الَّتي رسمت على وجهه كأنها تعبير عن معرفة عميقة بما يحدث حوله، ثمَّ قال بلغة باردة، لم يخلو حديثه مِن سخرية قاتلة:
"أحاول تحقيق العدالة، لم أرتكب ذنبًا، قتلت مَن يستحق القتل."

عادت نظرات «آصف» لتتصلب في وجهه، لكنَّه حاول ضبط نفسه، لا يريد أن يظهر ضعفه أمامه، لكنَّه لا يستطيع نزع تلك الأفكار المتشابكة الَّتي بدأت تلتف حول عقله كشبكة خانقة، أفكار تتساءل عن مدى حقيقة ما يقول، فصرخ بصوت خافت لكنه مليء بالقوة:
"وأين هو القانون في كل هذا؟ أين القواعد التي يجب أن يسير عليها الجميع؟"

لكن «جاسر» اكتفى بابتسامة أخرى، كانت أوسع هذه المرة، ضحك قليلًا، ثمَّ وضع يده أمامه وكأنَّما يصدّ عاصفة مِن الكلمات، وقال بلسان هادئ ولكن حادّ:
"أي قانون تتحدث عنه؟ الجميع هارب مِن العدالة غارق في ظلمات ذاته، يتسابقون نحو السلطة والنفوذ،  أخبرني ما هو القانون إذا كان من يطبقه هم نفسهم مَن يخترقونه؟ بدون الأدلة الَّتي تركتها، وبدون تحقيقك أنت بماضي الضحية فلا أحد كان سيكتشفها، وهذا بحد ذاته أظهر لي عجز النظام عن حماية الضعفاء."

ثم سكت لفترة متأملًا كلمات «آصف» كأنَّها تتحول إلى جروحٍ عميقة في قلبه، وابتسم ابتسامة بها بعض الحزن المُرّ، ثمَّ قال:
"أنا لا أهرب مِن الحقيقة، هذا العالم هو غابة، والسّاقطون هم مَن يُعانون، ومن يملك القوة يتحكم في مصير الضعفاء، حتَّى أنت يا آصف لا تعترف بأنك دخلت كليتك باستخدام القوة والسلطة، طولك لا يصل للمائة والسبعين، كيف سُمِح لك بدخول هذه الكلية إن لم تكن استخدمت النفوذ؟"

كانت هذه الكلمات تعصف بعقل «آصف» كأنَّها امواج تتلاطم في الصخور لتكسرها، بينما «جاسر» لم يكن يطرح أسئلة فقط، بل كان يقذف في وجهه أجوبةً لأسئلة لم يكن «آصف» يعرف أنَّه يطرحها على نفسه حتَّى.

شعورٌ غريب انتابه، مزيج مِن التحدي والخوف، خشي أن يكون «جاسر» على حق، يشعر في أعماقه بأنَّ هناك شيء ما غير صحيح في هذا العالم، ربما كان هو نفسه جزءًا من هذا النظام الغير عادل، فهل كان يعشق الكذب أكثر مِن الحقيقة؟ وهل هو حقًا قادر على أن يكون ذلك البطل الذي يتحدى هذا العالم المظلم؟

تجاهل «آصف» كل الأسئلة التي كانت تدور في عقله، وحاول أن يركز على ما هو أمامه، صوت «جاسر» كان يلاحقه، لكن تلك الكلمات كانت ثقيلة على قلبه، فقرَّر أن يطويها مؤقتًا، أدار نظره مجددًا إلى «جاسر»، وعينيه تلتمعان بالبحث عن الإجابة الَّتي قد تقلب الطاولة، سأل بجدية أكبر محاولًا أن يضغط على نقاط الضعف:
"هل مِن أحد يساعدك؟"

أجاب «جاسر» بلا تردد كأنَّما يخرج الكلمات مِن بين شفتيه بحدة لا تكشف عن أي ألم:
"لا، لم يساعدني أحد، أنا شاب خرجت مِن الميتم منذ أربع سنوات، لا أمتلك عائلة ولا صديق ليساعدني."

كانت الإجابة قاسية كالحجر، كان «آصف» في تلك اللحظة يشعر بشيء غريب، كان قلبه يمتلئ بحسرة، لا على «جاسر»، بل على النظام الذي أوجد ذلك الشاب بلا مأوى بلا أمل، بلا جذور تربطه بهذا العالم، كل كلمة قالها «جاسر» كانت تُظهر حجم العزلة الَّتي كان يعيشها، تلك الوحدة الَّتي قد تدفع الإنسان إلى أقصى حدود الظلام.

بعد مرور ثلاث أسابيع، وفي قاعة المحكمة، تسللت همسات الحضور مع بداية الجلسة، وكان الصوت الوحيد الَّذي يعكر سكون القاعة هو وقع خطوات المحامي الذي صعد إلى منصة الدفاع.

كان المحامي، رجل في الخمسينات مِن عمره، يرتدي بدلة رسمية، لكن ملامحه أظهرت على الرغم مِن وقارها نوعًا مِن الإرهاق كما لو أنَّه يحمل عبئًا ثقيلًا في الدفاع عن «جاسر»، المجرم المدان في قلوب الكثيرين.

وقف المحامي بثقة، ثمَّ بدأ حديثه بنبرة هادئة محاولًا أن يثبت أمام القاضي أن «جاسر» لا يستحق عقوبة الإعدام، على الرغم مِن الأدلة القاطعة الَّتي كانت ضده، فقال وهو ينظر إلى القاضي:
"أيها القاضي المحترم، أيها السادة الحضور، إنني لا أقول أنَّ موكلي بريء مِن التهم الموجهة إليه، لكنني أطلب منكم أن تأخذوا في اعتباركم الظروف المحيطة بهذه الجرائم، قد يكون «جاسر» ارتكب ما ارتكب، ولكن هل نقف هنا لنعاقب فردًا على خطأ ارتكبه في ظروف قاسية وضعت أمامه؟ هل مِن العدل أن نلجأ إلى حكم الإعدام دون أن نأخذ بعين الاعتبار السنوات العديدة التي قضاها في حياة ضائعة بلا توجيه، وبلا مساعدة؟"

نظر «جاسر» إلى المحامي، وقد تكاثف في قلبه شعور غريب مِن الاستياء، كان يبدو أنَّ ذلك الرجل يحاول بث مشاعر الشفقة في نفوس القضاة وكأن ماضيه المضطرب وحياته الَّتي غمرتها الآلام ستكسبه تعاطفًا، ولكن «جاسر» لم يشعر بأي شيء سوى الكراهية والرفض، كيف لهذا الرجل أن يحاول استعطافهم؟ كيف لهذا المحامي أن يطلب العطف على حساب جرائمه التي لا تمحوها الدماء؟

في تلك اللحظة، كان الغضب يشتعل في داخله، لكنَّه سيطر عليه بأعجوبة، كانت يديه مشدودة على حواف الكرسي، وكأنهما سيتفجّران في أي لحظة، أراد أن ينهض ويصرخ في وجه المحامي، أن يلقنه درسًا في كيفية الدفاع عن الجريمة، كيف يبرر القتل بشعارات زائفة عن الماضي المؤلم؟ هو لم يعد في حاجة لهذه القصص، كان يعلم أن القضاة لن يُعطوا الأمر أهمية، أما محاميه فلا يسعفه إلا الحديث عن الضعف، فكل ما فعله كان محاولة لتبرير النفس.

ثمَّ نظر إلى «آصف»، الذي كان جالسًا هناك، يراقب المشهد بهدوء وكأنَّها لحظة عابرة في مسلسل طويل مِن التحقيقات.

كان وجهه يعكس اللامبالاة التي يزيدها الغضب في قلب «جاسر»، كيف يمكن لآصف أن يُوكل لهذا المحامي؟ ألم يكن من الأفضل أن يتركه يواجه مصيره بدونه؟ هو لم يطلب مِن أحد الشفقة، ولكنَّه في نفس الوقت لا يريد أن يُنظر إليه كما لو كان ضحية الظروف.

نظر «جاسر» في وجوه الحضور، عينيه تتنقلان بسرعة يبحث عن «آصف»، وعندما اِلتقت أعينهم، كانت اللحظة مشحونة بالتوتر.

لم يكن هناك سوى غيظ شديد يظهر على وجه «جاسر»،  أما «آصف» فقد حاول جاهداً أن يكتم ضحكته، لكن ابتسامة خفيفة تسللت على وجهه وكأنَّ ما يحدث أمامه لا يعدو كونه عرضًا كوميديًا غير متوقع.

لحظة مِن الصمت اختلط فيها التوتر بالكوميديا، ثمَّ فجأة رفع «جاسر» إصبعه بشكل مفاجئ، ومرره ببطء على رقبته في حركة تشير بوضوح إلى أنَّه سيذبح «آصف» إذا استطاع.

كان واضحًا من تعبيره أنه لم يكترث بتاتًا للآخرين من حوله، في تلك اللحظة بدا «جاسر» وكأنَّه في مشهد من فيلم أكشن رخيص، حيث يهدد خصمه بطريقة مبالغ فيها، بينما كان «آصف» يتأمل في المشهد وكأنّه لا يصدق ما يرى.

بينما أضاف المحامي وهو يلتفت نحو «جاسر» الَّذي كان جالسًا على مقعده بلا حراك، وحينما رأى نظرات الجميع موجهة نحوه ابتسم ببلاهة، بينما أكمل المحامي:
"إنه شاب نشأ في بيئة قاسية، نشأ في الميتم، لا عائلة له، كيف نتوقع مِن شخص كهذا أن يختار الطريق الصحيح؟ كيف نتوقع أن يعي ما هو الصواب في عالم مليء بالفوضى والظلم؟ إنه لم يُمنح الفرصة ليكون شخصًا أفضل، كل خطوة اتخذها كانت نتيجة لتراكمات الألم والفقدان."

ضغط «جاسر» على حواف سرواله بعنف، محاولًا أن يتمالك نفسه، لكنَّه كان يكاد يلتهم غيظه، كلمات الرجل الَّتي كانت تتناثر كالرصاص في الهواء زادت من اشتعال غضبه، كان يفكر في نفسه:
"هل حقًا يمكن لأحد أن يصدق هذا الكلام؟"

أنفاسه كانت تتسارع، وهو ينظر إلى الرجل الذي كان يطالبه بالاستسلام للواقع القاسي الذي لا مكان فيه للعدالة الحقيقية، كيف يمكن لهذه الحجج الباردة أن تمر دون رد؟ كيف يسكت عن تلك المزاعم التي تسعى إلى تكريس الظلم؟

صمت المحامي للحظة، ثم أضاف بحسم:
"أنا لا أقول إنَّ ما فعله «جاسر» هو الصواب، ولكن ما أطلبه هو النظر في عقوبته على ضوء الظروف التي نشأ فيها، على ضوء ما عانى منه، الإعدام ليس الحل، والعدالة ليست دائمًا في القسوة، نطلب أن تكون العقوبة عادلة، وأن تأخذ في الاعتبار كل ما مرَّ به هذا الشاب اليتيم.

ثمَّ جلس المحامي، وأشار إلى «جاسر» بنظرة تكاد تكون بمثابة دعوة للمساعدة، وكأنّه يطلب من المحكمة أن تعطيه فرصة أخرى.

ولكن الجلسة لم تنتهِ بعد، فبينما كان الجميع ينتظر رد القاضي، كان «جاسر» يقف الآن على قدمه، ينظر إلى الجميع، لكن هذه المرة لم يكن يتكلم كما كان يفعل المحامي، وقف ليدافع عن نفسه.

قال «جاسر» بصوت هادئ لكنَّه حازم كما لو أن الكلمات تنبع مِن أعماقه:
"أريد أن أقول شيئًا، لا لأنني أريد أن أبرر نفسي، بل لأنني أريدكم أن تفهموا، ليس ما فعلته خطأ، بل كل ما فعلته كان استجابة لعالمكم المريض، كنتُ أبحث عن العدالة في مكان لا وجود لها، كان كل ما حولي قاسيًا، حتَّى الناس، الجميع يتعامل بما يملكه من سلطة، ونفوذ، أو مال، هذا العالم هو غابة، وفي الغابة، إذا لم تكن قويًا، تُصبح فريسة، هذا ما حدث لي، هذا ما جعلكم تظنون أنني مجرم، لكنني كنتُ فقط أبحث عن العدالة، كنتُ فقط أقتص مِن أولئك الذين لم يتعرضوا للمحاسبة.

نظر له الجميع باستغراب، كان المشهد أشبه بمسرحية غريبة، المحامي كان يجهد نفسه طوال الجلسات الماضية يناجي القاضي بالرأفة والرحمة مِن أجل موكله، وإذا به موكله الآن يخرج بتصريح مذهل يعلن فيه أنه ليس مخطئًا! حتَّى القاضي بدا متفاجئًا، ورفع حاجبيه في حركة غير قابلة للتفسير أما الحضور، فقد تباينت ردود أفعالهم، بعضهم كانوا يهمسون مع بعضهم البعض، والبعض الآخر اكتفى بمتابعة «جاسر» بنظرات متشككة، كأنهم ينتظرون أن يحدث شيء غير متوقع.

نظر جاسر إلى القاضي بعينين باردتين، ثمَّ أضاف:
"لم يكن لدي خيار آخر، القضاء الفاسد والسلطة الَّتي تحكمون بها كلها ضدي، أريدكم أن تفهموا أنني لم أقتل إلا أولئك الذين لا يستحقون الحياة، لم أقتل الأبرياء، أنا لا أطلب رحمة منكم، أنا فقط أريد أن يُنظر إلى حكايتي بعينٍ أكثر فهمًا، وإن كان الحكم بالإعدام هو ما ستختارونه، فليكن لن أندم على شيء."

كانت الكلمات صادقة مرَّت ببطء لكنَّها حملت تأثيرًا عميقًا في النفوس، كل شخص في القاعة شعر بشيء مختلف، لكن لم يكن هناك شك في أن ما قاله «جاسر» كان يعكس حقيقة مريرة عن المجتمع الذي نشأ فيه، عن العالم الذي يعجز فيه الكثيرون عن إيجاد العدالة.

ثم نظر إلى آصف، الذي كان جالسًا في الصف الأمامي للمحكمة، وعيناه كانت مشدوهتين يتفحصان كلماته بشدة.

في النهاية، عاد القاضي إلى منصته، وقال بجدية:
"لقد سمعنا جميعًا ما قاله المتهم، والآن جاء وقت الحكم."

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top