السعادة ولا شيء سواها <٣٢>

_بسم اللّٰه الرحمن الرحيم ✨

السعادة التي حُرمت منها طوال حياتها، باتت مُلازمها في الكثيرِ من الأحيان بعد تبدله معها وتغيرها معه..

حتى هو.. لا يَذكر أن الفرح والسرور مسس قلبه بنفسِ الطريقة من قبلٍ، وعاهد نفسه أن يُعامل زوجته كما تستحق من الآن فصاعدًا، سخائًا منهُ لروحه الحزينة ولقلبه العاشق..

لمْ يظن قبل اليوم، أن الحياةَ معها لنصف ساعة، أعظم في الثمنِ من حياةِ قرون بدونها.

ضَحك چون بسعادة بالغة أثناء أنزلاقها من فوقِ حَد خصره، فنامت على صدرهِ لاهثة بخجلٍ وإثارة مُبهجة آسرته أكثر، وسحبته في بحارها أعمق:

"هذا ليس عادلًا، كنتُ أغتصبكَ مثلمَا فعلتَ بي.. لا يُفترض أن تكون سعيدًا."

كان يُدرك أنها لن تنسى أبدًا كونه المُحتَل المُغتصب، قد تتناسى ضربه لها وتعنيفه المُستمر لكيانها الأنثوي، لكنها لن تنسى أبدًا، أعتداءه عليها جسديًا ومعنويًا وبرغم ذلكَ ظل مسرورًا بينمَا يتمتم:

"حتى الألم منكِ، يجعلني سعيدًا."

أبتسمت، ثمَ رفعت رأسها بأعين لامعة تتأمله بإمتنانٍ لمْ يغادر بؤرتها الشهية وأصاب حواسه باللذة، وأنخفضت على شفتيه بثغرِها، تطبع قُبلة سَطحية سببت زمجرة مَذهولة منهُ، فبرغم سرعتها، وصلت إلى قلبهِ تطربه، تحييه، وتسكره. كانت اللحظة وبرغمِ قصرِها.. خفيفة على شريانه وبطيئة أمام عيناه، أراد أن يسألها عن شعورها.. فهل تلذذت مثله بحلاوة قُبلتها.. أم أن النشوة تصيبه لكل ما تهبه إياه، ولو كان عاطفة لطيفة. لكن قبيل أن يسألها، كانت ركضت بالفعلِ للمرحاض وأوصدت الباب جيدًا.

"تبًا لي."

هدر بعلوٍ صاخب، ثمَ تسارع إلى المرحاض ورفص الباب مُحطمًا إياه أمام صراخها الضاحك المَصدوم، وفي داخله أيقن.. هذا مَا تستحقه تمامًا..

السعادة..
ولا شيء سواها.

غرق في نشواتٍ فَرِحة، وعاملها بمُنتهى الرقة رغم جنونه بها، وهي.. كانت أكثر من مُطيعة لرغباته وكُلما وهبها الحُب والحنان ومَارس معها بمُنتهى الأكتراث واللين وجدت نفسها تسعد لآول مرة في حياتِها المُختَلة..

'چون ولين ؟'

هذا مَا كان يَشغل حيز لا يُستهان به فِي فِكرها، بينمَا يتحسس جسدها بإكتراثٍ راغب، أو يُناظر عيناها بإنتشاءٍ كُلِ مرة ليتأكد أنها في سعادة ولذة مثلهُ تمامًا. رغم همجيته.. كان مُكترث، رغم جنونه وبعثرته العاشقة.. كان أكثر من مُكترث.

أسدل الليل ستاره، وبرغم ذلكَ لا تزال تضحك في أحضانه جراء مُشاهدتها أحد الأفلام الكوميدية ورأسها مُستنِد على صدره، تسرق دقاته وروحه، لتمنحه شرارة مُستحبة لمْ يفهمها من الشعورِ. لغى أعماله كلها وتناسى أن عالمه سينهار إن غفل لوهلة وتعامل مع نفسهِ بمُنتهى السخاء. برغم أنه كان يحتاج للمزيد من زوجته.. المَزيد عاطفيًا وجنسيًا، قبل رأسها بشكرٍ حين رفضت بطريقة لطيفة، وضرب شيطانه مئة مرة في عالم اللا-وعيّ كي لا يُغصبها..

فهذا ما تستحقه تمامًا.. وهذا مَا حاول منحها إياه. كاد يتلفت مُقبلًا جبهتها بشكرٍ، لكل المشاعر الطيبة التي وهبته إياها في بضع أيام، لولا أن علا هاتفه برنينٍ من لوكاس، فراحت ترفع رأسها من فوقِ صدره، تمنحه بضع دقائق خاصة ليُجيب بعيدًا عن مسامعها.

كانت تدرك بأن چون لا يتحدث أمام أحد بخصوصِ العمل، وبما أن لديه مشاكل في الثقة، بالتأكيد كانت أكبر سبب في قاعدة الثقة تلكَ وبرغم ذلكَ، سحبها على صدره مُجددًا وكأنما يقول:

'أنتِ الثقة، أنتِ الحب والآمان، زوجتي وشريكة كُل أنش بي.'

وصلتها رسالته، فأخفضت رأسها تسمح لدموعها السعيدة بالإنهيار على صدرهِ، وراحت تبكي رغمًا عنها، كطفلة يتيمة ذاقت حلاوة الفرحة للمرة الآولى، وأندهشت بها:

"سيد چون.."

أستطرد لوكاس في أذن سيده، لكن الوحش كان يناظر مَحبوبته مُتحيرًا لسبب بكائها، وتلكَ الحيرة سُرعان ما تبددت حين أعلن يده اليُمنى:

"كنتُ أراقب العائلة كما أمرتني و.. السيدة إبرام، توفت صباح هذا اليوم."

تبدلت ملامحه من البهجةِ إلى الوجوم، وهو يتصور رد فعلها جراء موت والدتها بعيدًا عنها وبسببه. لولاه، لكانت حضرت لحظاتها الأخيرة، ولأشتمت عطرها علها تستطيع الصمود بعد خبر وفاتها، ولوقفت أمام قبرها تودعها بزهرتين أو ثلاث، لكن بسببه، لن تحصد الشرقية أي من تلكَ الرفاهية، فأعتصر عيناه وأغلق الهاتف دون أكتراث ولا إنتظار، ثمَ ناظر شعرها بحزنٍ آسير لروحها.. تلكَ المسكينة تستحق السعادة، كان مُيقن بهذا، لكن القدر، بدى أن لهُ رأي مُناقض.

"لما البُكاء ؟"

"لأنني خائفة.. أ... أنا لا أستحق السعادة، أيُعقل أن مصيري هو هذا؟، أنكَ لي؟ أنكَ حقًا تكترث لي؟، هل خرجتُ من حربنا مُنتصرة بعدوي فأنتصر بي؟"

"كنتِ تُعاندين نفسكِ يا سيڤار، أنتظرتُ أشارة وَاحدة منكِ لأمنحك السعادة، طال صبري وأنتظاري وطال وجعي وتوحش التَبَرُم في قلبي، وأنا لمْ آكن يومًا ضَجِر، وها أنتِ تهبيني الأشارة.. لطالما كنتِ لي، لكن الآن.. كُل ما أملُك لكِ."

أبتسمت بحبورٍ رغم النرجسية المُبطنة في حديثهِ، فهو لمْ يقل أنا لكِ، بل أعلن أن أملاكه لها وبرغمِ ذلكَ لامست حروفه مُهجتها، فهمست ويدها تمر على صدرهِ في حركاتٍ دائرية مُثيرة:

"حسنًا، أريدك أن تعترف لي الآن.!"

أبصرها مُتحيرًا وأنتظر تحليلها برغمِ سواد الرغبة، لكن من نظراتها الماكرة فهم ما تريد:

"أخبرني الحقيقة.! كنتُ أسمعك تحاور أحد بعد مُنتصف الليل وأنتَ بجانبي، كانت امرأة، سببتها ثم ضحكتَ ثم عبستَ ثم غضبتَ.! أكون خائفة منكَ كُل مرة وأتظاهر بالنومِ وتفسير عقلي أنكَ لربما مسكون بإحدى العاشقات الغير آدمية.. أعني شرير ووسيم وثري وكبير في السن، ويا إلهي مُتملك لا تسأم أبدًا، بكَ عيوب كثيرة أمام تلكَ المُميزات لا أنكر.."

سكتت عن باقي حروفها جراء إنقطاع أنفاسها بسبب ثرثرتها المُستمرة، فتابعت بعدما أخذت شهيق عميق:

"كنتُ أقرء عليكَ ترانيم الطرد حين تنام في بعضِ الآحيان وبرغمِ ذلك لمْ تصرخ، كنتَ مُستكينًا تمامًا، فدعوت الرب على صدرك، وكنتُ مُستكينًا أيضًا، لذا... مع من تتحدث كُل ليلة؟"

لوهلة رآى نفسه في مأزقٍ لا مَخرج لهُ، فما الذي سيقوله؟

أيُطلعها أنها شبيهتها في المنامة السوداء اللعينة؟ كان يدرك أن شبحها لن يتلاشى عن أفكاره سوى بعدما ترتدي ما يبتغيه، وهي لمْ تفعل بعد، لذا يكون كُل مرة مُجبر على عيشِ أحلامه الواقعية دون أدنى تذمر..

"كانت أنتِ."

ظلت صامتة تُحلل جملته المُقتضبة، ثم أنفجرت ضاحكة فجأة:

"هل ترى شبحي في المساءِ ؟"

اومأ بإيجازٍ، ثمَ سحبها من شعرها واضعًا رأسها على صدره، مُجبرًا إياها على مُتابعة الفيلم وكانت تُدرك جيدًا، كلمة إضافية منها ستتسبب في كسره للحاسوب فوق رأسها.. لكن وبرغم محاولاتها الجادة في الصمت، أنفجرت رغمًا عنها ضاحكة مُجددًا، لكن حظها العاثر كان في صالحها هذه المرة حين كركرت ضاحكة تزامنًا مع إحدى المَشاهد الكوميدية البَحتة.

لكنهُ تلمس جيدًا.. على من كانت تضحك..

صر أسنانه بغضبٍ وحرارة، چون هاريسون، تضحك عليه امرأة لا تتجاوز الثالثة والعشرون!.

بعد كل تلكَ الأمجاد، تأتي بائسة لمْ تضحك في حياتها لتُكركر عليه.!

أستكان غضبه حين ألتفتت لهُ مُجددًا بأعين باسمة لطيفة خففت شعوره الحالِك، المُناقِض لنور روحِها، ثمَ عضت وجنتاها تمنع قهقهاتها المُتسربة:

"شكرًا لكَ."

أختتمت حديثها بصكها قُبلة لطيفة على صدره أثلجت برثان غضبه، ثمَ تمددت عليه بتخمةٍ عازمة على النوم، فسحب حاسوب عمله الذي تحول لشاشة سنيمائية فجأة، وأغلقه مُنحيًا إياه جانبًا.

ربما بعد خمس وعشرون دقيقة قيمة، من أستنشاق شعرها وعطرها، شعر بها تتحسس وجهه ببطىءٍ وصولًا لحادقتيه المُغلقتان تتأكد من ثباتهِ، وحينها أحس وكأن أناملها سحر ناعم، داعب حواسه كُلها، وأصابه بسكينة ما بعدها راحة، فأنفرج ثغره من حلاوةِ شرارات لمستها مُتأملًا إياها بعتمةٍ حرفية، لكنها لمْ تنتبه لنظراته المُتيمة نحوها، حيثُ نهضت بتروٍ ووضعت وسادة في أحضانه لعله لا يشعر ببرودة فقدانِها ولو للحظات.. وياليت الشرقية تدرك بالفعل.. كم أن خسارتها صَعبة.. ولو لثوانٍ.

واجه صعوبة في كبح ضحكاتهِ، بعدما سارت بتعرجٍ ناحية خِزانة الملابس الخارجية، تحيط جسدها بالملائة، ثمَ ألتقطت منها قميص عشوائي وأرتدته، حرفيًا، كان سيموت من فرطِ الضحك بسبب سيرها المُتعرج كالبطاريق.

وقفت خلفه للحظات، وتحسست شعره بمكرٍ عابث، فتظاهر بالجمودِ مُلتفتًا لها:

"أنتِ مُجددًا ؟"

أكتفت بهمهمة خافتة مُغرية؛ لأنها لا تعرف طبيعة علاقته بهذا الشبح، فحارب أبتسامته أكثر، وتحول وجهه للغضب الكاذب بينما يُتمتم:

"وجأتِ مُجددًا بعد خيانتكِ لي.! ألمْ أُقسم أن المرة القادمة التي سألمحكِ فيها مُصادفة.. أن أطارد وجهكِ للأبد ؟"

"خـ.. خيانة.!!"

تراجعت للوراء مَذهولة، وفجأة تأكدت أن السحر ينقلب على الساحر في النهاية. أرادت أن تتلاعب به وبشعوره، فأنتهى بها المطاف لعبة بين يديه.. دمية خاضعة يحركها كما يبتغي.. فنهض من فوقِ الفراشِ، وما كاد يُزيح الغطاء عنه، حتى صاحت مُتناسية لُعبتها:

"لا تنهض وأنتَ عاري.!"

لمْ يستطع الحفاظ على مشاعره المُصطنعة أكثر، فضحك بعلوٍ صَاخب أمام أنتفاضتها العصبية بينما تُعلن بغضبٍ وجدية تامة جراء تعريضها للخوف:

"حسنًا.. أنا غاضبة في الطابقِ العلويّ، لا تأتي وإلا ألزمتُ أبي ليُطلقني منكَ."

زالت أبتسامته بسبب كلمتها الآخيرة العابثة، وعادت الوحشية القاتمة تغزو أبصاره، لكنها لمْ تراها بسبب مُغادرتها السريعة.

"يا بطريقتي القبيحة المُتعرجة، تعالي هُنا الآن ليُعاقبكِ دادي."

ظنها ستمتثل لهُ كالعادة، لكنهُ سمع إحدى الغُرف تغلق بالفعل، فأنتفض من فوقِ الفراش غاضبًا، وبدأ رحلته الطريفة في البحث عنها، يتصور كل الأشياء البشعة التي سيفعلها في قطتهِ الشقية.. حرفيًا فيها وليس بها. وحين وجدها، ألتفتت لهُ برعبٍ تام فضحك رغمًا عنهُ من سخافة القدر..

كانت في صالة ألعابه..

حسنًا.. بدى أن القدر معه هذه المرة.

"حبيبي.. زوجي العزيز، تعال، سـ.. سأحضر العشاء كي ننام."

اومأت مُلتفتة ناحية الباب بسرعة عازمة على الهروب، لكنهُ طوقها بذراعيهِ هامسًا عند أذنها بعبثٍ، يضمها بشدة لصدره رافعًا إياها من فوقِ الأرض:

"في البداية.. المرة القادمة التي ستذكري فيها أي من كلمات الأنفصال ولو بالمزاحِ يا سيڤار، سنتحول من وضعية الزوج والزوجة.."

قاطعت حروفه بإرتجاف جسدي راغب وخائف، تتمسك بذراعيهِ حول خصرها، بعدما أمال على عنقها مُجبرًا إياها على الإنحناء بنسبية ضئيلة، أثارته أكثر:

"إلى السيد واللآمة ؟"

"كلا.."

غمغم عند عنقها مُداعبًا شعورها بأنفاسه، يزيدها خوفًا وأضطرابًا، ثم تابع بعبثٍ ماكر، بعيدٍ عن الغضب:

"إلى وضعية الكَلبة.. وسيدها، وصدقيني بيبي.. لن تنال إعجابك أبدًا."

رفعت رأسها تُناظر مُعدات تلك الغُرفة بتفحصٍ طفولي، فأصابتها رجفة خائفة جراء الأسواط الجلدية وسط الأدوات المجهولة عنها. كانت تظن أن تلكَ الآشياء في الأفلامِ فقط، وحين كانت تُجالس الراهبة التي عملتها كل شيءٍ بالكنيسة، كانت شقية بما فيه الكفاية لتستمع أحيانًا إلى بعضِ الحكايات الحزينة الشاكية من النساء المتزوجات عن السادية، فالبعض كان يمتلك ندوب بسبب أزواجهم..

لا تنكر سيڤار أن نسبة الرجال السيئين ليست كبيرة، لكنهَا حصدت الأنتباه الأكثر أتساعًا في المُجتمع العربي وبرغم ذلكَ بدنها تقشعر نتيجة الترويج للفكر نفسه، بالرفضِ وعدم الأقتناع.

"آسفة."

أعتذرت بخفوتٍ خائف، كي لا يعاقبها في الغرفة، فاومأ بلا أكتراث مُلاحظًا نفورها من تهديده، وتمتم بعبثٍ مُستمتع:

"لا تخافي منها بينما أنتِ قرينة أفكارها لما يُقارب أعوام زواجنا."

"كنتَ... تتخيلني هُنا؟"

اومأ بإبتسامة مُرعبة لمْ تراها رغم تلمسها لها، ثمَ تابع مُتنهدًا:

"لا تخافي يا سيڤار، لن اؤذيكِ حقًا، وتلكَ الغُرفة ستدخليها عاجلًا أم آجلًا، لكنكِ زوجتي، لا مُجرد خاضعة، ومع مرور الوقت.. ستطلبين مني أن أعابثكِ هنا."

صمت فجأة وألتفت للساعة الحائطية، ثم حملها وغادر ناحية الأسفل، تحديدًا للبوابة الرئيسية.

"لا تخافي."

أمرها بعد إنكماشها جراء صوت البوم ونباح الكلاب المُستمر، بالإضافة إلى الظلامِ الحالك، وبرغم إنارة نبرته المُطمئنة لروحها، لازال جسدها يرتجف رغمًا عنها.. فسار بها حتى نهاية الطريق عند طرف المُنحدر الغائر ثمَ أنزلها وضمها لصدره بشدة لعل قلبه المُتيم، يُحيط نسيج نياطها.

راقبت أهدابها الشمس تبزخ تدريجيًا، فأنتشر الدفىء في كاملِ فؤادها وحاوطها، برغمِ خوفها من المُستقبل، حيثُ قوتها لمْ تعد كما الماضي وحقًا ما بقيَّ فيها هش جدًا لتخسره.

أمسكت كفه حول خصرها وكأنما تترجاه الحُب والمودة كما الآن، فقبض أصابعها وكأنما يمنحها وعد صادق بالأمان:

"سيڤار .. هل أشتقتِ لأهلكِ ؟"

"أكثر مما تتصور.."

أبتسم بخفوتٍ مرير، حين تابعت بنبرة هادئة، لطيفة:

"أتوقع أن چيداء تفوقني في الثقافة العلمية، وأتوقع أن أبي سمح لها بالتعليمِ، لكن الوحيدة التي لا أتوقع ما حل بها.. هي كريس، صغيرتي المُختلة."

حركت رأسها لليمين ولليسار وكأنما تنفض تلكَ الأفكار السوداوية عن إحتمالية إيذاء كريس لنفسهَا، فقال ما جعل حواسها تتصنم:

"هل تريدين رؤيتهم؟.. يمكنني الآن أن أمنحكِ الخلاص لتعيشي في سلامٍ مع والدكِ، لا تتزوجي، ستظلي زوجتي، لتتلاقى أرواحنا مُجددًا، هذه المرة يمكنني حقًا أن أكتفي بشعورِ أنكِ حية وسعيدة مع والدكِ.. فهل تريدين الرحيل ؟"

ألتفتت له بأعين ساهمة، ترفض عرضه الحزين:

"لا أستطيع أن أعيش بعدكَ، ولا مَعك، لكنني.. يمكنني وبطريقة ما أن أجد السعادة في أحضانك، اليوم أثبتَ لي أننا نستحق فُرصة أخيرة.. لن أغفر لكَ، لكنني أيضًا لن أتركك، سأحبك بقلبي المَخذول، وسأمنحك رحمي المَندوب، ولربما بعدما أنجب منكَ، سأستطيع مُسامحتك والمضي قُدمًا."

أحاط فكها بمنتهى الحب، ثم أدارها ليستثني لها الفُرصة في رؤية قرص الشمس يعلو مُبددًا ظلام قصره، لعل ضوء الشروق يمنحها كمية مُناسبة من الإغراء لتبدأ من جديد.. فرفضت بنبرة حزينة مُحبة:

"هناك الكثير لنعيشه سويًا."

أسندت رأسها على صدرهِ بتعبٍ مَهموم، فأجاب بنبرة حثيثة من الحزنِ:

"لربما لكِ، هناك غد جديد مُشرق، جميل يا سيڤار.. بعيدًا عن قتامتي."

"لن اغادر.. سأعيش لكَ."

"سأتذكر كل إنش بكِ."

"وسيعيش كل انش بي لك يا چون..بجوفي.. ومنكَ."

تنهد بحرارة حسرة ثم ضمها له أكثر.

السعادة معها.. لها مذاق مُختلف..

على حافة الأكمة..

في الشروق.. حيثُ ظلالهم بدأت تتشكل على الأرض القاحلة وكأنما تُنبتها.

.. ظلالُ مُستقبل جديد.

وليته فهم منذ زمن.. أن الحياة البسيطة معها.. هي ما ظل يجول عليها الأراضي كلها.

ليته فقط.. فهم مُبكرًا أكثر..

هي حقًا لا تستحقه.. لا تستحقه مُطلقًا..

ففي النهاية أكتشف أن كيانه السرمدي العتيق يستحق ما طاب وصدأ.. سواها هي فقط.

كانت الكنز الوحيد الذي أمتلكه رغم عدم أستحقاقه أبدًا..

ضمها لصدره أقرب علها تندثر داخل حدود وتينه، ثم راح يلثُم عنقها، وفكها من الجانبِ فأعلنت بإستياءٍ:

"ستمل مني قريبًا، إن ظللتَ تفعل هذا."

"كنتُ ولازلت أتمنى لو أملُ يا سيڤار، لكنكِ نشوتي الوحيدة، فكيف أمل منها؟"

قبض بطنها وتابع عند أذنها بحرارة:

"ستحملين طفلي، بينمَا حبوب منع الحمل، لن تمسس ثغرك بالغصبِ أو الإكراه، طعامكِ سأضع عليه رقيب، لأهبكِ السعادة التي تستحقيها.."

ألتفتت له، فأحتضن فكها بأعين حزينة:

"أعلم ما يجول في خاطركِ، وأجابتي هي نعم، ستُسامحيني يا سيڤار، مع مرورِ الوقت ستلاحظين مدى سوءي مع الجميعِ سواكِ وحينها ستقدرين تضحيتي. صدقيني حبيبتي، لا شيء أبدًا مما رأيته يُمثلني. أنا سوداوي، دميم من الداخل ومُشوة، قد أقتلكِ بسبب حبي وهوسي، وربما أقتلكِ في إحدى نوباتي، لا يُمكنني أن أمنع آذاي كُل مرة، ولا يمكنني أن أحتمل نفس هراء الماضي ونفس خيانتكِ. أنا الموت الصامت للجميع، لطالما كنتُ ولا أزال، لكنكِ أنتِ موتي الظاهر والبائن، أنتِ موتي الصادق، موتي المؤلم، تكفير ذنوبي على الأرض، تكفير خطاياي، وطفلنا.. سيعيش سعيدًا إن كُنتِ معي، لمْ أكن أب من قبلٍ ولا أظن أنني سأكون صالحًا مع طفلي، لكنكِ.. ستكونين معه، وهذا كافي."

"سأكون معكَ، لا أهتم إن أعترفتَ بي زوجة لكنني لا أستطيع أن أُقدر تضحيتكَ.. أنا مُشوهة أيضًا يا چون، شوهتني الحياة، وما يؤلمني حقًا أنني لمْ أكن من قبلٍ جميلة ولا مَلموسة، وفجأة وجدتُ نفسي مُثيرة للرجال، فتسائلت، هل أنا جميلة لهذا الحد؟ أم أن الممنوع مَرغوب؟، ومُمتلكاتك مُحرمة؟ كنتُ أنكر الحقيقة، لكن يومًا بعد يوم، كانت تزداد وضوحًا بالأدلة.. فكانت ثَقيلة على قلبي. ليس من السهلِ بالنسبةِ لي أن أكون مملوكة لرجل تتمناه جميعهن سواي، فأنا.. لمْ أكن يومًا مُدللة لأكون الآن، لم أحصد ما أريد، لأحصده الآن، وسعادتي كانت تنحصر منذ طفولتي، بسبب نوبات أخي.."

أصفر وجهها، وبدأت تروي له أحداث تلكَ الليلة التي لا تزال في أعينها وذكراها، غيم حاول مئات المرات أن تروي له، وأباها وعائلتها كافة، الأطباء والمُحققين، لكنها ظلت صامتة مُتكتمة على حسرتها، فجاء هو بعد سنوات، وهدم حاجز تصلبها.

"كنتُ صغيرة لا أنكر، لكنني لا أزال أذكر كل التفاصيل.. فبعد كل هذا.. كيف يمكنني أن أهرب مما داخلي؟ كيف أهرب مما يسكن فؤادي؟.. ليلتها.. كبلني جانب الفراش في الزاوية بلا أكتراث وسحب أخي من فوقِ كُرسيه لأنهُ الأضعف، لمْ أفهم ما الذي يفعله ولما يعريه أعني.. أنا الفتاة.. أنا التي من المُفترض أن تتعرى، لكنه.. هو .. أخي صرخ صرخة واحدة ثم أستكان بعدما أرتعش جسده كُله مُنتفضًا. كنتُ خائفة، أردته أن يتحمل، لينتظرني، سأنجده أعني.. أنا توأمه الأكبر بثلاثِ ثوان، لكن روجر، فعل.. فعل ما أراد و.."

صمتت وإزداد أرتعاش جسدها برودة، حتى صقيع بدنها المُرتعب لفحه. وأرتفع نحيبها، فأحاطها:

"شششش."

"أنتَ لا تفهم، روجر سلخه، و.. فعل فيه،.. ما لمْ يُذكر في التقريرِ الطبي لوفاة أخي .. كان بشع.. لا... لا أحد رأى سواي ،.. و.. طاردني."

"أحبكِ."

صمتت بعد تصريحه الصادق والحاني، ثمَ رفعت لهُ رأسها مَذهولة جراء كلمته الغير مُتوقعة، والتي لسبب ما، سارت من أذنيها إلى عقلها ثم قلبها، وصولًا لجرحها الغائر ولدمها ولشعورها بالقهرِ، لكنهُ حاوط ثغرها بخاصته، وضمها له بتملكٍ بحت، فأستسلمت لرجولته وتمكنه من مُحاوطة وجعها..

تجاهل چون المنطق كله، ثم سحبها برفقٍ أسفله على الأرض، يحيطها بجسدهِ الضخم، وحرص على إزاحة أصغر الصخور التي قد تؤلمها، فضمته بإستسلامٍ تام.

قُبلته كانت عميقة، وبطيئة دافئة، أحبتها وداعبت حواسها لأقصى الدرجات. كان قوام عليها بكلِ حُب وتريث، أبتغى الإبتعاد لتتنفس، لكنهُ وجد يده تلامس فكها الرقيق وفمه ينال من ثغرها كُل الدريّ والعشق.. الإكتفاء، وما الإكتفاء منها ملموس.

فصل ثغره عنها ببطىءٍ عكس أرادته، فلهثت بشدةِ ضعف، وتمتمت بنبرة رقيقة وقع لها أعمق:

"هل تذكر حين سألتك عن لونكَ المُفضل؟ ، أريد تلكَ الإجابة الآن.! "

"Ești culoarea mea preferată."

"ما الذي تعنيه ؟"

أبتسم بعبثٍ وعيناه لا تزال تغازل ثغرها الشهيّ، ثمَ دندن بنبرة خافتة:

"أنتِ هي لوني المُفضل."

تآوهت بدهشة عاطفية جراء جوابه الذي لمْ تتوقعه، فأبتسم أكثر، وأنحنى عازمًا على تقبيلها مُجددًا، لكنهُ توقف فجأة وعقد حاجباه ناظرًا حوله بغضبٍ شديد.

"على ماذا تبحث ؟"

"على الوغد الميت الذي سيراكِ هكذا."

ضحكت هازة رأسها بيأسٍ من حالته، ثم سحبتهُ برقة من عنقه، وقبلته هذه المرة بسطحية تامة، أرسلت مشاعر ثقيلة على صدره وكأنها وشاح شتوي، سيدفىء قلبه المُثلِج.

أتسعت عيناه، وفتحها ناظرًا لها كأنما يُشبع نهمه نحوها، لكنها كانت مُغلقة الأعين، شفتاها تُلامس خاصته بسطحية، وبرغم ذلكَ، شعر بقبلتها تغوص في صدره، عميقًا.. عميقًا، حتى أخترقت أصغر خلية هُناك.

دفعتهُ برفقٍ عنها، فحاوط جسدها بلينٍ جالسًا، يسحبها في أحضانه، فجلست فوق فخديه أثناء دندنتها الساخرة بعاطفة مُحبة أكثر من كونها مُستهزئة:

"أنتَ ملك من الآن ؟"

أبتسم ولمْ يُجيب، وبدى أن في ذهنهِ الكثير من المُخططات الداهية بينمَا يتأملها بإشتياقٍ مَوجوع، فوجدت نفسها تتوجس رغمًا عنها ومَخاوف عديدة طاردتها.

تمدد بجانبها، فأسدلت رأسها على صدرهِ وأعلنت بنبرة هادئة، تتمسك به:

"ما الذي ينتظرنا غدًا ؟"

بدلت سؤالها، وعدلته مُستطردة:

"بل ما الذي ينتظرنا بعد لحظات؟"

لمْ يُجيب وبدى غامضًا في تلكَ النُقطة فتنهدت وأعلنت مُستائة:

"لما تتجاهلني ؟"

أبتسم، ثم ناظر عيناها بحفاوة، وحينها فهمت لما لا يُجيب، لمْ يكن الشخص المثالي للتعبير عما يُخالجه بلسانهِ، لكن عيناه قالت وفاضت حتى أكتفت، فأبتسمت، ثمَ نهضت وزحفت على أربعٍ ناحيةِ طرف المنحنى، فجلس مُراقبًا إياها بجمودٍ عكس قلبه الذي نهشه القلق والرُعب جراء خسارتها.

فأدرك.. أن بعد كل هذا.. لن يستطيع فقدانها، ولا العيش بدونها.

أنحنت بحذرٍ لتُراقب ما تحت الحافة، فسحبها من قدمها فجأة للخلف، فقبعت أسفله:

"الحافة هشة يا سيڤار، لا تقتربي منها."

راقبته بعاطفة مُحبة، وصدرها يداعب فؤاده وتصلب بنيانه.

"الحافة الوحيدة الهشة التي خطوتها كانت أنتَ، فوقعت بقسوة.. حتى تحطم عُنقي."

أبتسم أمام كلماتها، ولمْ يجد ما يُجيب لسانهِ، فنهض ساحبًا إياها خلفه. كان مُكترث جراء عدم جرح قدماها العارية، فسار معها برويدٍ، لكن بتلقائية لمْ يعتادها، بدأت تُثرثر عن الكثير من الأشياء المُختلفة وبرغمِ حبه لها وهيامه حول أحبالها الصوتية، لمْ يستطع تحمل ثرثرتها النسائية.. والحل المثالي، كان إخراسها بالخجلِ:

"هل لا تزال الشفرات الحادة تُسبب تهيج في جلدكِ؟"

بهت وجههَا وأعلنت مُستاءة:

"متى قلتُ هذا ؟"

"حين أصابتكِ الرصاصة، شاركتيني مُعاناتك في إزالة الشعر، وحساسية جلدك المُفرطة من المنظفات."

"لمْ يكن من المُفترض أن تعرف هذا..!"

عبس وجهها بضيقٍ، لكنهُ تابع مُستهزئًا:

"شاركتيني أيضًا تجربتكِ الآولى مع الشمعِ الآحمر، وبالمُناسبة، كانت تجربة قذرة جدًا وسببت حروق في جسدكِ وندوب دامت لأعوام."

"توقف عن ذكرِ خصوصياتي.! "

زمجرت تنهره، فأبتسم بإستمتاعٍ ثمَ ألتفت لها بأعين عابثة، وراح يقول ما هو أسوء تمامًا:

"وأذكر أن مقاس صدركِ حين كنتِ في الرابعة عشر، أكبر من مَقاس قريباتكِ، فتعرضتِ للتنمر وبالمناسبة كانت غيرة لا أكثر لكنكِ غبية، لمْ تدركي هذا حتى اليوم."

ناظرته مُغتاظة، وتأكدت أنه يعلم الأسوء بل والأدل، فخطت داخل المنزل لكنها لمْ تتوقع أن يُحاوط فكها بعنفٍ صافعًا ظهرها أمام أحد الحوائط وملامحه راحت تتبدل مئة وثمانون درجة وكأنه أصيب بألتباسٍ شيطاني.

"وأيضًا أذكر أنكِ أخبرتيني يومها، بأن أختطافك سابق ليلة زفافك.."

صر أسنانه بألمٍ وتابع بتناقض تام بين الغضب والغيرة:

"بحثتُ عن التفاصيل وحينها أقسمتُ أن أنتقم جراء مسكته ليدكِ، أنتظرتُ أعوام، أعوام وأعوام حتى الفُرصة المناسبة لمعاقبتكِ والتي هي الآن، يا زوجتي العزيزة."

أنفجرت ضاحكة، ثم رفعت جسدها وحاوطت خصره بقدميها وأعلنت ماكرة تُقاطع حروفه الثائرة:

"كنتُ مُتقززة، وسكبتُ الكلور على بشرتِي فألتهبت.. لربمَا أبي قتلني ضربًا بعدها، لكنني لمْ أندم، على النقيض تأكدتُ الآن أنني أتخذتُ القرار الصحيح وقتها بل وأشكُر الرب على تنظيف يدي كي لا تبترها."

أبتسم وسط أختلاله مُرغمًا وعادت الحفاوة تغزو أبصاره أمام خاصتها الضاحكة:

"متى أصبحتَ حالة ميؤوسة منها؟"

أتسعت بسمته، ثم لوى رأسه للجانب الأيمن ليستثنى له رؤية عيناها الآسرة، وهمهم مُغردًا بما جعل ضحكتها تتراقص بين أسنانها الناصعة:

"هممم، دعيني آرى.."

قبض جسدها ورفعها له أكثر، ثم هز رأسه بعبثٍ شبابي ناقض شخصه الشيطاني:

"لربمَا في اليومِ الآول حين رأيتُك تخبرين الأسترالي، أمكَ."

عضت وجنتاها من الداخل بعد تذكرها لتلكَ الحادثة التي وقعت بعد وصولها لقصره، ثم راحت تُجاري جنونه:

"أوه.. كان من المُفترضِ أن أفهم بعدما خرفت بالعديد من الحروف، لكنني كُنتُ مُرتعبة، ولمْ أفهم منكَ حرفًا.. لكنكَ علمتني الكثير.. معكَ في الحُقبةِ الآولى من علاقتنا.. جعلتني أدرك أن الجوع يقتُل.. وأن الكرامة تكتمل بالسُلطة.. وأنني كإمرأة.. لمْ أستطع مُقاومتكَ حين..."

نفضت رأسها للجانبان، ثمَ تابعت بضحكة ساخرة بعيدة عن السعادة:

"كنتَ تحرِق وجهي بملعقةِ الطهو أيُها اللعين.."

صرت أسنانها بعدها وحاوطت عنقه وكأنما تُهدده.. لكنها أحتاجت إلى رفعِ كلتا يديها وبرغمِ ذلك لمْ تستطع مُحاوطة حياته كما يفعل هو..

"لن أنسى الماضي، أعني.. كنتَ بشع جدًا.. يا إلهي، أنظر كيف أرتجف بسببكَ..!"

بالفعلِ كانت ترتعد بين ذراعَيه، فأبتسم بقتامةِ مُهلعة أعتادتها، سرعان ما زالت وعادت للحفاوة مُجددًا:

"لا تزالين في حاجة إلى السيد غيم ؟"

بهتت أبتسامتها، وأنزلقت مُبتعدة عنه تواليه ظهرها. جسدها كان يرتجف من شدة سيطرة الحزن على كيانها، وعيناها غاصت فيما مَضى:

"أحتاجه لأستطيع أن أحب نفسي.. أريد أن أحب جسدي.. كي لا أتقزز من الثياب أو اللمسات.. أريد أن تعود لي روحي يا چون.. روحي التي أقتطفتها بمنتهى البشاعة لتُرضي شهوتكَ سابقًا... ولا أزال أعاني في قلبي ووجداني حتى الآن."

غامت عيناه ولمْ يجد ما يجيب، فلمْ يظن قبلًا أن الأمر سيتطور معها لكُره جسدها ونفسِها، لكنهُ لمْ يلحظ تلكَ الفاجعة سوى حين لامستها صوفيا على طاولة الغداء.

كان شعور مَقيت يحرق صدرهِ، أرادها أن تكون له، ليكون الوحيد الذي يلمسها ويحبها، لكن ليس بتلكَ الطريقة.. ليس بالإعتداء ولا الأغتصاب.. فهو لم يكن سهل الوقوع عليها وهي الضحية.. والجاني لمْ يكن سواه.

لربما عرف لاحقًا مداخل قلبها وأستغلها.. أو لربما التعلق هو أقرب حالة إليها.. لكنها لا تزال تكره جلدها ولحمها الحيّ.. وهذا مقدار كارثته.

"أتركك تلمسني فقط ليتلوث جسدك معي ولتغرق في لونِ الخطيئة الداكن، ولأنني أعلم.. أن لمساتك التي تحرق روحي كل مرة، تحرق روحكَ وقتامتكَ أضعافًا مُضاعفة."

فسرت فجأة وألتفتت تتظاهر أنها بخيرٍ، لكنها لمْ تكن يومًا بخير، فتمنى لو لمْ يعتدي عليها.. على الأقل بنفسِ البشاعة. شعور الندم لمْ يمسس قلبه من قبلِ ولمْ يعرفه أبدًا، لكن في تلك اللحظة.. ذاق مرارته ودمامة نكهته:

"لربما بعدما أنجب منكَ أنسى أعني.. لو كنتُ في بيتِ أبي وتعرضتُ لتلكَ الحادثة، كانوا سيزوجوني المُغتصب، ومع الوقتِ كنتُ سأعيش معه مُمتثلة لمُطلباته خوفًا من إعادة نفسِ التجربة.. وبعدما أنجب منه.. حينها.. أنسى مَا حدث.. هذا ما كنتُ أسمعه من ضحايا الإغتصاب، فوجدتُ نفسي أبحث أكثر وأتعمق، لأدرك أن الآنثى لا تنسى،.. علمتُ أختاي سبيل النجاة.. في حين أنني لمْ أستطع مُقاومتكَ."

تركها تُخرج ما في جعبتها بمُنتهى الصبر، ولو سحبت زناده وضربته مُجددًا، لن يرفع سبابته لا بالتهديدِ ولا حتى التعنيف..

"وجدتُ الكثير من الروايات تُحلل الإغتصاب، فكم ضحية عشقت مُغتصبها وسامحته لاحقًا بمنتهى البساطة؟ أحبَّته وسلمته بقايا جثمانها الذي نهشه، فتسائلت هل الأمر بسيط لتلكَ الدرجة ليُجمع المُجتمع على نفسِ الآراء؟ ، فوجدت نفسي أسلمكَ جسدي.. و.. حاولت. حاولت أن أسير على باقي النُهج لكنني كنتُ أكرهك أكثر."

ضحكت فجأة تسخر من نفسها:

"هل تظن أن خراب روحي بسبب أختطافي من والداي؟ بحقِ السماء..!، لم تكن يدكَ مُتورطة في أختطافي يا چون، لمْ تخدرني، ولمْ تسحبني لدوامة أعمالك، لكنكَ أغتصبتني ولهذا كنتُ أكرهك، ثمَ دللتني، أحببتني، بل أهلكتني في محبتك، فوجدتُ قلبي يخضع لمُنتهى الظلم بين مُبادلة الرجل الوحيد الذي أحبني في حينِ أبي لمْ يستطع، أو الضياع لكُره نفس الرجل الذي تفنن في جعلي أكره كل إنش من جلدِي."

صمتت.. ليس لأن حروفها نفذت، بل لأن الإرهاق أصابها وأنهار جسدها بين ذراعيهِ، لكنها سمعت جوابه بوضوحٍ رغم تشوشها.

"لا أستطيع الأعتذار.. لكنني أعدكِ يا سيڤار.. ستعود حياتك أفضل مِمَا كانت، وسيتلاشى عالمي.. سأرحم روحكِ من العذاب معي، وسأعيش أنا فيه وحدي وسط ذكرى الإجبار والتعنيف، ليزداد وجعي أضعافًا مُضاعفة."

"إن عدتُ.. لن يحبني أبي كما أحببتني.. وهذا مَا يقتلني."

نبرتها كانت ضعيفة ومَكسورة، لكنهُ سمعها واضحة، سقيمة كما هي، فتركها تسقط في عالمِ ظلامها والا-شعور، راحمًا روحها قبيل الجسد..

كانت ضحية للمُجتمع، وضحية سادٍ قاتل نهش أخيها، وضحية والد غليظ الطباع، وضحية الفقر والجهل، ثمَ باتت ضحية للإنباذ والوحدة.. والأغتصاب، والتعنيف والأختلال..

مد كفه المُرتعد وتحسس غرتها يزيحها عن وجهها الفاتن فأدرك..

خسارتها كانت أعظم خسارة، وأغتصابها، ليس بلذةِ منحها نفسها طواعية مع عينيها المُحبة.

أدرك أنها ستظلم نفسها إن حملت، ستعيش معه وتتناسى، ستجبر نفسها على الحياة مع كرهها لجسدها ولحمها كأي انثى محلها.. وسيڤار لا تستحق هذا منهُ.. هي تستحق السعادة.. ولا شيء سواها.

____________
_______

تخللتْ نسمات الهواء رحيق رئتاها لتـُحيّ جسدها المُتهالِك، والشمس عادت تُداعب أهدابها البُنية تعابثًا.. فجمعت حاجباها في عُقدة تنم على أمتعاضها الشديد، أثناء مُراقبته المُتفحصة لها.. أكتراثًا وتقديرًا لحالتها، وحبًا وعشقًا.. خوفًا عليها.. وكيف لا يخاف؟.. وهي روحه.. روح شيطانه.

"كيفَ تشعرين ؟"

نبرته كانت حذرة ومُكترثة، فأبتسمت، ثم أجابت بعد وهلة من التفكير:

"لا أشعر بالألم."

تنهد جراء جوابها وفهم ما ترمي إليه. ربما لا يزال الحزن يشغل فؤادها، لكن وعلى الأقلِ.. الألم لمْ يعد يقترن بها..:

"أخبرني أنتَ، كيفَ حال وريث هاريسون؟"

'بخيرٍ ما دمتُ أتنفسكِ.. يا فراشتي.' تمنى لو يجيب بها ليطمئنها، لكنها كانت ثقيلة على ملسنه وفؤاده، فأتسعت أبتسامته ثم تحسس غرتها، وتمتم بأعين حانية:

"أحببتُ الغُرة مع عيناكِ الفاتحة.. صدقًا، نمش وجهكِ أحبه أكثر من البشرة الصافية."

توردت وجنتيها جراء شوق نبرته وصدقها، ثم دندنت بغنوة أصابت قلبهِ وحبه اللائع:

"لمْ أسئلكَ هذا السؤال من قبلٍ.. لما تُحبَ الرسم؟"

تنهد، ثم أعلن دون أكتراث:

"لا أحبه.. لكن أمي عهدتني أن أستغل ما أتقنه. أجيد الرسم والفروسية، وقديمًا، كانت هوايتي المُفضلة المُبارزة، وأن أستنشق سجائري."

"والآن.. ما هي هوايتكَ المُفضلة؟"

أبتسم بسمة سافلة راغبة، فعلمت أنها ستندم على سؤالها بسبب لمعة عيناه الماجنة.

"أستنشاق السجائر، بعدما ألتهم دموعكِ وأشارككِ دفيء جسدي."

جوابه كان دافئًا ومُهذبًا عما توقعت، فحافظت على بشاشتها، وشاركته أفكارها بضراوة:

"حين كنتُ في بداية مُراهقتي، كتبتُ بيتًا من الشعرِ.. ربما ضعيف بسبب صغر سني.. لكنني.. سأشاركهُ معكَ لأرى مدى عمقكَ."

أومأ يجاريها بمنتهى الإكتراث، ثمَ أستند برأسهِ على ذراعه وعيناه تحوم حولها بعشقٍ خافت، وكأنمَا الوقت وحياته ندى لها..:

"أحيانًا كان يتفاقمَ في باطنِي
بضياعٍ تام ضللتُ طريقي
لأجل وصال سَطْعًا أستنير
فسقطُ للغوث ولمْ أجد مُغيث
سواهُ.. هو وحدهُ .. فلهُ أعود."

"لربمَا ما تفاقم داخلكِ شعور الأشتياقُ لأخيكِ، فضللتِ الطريق حينما لمْ تعثري عليه وظننتيه مُجرد كابوس، هناك مفر منه يُنير، لكنكِ سقطتِ في بركة من الوجع والخذلان، بعدما تأكدتِ ألا عودة له، ولم تجدي من ينجدك من وسط الطين.. سوى الرب المُغيث."

ظلت ملامحها جامدة لوهلة، ثمَ صرت أسنانها بألمٍ بعدما أحيا أوجاعها، ودفنت رأسها في صدرهِ تبحث عن ملجأ من عذابها.

"أنتَ عبقريّ.."

عادت الحفاوة تملىء فؤاده عكس وجهه المتصلب، وراحت أنامله تتحسس شعرها الأملس، بمنتهى النهم والمَحبة:

"صِفني بكلمة.."

"لـــذة."

تجعد حاجباها، ورفعت رأسها تنتقده بعينيها قبيل اللسان، وبرغمِ ذلك تابع تحسيساته الحارة على جسدها وكيانها كُله.

"كم مر ونحن معًا.. أربع أعوام؟"

"أربع أعوام.. ونصف.. وبضع شهور."

أبتسمت بصدقٍ رغمِ إجابته المُقتضبة، وراقبها  بإشتياقٍ برغمِ كمونها بين ذراعيه، تداعب حواسه بأهدابها، تدغدغ شعوره بلذة أستحبها، هام في بندقيها وتمنى لو يطول به الوقت، ليمتزج فيهن بخضار حادقتيه الداكنتان.. ونمش وجهها البني الخفيف، تخللته حـُمرة كالورد الچوري، وبشرتها البيضاء ألتمعت كالحلاوة الشهية. ثغرها المُسكر ناداه ليقبله، ليروي أحتياجها للكمال كأنثى.. وفي تلكَ اللحظة علم چون أن شرف الموت برصاصة شجاعة أمام العدو، ليست بكرامة الموت وهي بين ذراعيه.

أرادها وكاد يتلمس وجنتها بأنامله، لكنهُ رفع عيناه للساعة الحائطية فجأة، ثم سحب حاسوبه وبحث عن إحدى قنوات البث المُباشر.

"ما الذي تبحث عنه ؟"

لمْ يجيب، فجعدت حاجباها بفضولٍ تنتظر جوابه، لكن ذلكَ الفضول تناقض إلى الحيرة بعدما سمعت لمحة من صوتٍ يعرفه القلب قبيل الآذن، تلاه ثرثرة كثيرة لنبرة لا تعرف صاحبتها:

<إذًا سيدتي.. شاركيني سر نجاحكِ.. سمعتُ أنكِ واجهتي الكثير من الصِعاب، التنمر، الخلافات الآهلية والحكومية، حتى وصلتي لهدفكِ.. فما هو شعوركِ؟، بعدما قُبلتِ بأول عمل لكِ، في أكبر السفارات الدَولية.!>

رفعت سيڤار عيناها المُتسائلة لچون، بعدما سمعت الإجابة تُعابث قلبها وشعورها بالحزنِ واللا-إنتماء:

<جميعنا نمر بمواقفٍ عَسيرة في حياتنا، لكن الغبيّ فقط من يقف عندها ليقع في حفرةِ الألم. صبرتُ كثيرًا حتى نِلتُ، والدليل، وجودي الآن مع سيادتكم.>

قربت سيڤار وجهها من الحاسوب، ثمَ حاوطت فمها بشهقة مصدومة وعيون تروي وجعها أضعافه..

رأت المُذيعة تلوي ثغرها في لحظة بعدم قبول أمام وجه أختها.. ملامح تحفظها.. زالت منها البراءة وحل بدلًا عنها الرزانة والكِبَر.

"تعرضتِ لخسارة فادحة.."

"أنا لا أتعرض لخسارات."

"المقصد في مقتلِ أختكِ الكُبرى، لا صورة لها، ولا شيء يدل على وجودها سوى شهادة ميلادها.. تلاشت فجأة وكأنها لم تكن."

عينان المُذيعة لاحت بإنتصار بسبب صمت چيداء اللحظي، وملامحها الجامدة لمْ تُخفي أبدًا وجعها وعذابها لفقدان أختها، ومرارة الليالي التي قضتها باكية على فراشها تنعي ذكراها، داعبت مشاعرها تزيدها وجعًا، لكن الأنتصار لمْ يدم بعد دندنة الآخرى الهادئة:

<بالتأكيد خسارتي لأختي فاجعة، وربما أنتِ تفهمين شعوري بعد خسارة والديكِ.. سيدة لاورا.>

فاحت أعين المُذيعة بضغينة بطنت مع تصنعها للضحك أمام قهقهة الجمهور، تفاديًا لإحتداد النقاش، لكنها أسكتت الجميع بسؤالها التالي والغير مُتوقع:

<في ظهركِ أسم لا يجب ذِكره أمام الصحافة، لولاه.. لما وصلتي لبداية طريقكِ.>

<حفرتُ المجد بأظافري، لا من الدعم المادي الذي قُدم إليّ.>

ختمت حديثها بأبتسامة خفيفة مُتحدية، فزالت أبتسامة لاورا تدعي الجدية:

<عِلاقة حميمية سرية بينكِ وبين أحد أبناء أهم رجال الأقتصاد.. علقي.>

بدأت الموسيقى الحماسية تصدو في الأرجاء، لتعبث في عقلِ المُشاهدين قبيل چيداء نفسها، وبرغمِ التوتر والسكوت، حورت چيداء الإجابة بمهارة:

<عِندما أُقرر الدخول في علاقةٍ، ستكونين أول المدعوين يا سيدة لاورا ومن يعلم.. ربما تُوقدين لي شمعة.>

صرت لاورا أسنانها بعد ضحك الجمهور بسبب رفعة حاجب چيداء العابثة وتمسكها بالصليبِ حول عنقها.. الصليب الذي ينتمي لأختِها.! ، لمْ تكن سيڤار تنزعه أبدًا.. ولم تخرج بدونه سوى ليلة أختطافها، فدندنت لچون بنبرة حزينة مُرتجفة:

"تـ.. ترتدي عُقدي الخاص."

سحبها لأحضانه، وتركها تُتابع اللقاء الصحافي المُباشر دون تعليق، لكن عيناه فضحت وجعه لها.. وحزنه لأجلها.

<أنتِ متورطة مع آل هاريسون.>

<ظننتُ هذا الإسم لا يجب ذكره أمام الصحافة؟>

أبتسمت بمكرٍ بعد أصفرار وجه لاورا بسبب إدراكها بزلة لسانها، لكن الآخرى أجابت بلا أكتراث:

<لكن إجابتي هي لا... لا أعرف هوية مالكيه سوى من أخبار الإقتصاد.>

رفعت سيڤار رأسها مُجددًا ومدت يدها تتحسس الحاسوب.. تحديدًا.. وجه أختها.. وكأنمَا تشبع أشتياقها لها، تتصور لو تضمها بين ذراعيها، لتحميها كما السابق من كلِ الناس.

"أنتَ مُتورط معها.. صحيح؟ أنتَ تمولها.. بدونكَ بعد الرب.. لمْ تكن لتصل!.. لما؟.. لما فعلت هذا؟"

"لأجلكِ."

مسح دموعها بأبهامة، فراحت تشهق باكية في صدرهِ:

"أنت تجعلني مُشوشة بين الكره والحُب!، وهذا ليس عادلًا.. ليس عادلًا أبدًا..!"

مسد ظهرها، ثم أمطر شعرها بالقُبلاتِ العاشقة، يهمس بمنتهى العشقِ:

"ألا أستحق مُكافئة ؟"

ضحكت وسط أحزانها فشاركها الضحكِ وضمها لصدره العاري أكثر، يتحسس دفىء جسدها بمَحبة، ليهيم بضئالتها ونعومتها.

" لا.. أنا مُتعبة."

"حسنًا زوجتي المُتعبة، تعالِ لأروي لكِ قصة."

هزت رأسها بيأسٍ منه، ثم رفعت لهُ عيناها الباكية:

"شُكرًا.."

زالت أبتسامته وراقبها بمشاعر ثقيلة لتُفسر، فقالت بعد لحظات:

"أنتَ مُلزم على تحملي، وتحمل عائلتي، وعائلة عائلتي.. لكن.. شُكرًا."

صمتت ثم جعدت حاجبيها مُعلِنَة:

"لكن مهلًا...هل ستظل تدعمها حتى نهاية الطريق؟"

"إن رغبتِ.. سأفعل.. لكن صدقيني يا سيڤار، أختكِ تبدلت.. عاشرت شخص.. دعينا نقول أنه فتى صغير سيء للغاية، علمها الكذب.. المكر.. الخداع.. تمويه الحقيقة، والأهم من ذلكَ أنها علمته الحُب بأول ركلة منها أسفل حزامه."

"إذًا، أختي واقعة مع مسخٍ لن يُنجب ؟"

ضحك چون بسبب نظراتها الجدية رغم كلماتها الطريفة، ثم تنهد مُجيبًا:

"لا، ليس مسخ، آرثر حبيبي تربية يداي، الفتى مثل الجوهرة الناردة، ليس أسوء ما يمكن، لكن أختكِ لمْ تعد كما عهدتيها يا سيڤار."

تنهدت سيڤار بعدمِ فهم، ثم دندنت بإغراءٍ:

"تستحق مُكافأة."

أبتسم بإتساعٍ مهووس ومُختل وبرغم ذلكَ لمْ تضحك سوى لأجل النظرة السافلة في عينيهِ.

"لكن غدًا، أعلم انكَ لا تُحب ثرثرة النساء، لكن اليوم، ستروي لي قصة حياة أختي.. فكيف ساعدتها؟ ومتى سافرت؟ ومن هو أرثر ؟"

تحسست صلابة صدره بلطافة آنثاوية كي لا يرفض، فتنهد ساحبًا إياها يحتضنها بأبتسامة ماكرة:

"دعيني أروي لكِ روائع أختك مع الفتى السيء في مدرستها."

____________
_______

وبينمَا چون يروي ما تبتغيه الشرقية، سنعود بالزمانِ لچيداء.. حين كانت لا تزال مُراهقة جبانة بما فيه الكفاية لتختبأ في المرحاضِ النسائي حتى بداية الدوام وحين بدأ.. سارت لقاعة دروسِها بخطواتٍ سريعة تجاوزًا لأي مُناوشات.

دخلت جالسة على كرسيها، تشكر الربٍ لأنها لن تضطر لرؤيته كثيرًا، فمن حسنِ حظها أنه أكبر منها بعامين، لذا كان في الصفوف العلوية بسبب مستواه الدراسي الذريع، الفتى سيء حقًا من كُل النواحي، لكن سُلطة والده تجعله بإستمرارٍ على حافة القمة..

ظلت شاردة، تارة مع المُعلم وتارة آخرى مع نفسِها. أحمد لمْ يظهر مُجددًا في حياتِها وكأنها كانت عابرة لهُ.. وهذاَ كان مُؤلمًا في صدرها فقط لعدة أيام، وبعد مضيّ الوقت حين تتذكره.. لا تشعر سوى بالأمتنان ولا سواه..

أدركت أنها ليست في حبكة عاطفية، هي في آخرى عن الأمجاد بعدما واجهت الجميع، وتخلت عن الكثِير في سبيلِ حلمها..

ظنت أن التنمر الذي حصدته في المكتبة قديمًا قبيل سفرها أسوء ما يمكن، لكن ما تتعرض له في المُجتمع الجديد، أسوء بمراحِل..

أفاقت على صوتِ الجرس بعد أنتهاء النصف الآول من الدوام، فتنهدت على مضضٍ، ولملمت مُمتلكاتها تنوي الأتجاه للمرحاض مُجددًا حتى بداية النصف الأخر منه، لكنها رأت السافلة وصديقاتها يدخلن، فأعرضت عن الشرِ وقررت الإتجاة لمقهى الجامعة.. تحديدًا حيثُ وجدت شلة الوغد، فسارت مُسرعة قبل أن يلحظها أحد، وجلست عند آخر طاولة في نهاية الممر بلا شهية للطعام.. تتجنب رغبتها في البحثِ عنه بعينيها، كي لا يراها.

مدت يدها لعنقها ثمَ أحتضنت الصليب الذي ينتمي لسيڤار، وشردت كثيرًا في ذكرياتها حتى أفاقت على صوت قماش بنطال يحتك مع كرسيها، فرفعت رأسها لكن سرعان ما أتسعت عيناها بعدما وجدت الوغد يُراقبها بآخرى تستعر نيرانًا ماكرة..

وكان آرثر أول خططها الفاشلة، وأكبر خطأ لها في الوجودِ.

"مرحبًا چيد.!، هل تختبأين مني؟ صدقيني.. يُمكنني العثور عليكِ من رائحتكِ القَذِرة."

أزدردت لُعابها وشعرت أن قناع قوتها يكاد يسقط في الحضيض، وعادت رجفة خوفها تعذبها، لكنها قررت تصنع الجُرأة رغم تهتهة حروفها بالبعثرة:

"هـ-ل.. تريـ-د ركـ-لة إضافيـ-ـة؟"

أتسعت أبتسامته بسبب فشلها الذريع، وحاصرها عند الحائط بذراعيه بينمَا لا تزال جالسة، ثم غمغم بظلامٍ تام، مُتحسسًا وجهها بعينيه عن قربٍ:

"أركليني.. أدفعيني.. أريني ما لديكِ."

أغلقت حادقتاها وأعتصرتها بمرارة، ومالت برأسها بعيدًا عن أنفاسه تواليه وجنتها، لكنه صك ثغره على جلدها الرقيق، وتابع بنبرة قاتمة وأنفاسه تلفح بشرتها برغبة:

"بطريقةٍ ما.. أعجبتيني، لذا سأتسلى بكِ قليلًا قبل حصولي عليكِ في فراشي وحين ألقيكِ.. ستكونين مُحطمة بما فيه الكفاية، لتكرهي صنف الرجال كله.."

راقب شعرها عن كثبٍ، ورائحتها التي تغلغلت حواسه حفزت مشاعره الرجولية للمسها، بينما جمالها الناعم أصاب تبلده بقوسٍ كاد يهشمه، وبرغمِ ذلك أكتفى بتهديده، وأرتد ببطىءٍ يكاد ينهض لولا قولها، الذي حفز أستفزازه للإنتقام:

"هذا إن كُنتَ رجلًا.. في الأساس."

"أوه چيد."

ضحك بعلوٍ فصمت الجميع فجأة، ونهض أصدقاءه جالسين على مَقربة منه بأعينٍ مُتوجسة، فإن دخل الوغد في نوبته اللعينة، لن يخرج منها سوى بعد فوات الآوان.:

"لا تعلمين بالفعلِ.. لما أغضبتيني هآ؟"

رفعت رأسها ببطىءٍ، وأرتابت بعدما شهدت طلاب الجامعة صامتين، يراقبوها في فتورٍ وشماتة، لكن سبب توجسها الفعليّ، تلكَ النظرة الحالكة في عينيهِ، وكفه المُرتجف حول ثغره. مشاعره السلبية واجهتها كما لو كانت شرارات غير ملموسة أستباحتها بعتمتها، فإشتدت أنفاسها ذُعرًا.

بدى وبرغم مراهقته رجل بالغ.. لا يجب أن يغضب أبدًا.. ولا حتى أن تعبث معه، بأي شكل من الأشكال.

دنى نحوها بخطواتٍ بطيئة، ثم أحاط فكها بعنفٍ ناسب نبرته المُختَلة:

"غضب آل والتر لعين حقًا أعني.. نتوارث الأختلال والغضب الشيطاني، الأمر يسير في دمائنا النجسة، والآن.. كيف سأكبح نفسي عنكِ؟ هآ؟"

من يراه هكذا، يُظن أنه حقًا لا يريد إيذائها، لكن قولها التالي، جعله يفقد أخر ذرة من أعصابهِ:

"تبًا لكَ.. ولآل والتر."

ألتقط أقرب حاملة طعام قريبة منه، ثم لطمها على وجهها بشدة جعلتها تصرخ بحرارة، فشهق المُشاهدين مُشجعًا أو ضاحكًا.. لكنهُ لمْ يترك لها الفرصة لأستيعاب ضربته، بل سحبها من شعرها، وتابع بنبرة مُرتجفة:

"أوه لا.! .. صدقيني لمْ أكن أريد أن أفعل هذا بكِ أعني.. في النهاية أنتِ مُجرد ضعيفة غبية."

علت شهقاتها الباكية وأعتصرت عيناها ترفض مُناظرة وجهه، فتحسس بنظراتهِ سيل لعاب فمها الذي أمتلىء بالدم، ودموعها أمام تورد وجهها كُله، فصر أسنانه بشهوة بعدما زادت حمرة وجنتها اليُسرى ووضحت للناظر، فعلم أنها قد تُخلف كدمة كبيرة وربما كسور لذا أخرج منديل من جيبهِ، وتحسس به ثغرها أمام بكائها:

"أنظري لما فعلتيه في نفسكِ؟"

أعاد المنديل في جيبهِ مُجددًا، ومسح دموعها بإبهامه، لكن حين لامس وجنتها المتورمة آنت، فضغط عليها بأعينٍ شديدة القتامة:

"أحيانًا أخرج عن طوري وأفعل هذا. من حسن حظكِ أن صراخك الصَاخب أيقظني لأنني في العادة لا أفعل سوى في اليومِ التالي، والآن.."

ترك شعرها، وبدأ يعدل خصلاتها أثناء بكائها المُتألم، والخَجل.

"أنظري لي.."

رفعت له أعينها الداكنة ببطىء وضعفٍ أستحبه، فأزدادت نظراته عَتمة.

"أعرفي متى تتحدثين، ومتى تصمتين، فقط لندوم سويًا."

"لن نكون سويًا أبدًا أيُها المختل المريض."

أجابته بهديرٍ مُتألم، فتأتأ بتأنيبٍ، ثم دندن بعتابٍ قاتم:

"ما الذي قُلته يا چيد؟ لن أعيد تحذيري لذا.."

هدر بنبرة رجت الجميع بالخوفِ، حين حاوط فمها ضاغطًا عليه بعنفٍ يكاد يكسره.

"أقفلي فمكِ اللعين."

صرخت باكية جراء الألم، فترك فكها مُحاوطًا فمها كله بكفهِ ضاغطًا عليه بقوة، وسحبها نحوه بعنفٍ، فألتصق ظهرها فيه بينما لا تزال جالسة. بدأت تشهق في راحة يده، فإنحنى مُلصقًا وجهه في جانب عنقها بتلذذ:

"توقفي عن الصراخ، لأرحل."

اومأت له بنفورٍ وحين ترك فمها دفنت وجهها مُباشرة في الطاولة، وحاولت كتم صوت بكائها العالي.

ظل مُلتصق فيها لوهلة، يراقب ظهرها عن كثبٍ، كظل لها وهي تبكي بلا توقف، بقهره وكسرة أمام الجميع، وبرغمِ ذلكَ سمعته يترك حاملة آخرى بجانبها، تلاه نبرته الهادئة:

"كُلي، أكره أن يفقد أحدهم الشهية."

آمرها، ثم غادر القاعةَ كلها بخطواتٍ سريعة، ويده في جيبه يتحسس منديله وأثارها عليه، فعاد صوتها الباكي يرتفع وبرغمِ ذلكَ، طغى عليهِ تهامسات الجميع ونمهن ولمذهم.

____________
_______

أنتفضت سيڤار من فوقِ الفراش، ثم أغلقت قميصه عليها، ولامته بغضبٍ ضاحِك:

"قلتَ أنكَ ستروي لِي قصة أختي، بينمَا جررتني للخطيئة.. مُجددًا.!"

لعق شفته السفلية بمكرٍ ثمَ تسربت منهُ عدة ضحكات هادئة وخافتة، يضم خصرها ليقربها منه:

"هربتي عند الجزء المُهِم بيبي.! كنتُ على وشك تطبيقِ مشروعنا الصغير."

أنتفضت لتقف أمام الفراش بعيدًا عن يديه، ثم عقدت ذراعيها أسفل صدرها ودندنت بعبثٍ ضاحك:

"فِي أحلامكَ، يا چون هاريسون."

صرخت ضاحكة بعدما أنقض عليها قبل أن ترمش أو تتنفس، وسحبها لأحضانه مُجددًا، وأعتلاها مُكبلًا يديها بإنتصارٍ، ثم راقب عيناها بأبتسامة هادئة، وتتبعته هي بأنفاسها اللاهثة.

وبرغمِ أنها كانت سعيدة لنسبة لا يمكن تجاهلها، كل ما فعله بها عاد يغزو عقله وينهش منهُ سعادته، لا يظن أنهُ سينسى أبدًا بكائها أسفله، وصرخات روحها المَحروقة في كل مرة أعتدى عليها.. لن ينسى.. يده التي طبعت على وجهها الجميل بصفعاتٍ قاسية.. ولن يتجاوز مُطلقًا، نحيبها في أحضانه، وسيعيش أبد الزمان، مُحتجزًا في ذلكَ العذاب، فقرر التلاعب على نفسيتها.. عله يمنحها السعادة الكاملة، ويترك ذاته في وجعها:

"أنا لمْ أغتصبكِ... بل طالبتُ بحقوقي."

بهتت عيناها وأومئت لهُ بمرارة موافِقة:

"كُنتَ تُطالب بحقوقكَ."

أستند على جبهتها مُرهقًا، وكرر بمرارة شعرت بها في تمزقِ أنفاسهِ:

"كانت حقوقِي."

لوهلة ظل مُستكينًا بجبهتهِ على خاصتها يمنعها عن مُغادرة روحه قبيل دفىء جسده، وظلت هي تُردد الجُملة مرارًا في عقلها لعلها تعيش دون وجع.. ودون أن تكره لحمها الحيّ.

"كُنتُ مُستمتعة.. لمْ أكن أصرخ، ولم أشعر بالعارِ والعذاب.. ولمْ أكن أحترق."

اومأ تزامنًا مع حركةِ رأسها بالإيماء، ثم دندن بنبرة ثقيلة تنم على حبهِ الشديد لهَا:

"تحممي، ريثمَا أُتابع أعمالي."

وافقت ثم أنسحبت ببطىءٍ، فتركها مُفتقرًا لدفىء جسدها.. لكن سيڤار وللمرة الآولى، لمْ تواليه ظهرها ولمْ ترحل، على النقيضِ تمامًا، سارت خطوة بعيدة عنه، ثمَ ضمت ظهره بشدة.. ووهبته الأشارة لتبديل الكثير من الحقائقِ.

"لن أغادركَ."

ألتفت لها وسحبها لأحضانه مُقبلًا أياها عدة مرات مُتتابعة جائعة، ولمْ ترغب أسنانهُ في ترك شفتيها قطعًا، حتى حين فعل، راح يُقبل وجنتيها وعينيها وجبهتها، ويديها التي حاوطت بها وجهه تداعبه بالأنامل والتآوهات.

"چون.."

آنت بأسمهِ فإزداد جنونه ونهمه بها، وثغره أنزلق على عنقها يلثمه، لكنها أخرجته من نشوةِ أفكاره:

"حبيبي.. أنا مُتعبة.. سأتحمم الآن بأسرع ما يمكنني، لأعود إلى أحضانك حيثمَا أنتمي.. حسنًا ؟"

أبتسم بإتساع جراء كلمتها الأولى، ثم طبع قُبلة حارة على جبهتها:

"Te iubesc."

"și tu."

أزدرد لعابه بتفاجؤ ثمَ رفع لها رأسه وعيناه تغوص بها. كانت ملامحه جامدة، وعيناه نهشت وجهها باحثة عن صدقها من عدمهِ.. لكنها عادت للقتامة والدنف، بعدما تأكد أن الشرقية قالتها عن ذي جهل.

"أخبرتكَ أنكَ لو كنتَ تسبني.. سأقول لكَ și tu، لا تغضب.!"

وقتها چون لمْ يكن غاضبًا.. تلكَ القتامة في عينيهِ لمْ تنتمي أبدًا سوى لقلب مكسور.. حتى وإن كان قلب الوحش في قصتها.

أفلت جسدها وأشار لها بلا كلمة، فرحلت من أمامهِ بمنتهى البساطة. علمت أن الحياة معه لن تكون بنفسِ صعوبة الماضي.. وخاصةً بعدما فهمت متى تصمت ومن تُعلن عن أحقيتها بطلبِ حقُوقها.

أعتصر عيناه بمرارةِ مرض، وتذكر كلماتها الدافئة على نسيج جلده وعظامه.. فها هو يغوص مُجددًا، في بحرِ حُبها القاحل والضاحل.

<Te iubesc> "أحبكِ"
<și tu> "لكَ المِثل"

نقيضُ أفكاره الصاخبة، أنفردت هي بنفسِها مع أفكارها الهادئة الغَير موزونة، فتركت حمامها الدافىء، وأنسحبت تمسح بكفها الرقيق على المرأة، تتلمس ملامحها.. بعد تلمسها للروح.

"غيم قال ما لمْ أفهمهُ سوى الآن.. أنا حقًا أحتاج لهُدنة مع نفسِي.."

أنزلق كفها، تتحسس جسدها العاري وكأنما تبحث عن المَفقود في خبايا روحها.

"من هو لِي؟ أو بالآحرى.. كم شخص يملك داخله.. ليتركني مُشوشة ومُتحيرة؟"

"هل هو الزوج الذِي يُقبل رأسي وجبهتي؟ أمْ السند الذي يدعم عائلتي فقط ليراني سعيدة؟ الرجل الذي يحتضنني لينتشلني من مخاوفِي؟ أم السيد الطاغي، المسخ سبب رُعبي؟ هل هو الحبيب المُكترث لينتقي لي جواهري بعناية لا أستحقها؟.. أمْ العاشق المهووس بي؟.. من هو تحديدًا؟ كان من المُفترض أن أبحث عن إجابة هذا سؤال.. لعلي أنتصر في أجابة سؤالي الآول والدائم.!"

رفعت كفها وعادت تمسح المرأة من البخار المُكثف، ثمَ تحسست وجهها بضياعٍ تام:

"وجهي خالٍ من الكدمات، ندوبه تكاد تتلاشى.. وبرغمِ ذلك لا تزال روحي تائهة."

"چون لمْ يغتصبني، ولمْ أكن خاطية، دخلنا في علاقة جدية بعيدة عن الطراز الشرقيّ، فأحبني، وتزوجني.. وأثناء زواجنا، لمْ يغتصبني على النقيض.. سلمت لهُ نفسي بروحٍ راضية. كنتُ المُخطأة دائمًا حين يضربني بدون سبب، كُنتُ المُخطاة لأنني أُغضبه.. لأنني الآنثى، يحبني.. لكن أستفزازي يثير جنونه."

اومأت شاردة تُحاول حفر تلكَ الكلمات في قرارة عقلها.. بل وأكثر نقطة غائرة في وجدانها:

"أنا زوجته، سونيا مُجرد علاقة عابرة، كانت أول مرة.. وآخر مرة، لكن أنا.. كل مرة وكل ليلة وآول قُبلة."

صرت أسنانها ثم لطمت المرأة بعنفٍ لمْ يُحطمها بسبب ضعفها البنياني المَرضيّ، لكنهُ قد يتسبب بكدماتٍ على مفاصلها لاحقًا:

"لا.! ، ليست أنا من تقول هذا، ربمَا أنا آنثى عربية، لكنني لنْ أقبل أن تكون هذه حياتي، تبًا للهدنة، چون نفسه يحتاج لهدنة، تبًا لغيم أعني العجوز مَقيت، تبًا لي، ولهُ، ولكَ أيضًا يا سيڤ."

سمعت صوت أخيها المُتذمر في عقلها، يستنكر مسبتها:

'وما ذنبي بينمَا أنا مُشاهد صامت منذ بداية الحكاية.'

"حكاية؟"

كررت مُندهشة من صدقِ تشبيهه، ثمَ ضحكت خافتة:

"حياتي رواية طويلة، وسأقتُل الكاتبة."

تخللت شعرها المَبلول بأناملها، ثمَ أستنكرت بثقة وبقايا صمود لمْ يتلاشى بعد:

"بل سأكون أنا الكاتبة.. هذا ما سأحرص عليه، سأنقش حياتي على نسيج جلدي، روحي، مخاوفي، وسأحصد نهايتي السعيدة.. أعني.. مُستحيل أن تسوء الأوضاع.. يستحيل."

كتمت أنفاسها المُتوجسة، وهي تدرك طبيعة إنقلابات چون الحسية برغمِ تنازلها عن حقوقها كافة، فعادت مُجددًا أسفل الصنبور، لتنزلق تحت مياههُ الدافئة.

"عانيتُ كثيرًا لأزرع، وسأكتُب نهاية حصادي وكأنني بطلة الرواية التي تاهت فيها روحي حتى تلاشت وبطنت.!"

توجست مُجددًا وأصابها الخوف، هي أمام الجميع مُجرد عاهرة لچون هاريسون، وهو.. لن يقبل بالإعتراف بها كزوجة.. أبنائها منه، معدومين الأحقية أمام أبناءه من سونيا، لأنها زوجته الشرعية بالنسبةِ للعائلات المحكومة.

إزدادت وتيرة أنفاسها خوفًا بعدما أيقنت أن چون إن مل منها، فستعيش وجعًا ليس بعده وجع.. أعني ماذا لو مل؟ وماذا لو ترك نفسه عليها مُجددًا؟

محت فكرها وعقلها وصوت المنطق، وتركت القادم للنصيب.

"أنا لا أريد حقوقي ولا أشكو.. كل ما أريده هو السعادة.. لا أهتم إن عـُملت كالبشر، ولا يهمني إن أحببته، ولا حتى أن چون هو نفسه الرجل الذي أغتصبني.. أريد السعادة.. ولا سواها."

وبالفعل كانت سيڤار.. لهذا الحد جائعة للسعادة.

____________
_______

خرجت من المرحاضِ بعدما أرتدت روب حمامه الكبير بعينين غاضبتين، بسبب إدراكها لضائلتها أمامه، نفسيًا وجسديًا، فقبضت يدها على الطرف العلوي تستر تقاسيمها التي كادت تنكشف بسبب شدة صغرها فيه..

رفع عيناه من فوق الحاسوب بتلقائية مُحبة.. كان في مُقابلة عمل، ووجب ألا يراه أحد في حالة من الإتصاف بأي مشاعر أدمية كما يرى، فحاول قدر الإمكان ألا يبتسم مسرورًا لرؤيتها، ثمَ أخفض بصره مُجددًا لرجاله..

رفعت حاجبها الأيسر، ودلفت غرفة الملابس عوضًا عن فتحِ الخزانة الخارجية الصغيرة، ثم بدأت تمرر عيناها على ثيابها، فرأت بوضوحٍ قميص النوم الأسود، الذي حصل على مكانة أكبر منها في قلبِ زوجها لسبب لا تفهمه..

مررت يدها عليه ببطىء تتحسسه، كان شيفوني بإفتضاحة، رقيق وماجن إلى الحدِ الكبير، لذا تركته بخجلٍ تستنكر هالتها فيه، وسحبت عوضًا عنه بيچاما وبدت مُترددة حيال أرتدائها..

ظلت تُناظرها وكأنما تُحاول حسم قرارها، بين إرضاءه وإرضاء نفسها، لكنها سرعان ما ألقتها لاعنة تحت أنفاسها وسحبت منامة أخرى بنفس لون جلدها، كاشفة، وستشفي أنتقامها عوضًا عن الشيفونية الأكثر عـُريًا.. فأرتدها ولم تنظر لذاتها تجنبًا لتبديلها.. وأتجهت صوب المرأة في الغرفة، ثمَ جلست عليها دون العبأ بوحشٍ يكاد ينهشها من الرغبةِ والحب.!

رسمت عيناها بالكحلِ الذي عهدته وباتت مُتمرسة في خطوطهِ، وبرغمِ ذلكَ، كان الوقت بطيء على كلاهما ريثما تُنهي رسمها المُتقن..

أنزلت يدها لأحمر شفاهها الصاخب تلتقطهُ، ووضعت منه الكثير فأشتد لونه وجرأته، ثم نحته جانبًا وإلتقطت عطره الخاص تبخ الكثير على منامتها..

جسدها بالفعل به رائحة لغسول الفراولة، لكنها تعمدت إشعال حواسه بالأستفزازِ أكثر..

أبتسمت مُلتفتة له، فلاحظت هياج أنفاسه وثبات عيناه الغاضبة حولها بسبب وضعه في حاله نهمة من الجوع الجسدي لها. لمْ تصلها مشاعره، فرمشت عدة مرات تُحاول أستبطان سبب عصبيته.. لكنها لمْ تستطع.

وبتلقائية لمْ تقصدها، رفعت يدها لتعيد العطر مُجددًا فأنزلقت حمالة منامتها وسببت هياج طغى على أنفاسهِ، لكنهَا سرعان ما رفعتها وهندمت هيئتها كي لا تفسد كما ظنت.

صوته المُهيمن على رجاله عاد يتحدث، ربما لمْ تفهم لُغته التي يُحب الحديث بها، لكنها تأكدت أن اللغة التي يتكلم بها كثيرًا لا تنتمي أبدًا للغته الأم.

سانتيغو من عرقٍ أسباني، أبـًا عن جد، وچون لمْ يكُن مُستبعد من أصل أجداده عكس أندرو الذي تمت ولادته في إيطاليا.. لذا راودها سؤال لمْ تسأله من قبلٍ، فما الذي يُخبأه زوجها في طياتهِ؟ ولمَا لا يُحب الأعتزاز بلغتهِ الأُم؟ وما علاقة جوانا بالصراعاتِ بين سانتيغو وأخوه؟، ولمَا ديفيد هو الوحيد الذي شبهها بوالدة الوريث؟

هي مُتأكدة.. حُب چون لها وتمسكه بها ليس لأنها تُشبه والدته لحد ضئيل جدًا ليتم ذكره.. فنظرته لها.. لا تنتمي لحنين إبن لأمه أكثر من كونها عاشقة حد الغرق.

ما علاقة إيڤالين المرأة الطيبة بما حل في حاكمِ العائلات؟ أو تحديدًا.. لما لمْ يرث الإبن ورث هاريسون؟ وورثه الحفيد ليحكمهم جميعًا مُغلقًا اللجام حول فم كُل مُعترض؟

لتجد إجابة سؤالها المَشهور 'من هو لي؟' وجدت نفسها تقع في سؤال آخر أشد تعقيدًا 'بل تحديدًا من هو ؟' وحين حاولت النبش عن كُنيته، وجدت عدة أسئلة تنهش رأسها ودماغها كله..

شعور داخلها تناقض بترددٍ ما بين سؤاله وتجاهل الأمر برمتهِ، لعلها ستموت قريبًا وتنتهي من تلكَ السُخف، لذا.. كانت مُستعدة لتعيش باقي أيامها في سلامٍ معه، حتى تلتقي وجه خالقها العظيم.. وهي مُتأكدة تمامًا أن رحمته التي وسعت كُل شيء ستُنسيها همومها لتتطهر إسوداد وجروح قلبها..

"فيمَا أنتِ شاردة ؟"

أفاقت على صوتهِ العميق وخطواته التي بدأت تدنو نحوها، فأجابت دون تفكير تلتفت له:

"أنتَ.!"

"أنا ؟"

كرر ورائها ثم وقف مُداعبًا خصلاتها بأنامل رقيقة رغم الرغبة الوحشية في أبصارهِ، فأرتجف جسده بإحتياجٍ ليقبض عنقها، بعنفٍ، ووحشية بربرية.

"من أنتَ يا چون ؟"

"زوجك.. سيدك.. مالكك، كُلها مُصطلحات تؤدي إلى نفسِ الحقيقة يا شرقية.. فأنتِ لي."

"أنا لكَ، في كل الأعوام الماضية أستطعتَ أن تجعلني أرسخ الحقيقة في عقلي جيدًا.. لكن.. هل أنتَ لي؟"

"قلبي لكِ وعقلي لديكِ.. وهذا كافي."

رمشت مُشوشة، فأمسك طرف فكها ورفع رأسها لتواجه أعينه الداكنة الخالية من الرغبة في الآذية المُطلقة:

"ما الذي تريديه يا لذة ؟"

"من أنتَ لي ؟"

رفع حاجبه الأيسر، ففسرت هازة رأسها بتوجسٍ من أحتمالية إغضابه:

"أجبتني بأنك لي الزوج والسيد والمالك لكياني، لكنني في الداخل،.. داخل صدري، تحديدًا عند مُهجتي الرقيقة التي لا تزال تنبُض بالحرية داخل قفصكَ.."

توحشت أبصاره قبيل إنهاء حروفها، فأمسكت طرف قميصه وبررت مُسرعة:

"لا تغضب مني! تسائلت حيال ما يدور في عقلي، فأطلعتكَ عليه دون تردد، وصدقني هذا ما سأفعله من الآن فصاعدًا، لن أكذب مُجددًا مهما كانت الحقيقة مُرة، لذا لا تغضب.! قلبي ملكك، أتفقنا سابقًا على هذا.. لكنكَ وهبتني رفاهية إما أن تكون فيه.. أو أن يكون خاليًا."

لازلت الوحشية طاغية في أبصارهِ عكس أنفاسه الهادئة، وبرغمِ ذلك لمْ يُجاهر بأفكارهِ المُظلمة حيالها.. لذا شددت يديها حول قميصه أكثر ترتجي منه الحنان واللين، فلعن تحت أنفاسه وسحبها لأحضانه مُهشمًا ضلوعها.

"آفةٌ عليّ أن أترك قلبك خاويًا كل هذا الوقت.. حقًا أنتِ زوجة مسكينة."

عضت وجنتاها من الداخلِ لتكبح ضحكتها المُتسربة بسبب الغيرة الواضحة في نبرته بعدها:

"لكن لا تخافي بيبي، فقريبًا.. سأجعل قلبكِ ملكًا لأطفالي، وبعدها سأسرقه لأنكِ لي أنا وحدي."

"لفة ثُعبانية مُتمكنة لأحتواء كياني."

"بل اللفة الثُعبانية هي تمويلكِ لي بالأسئلة، لتُحللي الماضي الذي تم إغلاق صفحاته، وكي لا أقتل الجميع بلذةٍ تامة، إياكي وأحياؤه."

شهقت وتملصت من بين ذراعيهِ، فقط لترفع رأسها بذهولٍ غير مُصدق:

"ستقتل الجميع إن ذكرتكَ بالماضي.!"

صر أسنانه وأهتاجت أنفاسه، وألهب العذاب عيناه، فظنت سيڤار أن الهياج بسبب الغضب.. لكن الألم، حرفيًا مزق كل ما خرج من رئتيهِ:

"أنا لمْ أنسى، ولا لوهلة واحدة، وجوه الجميع تُذكرني بما حل على نفسي وأهلي. لولا أنني الحاكم، المالك، والوريث الوحيد الذي ترجاه العجوز، لما ظل أحدهم على قيد الحياة."

"أنتَ تُحب جدكَ المتوفى حقًا.!"

"كان بصيص الدُهْمة في أعناق الظلام، الذي أنتشلني من الوحشية للقوة المُطلقة والسادية التامة لذا أجل.. أُقدر العجوز الميت."

أرتعدت بين ذراعيه من تعبيره السقيم، فأبتسم بأتساعٍ مُظلم زاد رعبها، وكاد ينحني على ثغرها لاثمًا إياه لولا مُجاهرتها بإخفاض رأسها.. تمنع نفسها عنه.

كانت أنفاسها مُهتاجة من الخوفِ وعيناها مُتسعة حول الأرض، فشدد كفيه حول ذراعيها، يغرز أظافره في بدنها، وكاد يُجبرها لكنهُ عوضًا عن ذلكَ، ثبتَ محله مُخففًا قبضته دون إيلامها ولا حتى تركها..

فهم أنها فقط في حاجة لفهم حروفه وأستيعابها، لذا وهبها دقائق سرقت من فؤاده البَهجة مُنتظرًا إفاقتها من وقعِ كلماتهِ..

تعبيره القاسي كان غريبًا مع تلكَ النظرة الخالية من الآدمية، حتى لهَا.. بعدمَا عاشرته فترة لا يستهان بها.

"أنتَ.."

ظنها ستقول وحش، لكنها خالفت توقعاته لأول مرة منذ زمن بعيد، وأعلنت بنبرة مُرتجفة:

"أنتَ تتألم.!"

تدريجيًا، بهتت وحشية أبصاره نسبيًا، فرفعت كفها المُرتجف وحاوطت وجنتاه. كانت مُتأكدة أن برد أصابعها كافي ليجعل أي شخص في حياتها ينفر، لكنهُ تركها تتحسس لحيته كما تبتغي، مُتلذذًا بلمستها في أعمق نقطة مدسوسة بين ضلوعه.

"ما الذي فعله الزمان بكَ.. ليجعلكَ هكذا..؟"

رفعت نفسها على أطرافِ أصابعها وناظرت عيناه، كان نافرًا جدًا تجاه مُحاولتها للولوج إلى روحهِ، ومُحاوطة كيانه بتلكَ الطريقة التي سببت هياج شياطينه وتهديد كُلي لكيانه السادي.. أراد إيذائها، ليجبرها على التراجع، كي لا تدلف روحه الحالكة، لأنها لن تجد سوى الخراب.. الدمار.. النفور.. الكره والسواد.. وحينها ستصل إلى أبشع بقعة من روحه.. ولن يستطيع حبه نجدتها.. لأنها لن تجده.

لكنهَا رحمته من الحربِ وعذابِها، وأغلقت عيناها تاركة وجهها أمامه، تمنحه الإشارة لأنعدام مُقاومتها ومنحها ما يريد من حقوقهِ بطواعية وحُب زوجة لزوجها، أرضاءًا لهُ بعد إمتثالها لأوامر الرب.

راقب چون وجهها المُتورد رغم جسدها البارد، وتلقائيًا أنخفضت عيناه الساهمة لثغرها المُتفرق ثمَ حمالة المنامة التي حقًا باتت عدوه بسبب أنزلاقها المُستمر كاشفة ما يفقده صوابه كل مرة..

أخفض أبصاره أعمق لمفاتنها الأنثوية البارزة يتفحصها بولعٍ، ثمَ رفعها مُجددًا لعيناها المُغلقة.

أضحى في صراعٍ مرير، كان يريدها.. حرفيًا يموت ليحصل عليها ولو بالعنفِ الذي عهد نفسه بعدم الولوج إليه وتلكَ الصغيرة الحسناء حقًا تُساعده.. لكنهُ ظل قلق حيال إيذائها.. فربمَا لن يستطيع منحها الأكتراث في حالتهِ الحالية..

سينهشها بمُنتهى الوحشية، ليداوي جروحه.

فتحت عيناها حين شعرت به يرتد عنها نقيض جسده الذي أرتعد من شدةِ الأحتياج لدفئها كأُنثى عن كونها مُجرد جسد أسفله، فمعها.. تدفىء قلبه بالحنينِ الذي يفتقده.. وعقله اللاواعي يُقدس أنوثتها وأمومتها معه قبيل الجميع..

"چــون..."

ألتفت لها بأعينه الداكنة وأنفاسه الهائجة. نظرته كانت عميقة رغم قُبحها فعلمت أنهُ لا يبكي.. على النقيضِ تمامًا، يُعبر عن أحزانه بنهشِ من حوله، وتحطيم عظامها كأعصار لا بصيرة له..

"أنـا لـكَ.. لستُ مُجرد زوجة ولمْ أعد آمتك."

سارت تجاهه وحاوطته أثناء إنحناءه فقط ليستنشق أنفاسها بوجعٍ، علها تمحي مرضه وسواده تمامًا.. حتى دموعها أنسدلت رفقةً بروحه المُحتجِزة في العتمة، تُريه أن كيانهُ المَجروح وصل لقلبها حتى وإن لم يُظهره، وردمه خلف ألف سد:

"لكنني وطنكَ.. صدقني.. لمْ تعد مُجرد عدو مُحتل على أرضي.. قُل ما تريد بلمساتكَ."

أمسكت قبضته ووضعتها عند الجهة اليسرى من قفصها الصدري، ثم قالت بعينين مُكترثتين:

"هذا النبض.. حقًا وفيًا لكَ."

راقب لمعة عيناها بمشاعرٍ لمْ تصلها، لكنها لمْ تكن وَحشية، قدرما كانت ضائعة، هائمة، وسابحة في متاهة لا نهاية لها، فأغلقت عيناها بإستسلامٍ آنثوي لدِن، بعدما شعرت به ينحني عليها أكثر:

"أريد أن أطربُ روحي بغناءِ بؤرة عيناكِ، فلا تسدلي ستار أهدابكِ عليها.. يا لذتي الوحيدة."

أبتسمت بإطمئنانٍ، وسلمته نفسها بروحٍ مُمتلئة، فأدفىء برودة جسدها، وأدفئت هي قلبه المُتجمد:

"Te iubesc." <أحبكِ>

قالها بلهاثٍ بينمَا يعتليها مُلقيًا منامتها فوق الأرض، فأغلقت حادقتاها وتركت روحها مُعلقة بين جسدهِ وخاصتها، وأكتفت بإبتسامتها الخجولة التي أحيت وجدانه.. وبددت أوجاعه.

"Te iubesc atat de mult"
<أحبكِ كثيرًا>

____________
_______

أشرقت شمس يوم جديد في إحدى البلاد العربية، وبرغمِ ذلكَ لا تزال القتامة قائمة في بعضِ النفوس..

وقوف كريس أمام قبرِ والدتها وجنازتها كان خير دليل على أختيارها في تلكَ الليلة.. فهي لمْ تعد القاصر الصغيرة التي أستغلها أليخاندرو.

بعد تلكَ الأعوام، بلغت، وفهمت جيدًا أن قوتها لن تهتز أمام الرجل الذي قتلت والده وشبابه فأقسم على الأنتقام بأبشعِ الطرق..

وبرغم حزنها، كانت قوية بما فيه الكفاية لتُستر دموعها خلف نظارتها المُعتمة، عكس ثغرها الوردي الجامد، حتى فستانها الأسود كان طويل بنفسِ علو رأسها للسماء.

لهذة الدرجة وصلت قوتها، لتقف في جنازة والدتها مرفوعة الرأس ولا تزرف سوى دموعًا صماء.. لا صوت لها ولا دليل مادي.

راقبها مينا بجمودٍ قاسٍ لمْ تعتاده سابقًا، وبات مُعتادًا لها الآن.

سلمت نفسها للجحيم فقط لتُرضي روح والدتها، بعدما وهبته ما يريد وتزوجته منذ لحظات في الكنيسة. كانت وحيدة كالعادة، ووالدها رفض الحضور أو النظر في وجهها ولو لثانية.

أرتدت فستانها الأسود ونظارتها الداكنة ووافقت على موتها بلا تردد.

هي قَتلت مرة وستقتل مُجددًا إن لزم الوضع..

فإن كان مينا قاسٍ.. فهي أصبحت مسخ.. لا يخاف ولمْ يعد يمتلك ما يبكي عليه..

تنازلت عن دمِ عذريتها، وقتلت، وزورت، وكذبت.. أحتالت ومكرت.. ففي النهاية.. ليست طير شهيّ ولا حتى مُستساغ.

يتبع..
***

أريد اسألكم سؤال مهم عن النهاية بالنسبة لكم.. برغمِ أن النهاية جاهزة فعليًا وأقتربت، لكن بتتوقعوا الحياة اللي عيشاها سيڤار حاليًا هي النهاية السعيدة اللي تبغوها؟ بترك الجواب لكم.♥️

والآن أي توقعات ؟ 🦋

أنتقادات أو ملاحظات ♥️

رحم الله أهلنا في الجزائر🥺
ودمتم سالمين 🍓

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top