جثة تنتظر أن تُدفن

تنويه:
قبل المتابعة، هذا الفصل موجّه للبالغين؛ إذ يحتوي على مشاهد دموية شديدة قد لا تلائم البعض.
___________________________

كانت «وفاء» تخطو في الشارع بخطوات واهنة، كأن الأرض تميد تحت قدميها، تتخبط بين الأزقة كطير شريد.

عيناها متسعتان كعيني غزال أدركه الصياد، تتلفت بهلع كأن عيون لا تراها تترصدها، وارتجف بشدَّة.

ارتجافها لم يكن مجرد رجفة برد، بل ارتعاشة خوف تسري في أوصالها، قلبها يخفق بجنون كطبول نذير الحرب، وصدرها يضيق وكأن شيء خفي يُحكم قبضته حوله، فحاولت أن تبتلع شهقتها، أن تقمع الرجفة في صوتها، لكن الدموع تجمعت في مقلتيها تنتظر لحظة الانهمار.

أخيرًا بلغت عتبة دارها مترنحة، تكاد أنفاسها تتقطع بين شهيق وزفير متتابعان، مدت يدًا واجفة إلى الباب لتدفعه  بارتباك، فأصدر صريرًا كأنَّه أنينًا، ثمَّ أوصدته بعجلة، وما إن انغلق الباب حتَّى خارت قواها، فتهاوت على الأرض كجسد هُدّ كيانه وكأنَّ قوتها العضلية الَّتي يتمتع بها جسدها تحولت إلى هباء.

التصق ظهرها بخشب الباب البارد، وراحت تمسك بصدرها المرتجف كأنَّها تحاول تطويق قلبها الهائج في حين كانت الدموع تتجمع في مقلتيها.

كانت نبضات قلبها تتسارع كطبول حرب تُقرع في الظلام، وصوت أنفاسها المضطربة يتردد في أرجاء الغرفة كهمس أشباحٍ تطاردها من زاويةٍ إلى أخرى. حاولت أن تستوعب ما يحدث، لكن عقلها كان كزورقٍ يتلاطمه بحرٌ هائج، يرفض أن يستكين أو يرسو على برٍّ آمن.

منذ أيامٍ فقط كانت صديقتها  تجوب المنزل كظلٍّ وفيّ، تتهادى ضحكتها في الأرجاء، والآن تبخرت، اختفت كما يختفي السراب، بلا أثر، بلا صوت، بلا وداع!

أطبقت جفونها كأنَّها تحاول أن تحجب الحقيقة عن عينيها، ولكن فجأة تذكرت الرسائل الَّتي وصلتها على هاتفها، رسائل قصيرة ومبهمة، لكنَّها حملت تهديدًا غير مباشر، فأخذت تفكر هل كان هذا الشخص يحذرها؟

ثواني حتَّى شعرت بصوت قادم مِن هاتفها، فمدت يديها المرتعشة، والتقطت الهاتف كمن يرفع صخرة ثقيلة عن صدره، وبعينين مذعورتين قرأت الرسالة الأخيرة:

"لقد أخذتُ شيئًا يخصك، لذلك استعدي فأنتِ التالية."

شعرت «وفاء» ببرودةٍ غامضة تتسلل تحت جلدها، وتلتف حول عظامها كالأفعى، ثمَّ تجمد الهواء في صدرها، ولم تعد قادرة على الزفير كأنَّ هناك يد خفيّة تطبق على عنقها؛ لتخنق أنفاسها رويدًا، فلا يصل الهواء إلى رئتيها.

شعرت «وفاء» كأن أصابع غير مرئية تلتف حول حنجرتها، وتضغط ببطء وقسوة كأنَّها تستمتع برؤية الذعر يتراقص في عينيها.

فرفعت بصرها نحو النافذة، تحاول أن تُقنع نفسها أن ما تشعر به مجرد أوهام، لكن ستائرها تحركت برفقٍ بسبب الهواء دون أن يلمسها أحد، فخرجت صرخةٌ عالقة في حنجرتها.

أرادت أن تقف، أن تركض، لكنَّها مكبلة بالرعب، وجسدها الواهن متصلبٌ كتمثالٍ بائس ينتظر تحطيمه، وأخذت الأسئلة تجول في خاطرها:
هل هي التالية حقًا؟ أم أن هذا مجرد تهديدٍ أجوف؟
وإن كانت التالية فمتى؟ وكيف؟ وأين؟

دارت الأسئلة في ذهنها المُتعب كدوامةٍ بلا نهاية، لكن كان هناك سؤالٌ واحدٌ أشد رعبًا من كل ذلك:
هل كان هذا الشخص يراقبها الآن؟

انتفضت «وفاء» مِن موضعها بعدما تسللت رعشة باردة على امتداد عمودها الفقري، فاضطربت مفاصلها كأنها أوتاد مخلخلة على وشك الانهيار.

جرَّت قدميها بتثاقل نحو المطبخ، وما إن بلغت وجهتها حتَّى مدت يدها المرتعشة، واِلتقطت سكينًا قبضت عليه بقوة حتَّى غرزت أطرافه الباردة في لحم كفها.

حدَّقت «وفاء» في نصل السكين المرتجف بين أصابعها،
وتقدمت بخطوات وئيدة، تجوب أرجاء شقتها تتلصص على الزوايا المظلمة، وتفتش عن أنفاس مختبئة خلف ستائر الليل.

كان الصمت يطبق على المكان، لكنَّه لم يكن صمتًا مطمئنًا، بل صمتًا يضجّ بشيء خفي كأن الجدران تهمس بينها بمؤامرة ما.

بعدما جابت «وفاء» أرجاء شقتها تنبش بعينيها في زواياها المعتمة، لم تجد أثرًا لكائن، لكن القلق ظل يعربد في صدرها كعاصفة لم تهدأ.

قبضت على السكين بيد واهنة، وسمحت لنصلها أن ينخفض بجانبها، بينما أنفاسها تخرج متقطعة، فوقفت في مكانها، جسدها متصلب كالتمثال  والبرودة تزحف إليها كأفاعي جائعة.

كان الصمت مطبقًا، لكنه لم يكن صمت عادي، بل كان صمتًا مشحونًا بشيء مريب، ثمَّ فجأة شعرت بشيء مختلف، الهواء الذي كان يتسلل إليها مِن خلفها توقف، كأن سدًا خفيًا حجز بينه وبينها.

تلبّد الجو مِن حولها، وتجمدت الدماء في عروقها، وقبل أن تلتفت، اخترق أذنيها صوتٌ خفيض، متموج كفحيح الأفعى، زحف على جلدها كنسمة باردة محمّلة بالموت:
"هل تبحثين عني؟"

لم يمنحها ذلك الغريب فرصة للهرب، إذ انقضّ عليها كوحش جائع انقضاضًا لم يترك مجالًا للنجاة، وفي طرفة عين اِرتطم جسدها بالحائط بعنف، فاهتزّت جدرانه كأنها تئنّ، وشعرت هي ببرودة تزحف إلى عمق عظامها.

قبض الرجل على معصمها بيدٍ قاسية، ثمَّ لوا ذراعها للخلف حتَّى كاد مفصلها أن يُقتلع، والألم سرى في عروقها ببطء، ولم تستطع الصراخ لالتصاق وجهها بالحائط، فلم تجد قوة للتمرد، جسدها أصبح هشًّا طوع أمره كدمية يحرّكها بخيوطه الخفيّة.

ثم جاءت الوخزة مفاجئة، باردة، فأحسّت بالإبرة تخترق وريدها برفق خادع قبل أن يتسرّب المخدر إلى دمها.

بدأت الرؤية مِن حولها تهتز، الأشياء تتراقص بلا انتظام كأن العالم نفسه يتلاشى أمام عينيها، والأصوات باتت بعيدة كأنها تغرق في بئر لا قاع له.

قلبها ضرب صدرها بجنون مناشدًا إياها بالفرار، لكن جسدها لم يعد لها، صار ملكًا للظلام الذي اجتاحها بلا رحمة، وآخر ما رأته قبل أن يبتلعها الغياب، كان ظله المديد.

بعد نصف ساعة اِستفاقت على ضوء ساطع يخترق عينيها بعنف كخنجر من نار يغرس في جفونها، انتفضت روحها قبل جسدها، لكنَّها كانت أسيرة عجز يشل أطرافها.

الرؤية ضبابية العالم يهتز أمامها كلوحة ممزقة، والأصوات خافتة متداخلة، كأنها تُبث من بعد آخر، لم تدرك بعد هول المصيدة التي وقعت فيها، إلا حينما بدأت الظلال تتبدد كاشفةً عن واقع أشد سوادًا من أي كابوس طاردها يوما.

كانت ممددة على طاولة معدنية باردة، تشعر بحرارتها تتسلل إلى جلدها، جسدها مكبل مِن معصميها وكاحليها، حتَّى أنفاسها كانت مكبلة، لا تستطيع التقاطها دون أن تشعر بوخز الرعب في صدرها، عارية تمامًا، لا يسترها سوى غطاء أبيض خفيف.

ثمَّ رأته، كان يقف عند طرف الطاولة مستندًا بيديه على سطحها، عيناه تلتمعان بشر خالص لا يشوبه الرحمة، وابتسامته كانت أبشع ما رآت في حياتها، لم تكن ابتسامة بشرية ابدًا، بل ثغرًا على وجهه الَّذي يفيض بالسادية.

حاولت الصراخ، لكن صوتها اختنق قبل أن يغادر شفتيها كأن يداً خفية التفت حول عنقها وأحكمت قبضتها عليها، حاولت أن تتحرك، أن تقاوم، لكن القيود كانت غليظة، تلتف حول معصميها وكاحليها كأصفاد صنعت مِن الظلام نفسه تحفر في جلدها بلا رحمة.

اقترب منها أكثر حتَّى بات وجهه فوق وجهها مباشرة أنفاسه الساخنة تتخلل الهواء كريح كريهة قادمة من جوف الجحيم، ثمَّ همس بصوت ممزوج بالسخرية والجنون، صوت لم يكن ينتمي لعالم البشر:
"وأخيرًا، استيقظت."

ارتعش جسدها كما لو أنَّ زمهريرًا قاتمًا تسلل إلى نخاع عظامها، حاولت أن تنبس ولو بكلمة، لكنَّ حنجرتها كانت كمن غمرها الأسى عاجزة عن لفظ حتَّى أنَّاتها المكتومة.

اِختنقت صرختها قبل أن تخرج، وظلَّت شفتاها ترتعشان كطفلٍ ضلَّ طريقه وسط عاصفةٍ من الظلام، لم يكن أمامها سوى دموعٍ واهنة انهمرت مِن عينيها تتراقص تحت الضوء البارد.

أما هو فظلَّ يحدّق بها كتمثالٍ شيطاني نُحِتت ملامحه على قسوةٍ خالصة بلا ذرة من رحمةٍ تشوب عينيه اللتين تلتمعان كحدِّ السكين.

كان في حضوره شيءٌ يُشبه الجاثوم، شيءٌ ثقيلٌ يخنق الأجواء، يحجب الهواء، ويبعث في القلب شعورًا خانقًا بالتيه، ثمَّ بلا إنذار، أخرج هاتفه، وعبث بأصابعه فوق شاشته السوداء قبل أن ينطلق صوتٌ مِن الجهاز، صوتُ صرخاتٍ مهشَّمة للأطفال تتخللها نحيباتٌ مذعورة وأصوات أجسادٍ تُسحب على أرضٍ صلبة.

كان الصوت مشوشًا، كأنَّه بُعث من مكانٍ غارقٍ في العفن والدم، مكانٍ لم يُخلق ليحمل فيه الإنسان حياةً.

ارتعدت أطرافها كما لو أنَّها أصيبت بمسٍّ مباغت، تلبّستها الرهبةُ حتَّى صارت أنفاسها متقطعة، تخرج على هيئة شهقاتٍ مختنقة، فلم تكن تلك مجرد أصوات، بل كانت كوابيس انبعثت من باطن الجحيم، تحاصرها، تطوقها، تلتف حول عنقها كحبالٍ غير مرئية، تخنقها ببطء.

اقترب منها بخطواتٍ بطيئةٍ محسوبة كصيادٍ يُطيل الاستمتاع بارتجاف فريسته الأخيرة. حتى بات وجهه فوق وجهها مباشرة، أنفاسه الثقيلة تزحف على بشرتها كريحٍ سامةٍ انبعثت مِن جوف قبرٍ مهجور، ثمَّ مال نحو أذنها، وبلسانٍ تقطر منه نغمةٌ خبيثةٌ مسمومة، همس:
"كان عليكِ أن تعرفي أنَّ ما تفعلينه سيؤول لكِ."

سقطت كلماته عليها كالموت المُعلن، لم يكن مجرد تهديد، بل كان وعدًا مُظلمًا، نُطق بصوتٍ لا ينتمي لعالم البشر، ثمَّ خيّم الصمت، لكنَّه لم يكن صمتًا عاديًا، بل كان صمتَ زهرة تدرك أن لحظة الاقتطاف قد حانت.

ارتعشت شفتاها وهي تحاول النطق كأنَّ كلماتها محبوسة خلف قيدٍ، وقد كانت أنفاسها متقطعة، تصارع الهواء، وأخيرًا بعد محاولاتٍ بائسة، تمتمت بصوتٍ ضعيف بالكاد يُسمع، واهنٍ كأنَّه صادر عن روحٍ على شفير الهاوية:

"أنا بريئة. "

لكن الرجل لم يُبدِ أي رد فعل، لم تلن ملامحه، لم تهتز ابتسامته الباردة، بل على العكس، زادت عينيه سوادًا كأنَّ كلماتها لم تكن سوى وقود أشعل شيئًا دفينًا داخله.

انحنى نحوها أكثر حتَّى شعرت بأنفاسه الحارقة تزحف على بشرتها كريحٍ مسمومة، ثمَّ همس بصوتٍ متلذذٍ متقطّع، وكأنَّه يتذوق كل حرف قبل أن يلفظه:
"جميعهم قالوا ذلك قبل أن يصرخوا."

وانطلق مجددًا صوت الصرخات المشوّهة مِن الهاتف، متداخلةً مع قهقهته المكتومة كأنَّه يدعوها للغرق في هاويةٍ لا قاع لها.

تسارعت أنفاسها، وأخذت الدموع تتساقط بغزارة كأنَّ عينيها أصبحتا ينبوعين نضب منهما الأمل، ولم يتبقَّ سوى الخوف.

راحت عيناها تهيمان في أرجاء الغرفة بحثًا عن خلاصٍ لن يأتي، عن أي شيءٍ يكسر هذا الكابوس المتجسد أمامها.

لكن ما وقع عليه بصرها كان أشد هولًا مِن كل التصورات التي كانت تقتات على عقلها منذ أن وجدت نفسها مكبلةً على هذه الطاولة الباردة.

وفي ركنٍ موحش، تحت ضوءٍ أبيض كئيب، تناثرت أدواتُ جراحةٍ لامعةٌ فوق طاولةٍ صغيرة، مشرط معدني يقطر قسوة، مقص جراحي بحدودٍ تلمع كأنياب وحش مسنونة، وإبرة طويلة كأنها خُلقَت فقط لتمزيق الأجساد.

اتسعت عيناها حتَّى كادتا تخرجان من محجريهما، وصارت أطرافها ترتجف كأنَّ الصقيع قد اخترق نخاعها، لم تعد تبكي، وكأنَّ الرعب ذاته قد تجمد في دمائها، ولم تعد قادرةً حتى على التوسل، فقد تلاشت الكلمات، ولم يبقَ سوى الصمت الذي يسبق العاصفة.

أما هو، فقد انتبه إلى نظراتها المذعورة، إلى الفزع الذي التهم وجهها الهزيل، فمال برأسه قليلًا وكأنَّه يُعجب بذلك الذعر المتجسد أمامه، فلم ينطق بكلمة، بل مدَّ يده ببطءٍ مدروس، والتقط المشرط برفق، كأنَّه يرفع قطعةً مقدسة، ثمّّ مرَّر أصابعه على نصله الحاد، وتأمله تحت الضوء الباهت، وكأنه يُجري طقسًا قديمًا سبق أن مارسه مئات المرات.

ثمَّ بابتسامةٍ بالكاد لامست شفتيه، نظر إليها نظرةً خاويةً مِن كل ما يمت للبشرية بصلة، وانحنى قليلًا نحوها قبل أن يهمس بصوتٍ ناعمٍ:
"هل تعلمين؟ الألم لا يكمن في الطعنة ذاتها، بل في ترقبها."

تسارعت أنفاسها، صار صدرها يعلو ويهبط وكأنَّ الهواء قد ثقل عليها، لم يعد بمقدورها حتى أن تصرخ، فقد تحشرج صوتها في حنجرتها كروح تحتضر، ولم يتبقَّ لها سوى الرعب، ينتظرها، يتربص بها، يهمس لها أن النهاية أقرب مما تظن.

أطبق بأصابعه على المشرط بإحكام، ثمَّ بحركةٍ مباغتة، انتزع الغطاء عن جسدها كاشفًا عن بشرتها المرتجفة تحت قسوة الهواء البارد.

لم يمهلها لحظةً لاستيعاب الفزع الذي اِلتف حولها كالكفن، إذ اندفع بالنصل الحاد نحو عنقها، غارسًا إياه ببطءٍ مدروس، كأنَّه رسّامٌ بارع يضع ضربته الأولى على لوحة.

شعرت بوخزٍ يسري في أوردتها، ثمَّ تبعه موجة من الألم الحارق وكأنَّه يشعل رقبتها مِن الداخل.

شهقت بعنف، لكنَّ صوتها لم يكن سوى حشرجةٍ مختنقة، حاولت أن تتحرَّك، لكنَّ جسدها ثابت، هل أعطاها شيء جعلها تعجز عن الحركة؟

أمسك طرف المشرط وسحبه نحو الأسفل شاقًّا جلدها، والنصل البارد غاص في جسدها تاركًا خلفه أثرًا قانيًا بدأ يتسرب ببطءٍ، ثمَّ ما لبث أن تدفق بغزارة، ملوِّنًا الطاولة الفولاذية أسفلها بوميضٍ أحمر لزج.

فتح الجلد بطول العنق، ثمَّ أكمل مساره إلى عظمة الترقوة متلذذًا بذلك الصوت الرتيب، صوت اللحم وهو ينشقّ تحت شفرةٍ حادة كأنه ورقٌ، ثم مدَّ يده إلى الطاولة، والتقط المنشار الجراحي، ثمَّ رفعه عاليًا ووضعه بعنايةٍ عند منتصف الصدر، وبدأ بتحريكه ذهابًا وإيابًا، ضاغطًا بقوة، حتَّى انطلقت أصوات الاحتكاك الحادة.

لم يأخذ الأمر وقتًا طويلًا، فالعظام ليست منيعة كما يظنّ البعض، وتحت الضغط المستمر، بدأت الأضلاع تتكسر ببطءٍ، وكل كسرةٍ كانت تصدر طقطقةً خافتة أشبه بصوت جذعٍ جاف يتشقق تحت الفأس.

فتح صدرها بالكامل، وأزاح الأضلاع جانبًا، كأنَّه يفتح غطاء صندوقٍ ليكشف عن كنوزه المخفية، الرئتان تتراقصان بلا انتظام، والقلب ينبض بجنونٍ مذعور، يدرك أن نهايته قد اقتربت.

ابتسم الرجل، ثمَّ مدّ يده داخل التجويف الصدري، لتغوص أصابعه في الدفء اللزج، والتقط القلب بأطرافه. ظلّ للحظةٍ يضغط عليه برفق، يراقب ارتجافه الأخير، ثمَّ انتزعه بقوة قاطعًا الشرايين الَّتي ربطته بالحياة.

صمتت وفاء، ربما لا تزال واعية، ربما لا تزال تشعر، لكنَّها لم تعد قادرةً على المقاومة، لم تعد قادرةً حتى على الخوف، عينُها اتسعت في ذهول، انعكست فيها صورة القاتل وهو يحمل قلبها بين يديه، ينظر إليه بإعجاب متأملًا كأنَّه لوحة فنية نادرة.

نظر إليها، ثمَّ اقترب حتَّى صار أنفاسه تلامس جبينها البارد، ثمَّ همس بصوتٍ ناعم:
"كنتِ قويةً، لكن لا أحد يصمد أمام مشرطي طويلاً."

غمس أصابعه في الدماء الدافئة، يراقب بتركيز كيف تنساب على بشرته كأنها توقيعٌ أبديٌّ على جريمته،
وبحركةٍ بطيئةٍ ومتعمدة، رفع يده ولطخ بها الجدار، ثم بدأ يخطّ عليه كلماتٍ غامضة، حروفٌ متشابكة، كأنها نُسجت من الرعب ذاته.

كانت الدماء تتخثر بين أنامله، لكنها لم تمنعه من إنهاء طقسه الخاص، تراجع قليلًا متأملًا الجدار الملطخ وكأنَّه عمل فني صنعه بيديه، ثمَّ زفر بارتياح.

اِلتفت إلى الجثة الممزقة أمامه، نظراتها المتألمة ما زالت تحدّق في الفراغ كما لو أنها تحاول استيعاب الكابوس الذي انتهى بها إلى هذا المصير.

أخرج خيطًا جراحيًّا سميكًا وإبرةً طويلةً ذات رأسٍ منحني، وبدأ بخياطة جسدها غرزةً تلو الأخرى، يسحب الخيط ببطء فيصدر صوت احتكاكٍ خافت.

كان يشدّ الجلد ليعيده إلى وضعه، لكنَّه لم يحاول أن يكون حنونًا، فالجثة ليست بحاجة إلى لمساتٍ حنونة.

وحين انتهى، ألقى نظرةً أخيرة على عمله، ثم جذب الغطاء وألقاه فوقها ببطء كأنَّه يُسدل ستار النهاية على مسرحية.

وقف في الظلام، ثمَّ ابتسم برضا قبل أن يمسك هاتفها بيده الملطخة بالدماء، يراقب الشاشة للحظات كأنَّه يستمتع بسخرية القدر، ثمَّ ضغط على الأرقام ببطء، ليصل صوته الهادئ إلى الطرف الآخر:
"ثمةُ جثة تنتظر مَن يدفنها، ستجدونها في هذا العنوان."

ألقى عليه العنوان، ولم ينتظر رد المتلقي، أنهى المكالمة وألقى الهاتف بجوار الجثة، ثمَّ انسحب في الظلام تاركًا خلفه فراغًا باردًا وصدى لجريمة لن تُنسى أبدًا.

___________________________
عدد الكلمات: 2178


Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top