(30)
#سيظل_عشقك_مرادي
الفصل الثلاثون
بقلم نهال عبد الواحد
الهدوء الذي يسبق العاصفة، كان آخر ما قالته زهرة، ربما تكون مجرد كلمات مأثورة، لكنها أنسب وصف وصفته لحالتها وللوضع الحالي بأكمله.
فمراد بعد زيارته إلى طبيب العظام تحددت له عملية جراحية وبدأ الجميع الانشغال في إعداداتها وصار هو محور الحديث والتفكير السائد، حتى أُجريت له العملية بالفعل وخرج من المشفى عائدًا لبيته.
ولا زلت العلاقة بينهما على وضعها، لا تتقدم أو تتأخر مما زاد العبء على عشق، لكنها لا زالت تتحمل ربما لأنه لا خيار آخر أمامها.
أما زهرة فقد صدق حدسها، فلم تعد تفهم شيئًا؛ فلم يعد ياسر كتابًا مفتوحًا لها بل صار أكثر غموضًا، كأنه تبدّل أو يخطط لشيءٍ ما، صارت أنفاسها تضيق بشدة وانتابتها الغصة دائمًا؛ أن انتهى نصيبها من الهناء والسعادة وحان موعد سداد الحساب! بالإضافة لأحواله الصحية المتغيرة لكنه لا يكترث.
وذات يوم وقد اجتمع الجميع بشقة عشق ومراد، فهاهو مراد قد نزع الجبيرة الأولى الخاصة بالعملية بعد شفاء جرحه وفك غرزه ووُضعت له جبيرة أخرى من الجبس.
كان جالسًا ممددًا ساقه المجبّرة أمامه وحوله زوجته، هشام، ياسر وزهرة، كانوا يتجاذبون أطراف الحديث بين حالة مراد التي تتحسن وبين الأحداث الجارية بالبلاد خاصةً بعد تنحّي مبارك عن منصب رئيس الجمهورية.
فتحدث هشام: مش عارف ليه مش حاسك متحمّس للثورة ولا لكل اللي وصلنا له؟ اوعى تكون فلول؟
فأومأ مراد بضيق: أهو ده بالظبط اللي خايف منه.
-خايف!
- الثورة نفسها كانت شيء عظيم بكل المقاييس، لكن كانت هتفضل كده لو ما كانش فيه تمييز، الناس اللي خرجت في المظاهرات كانت بتنادي عيش، حرية، عدالة اجتماعية، ودي حقوق عامة لا تخص فئات بعينها، يعني أي فرد من الشعب هي دي مطالبه بكل بساطة، الناس كانت خارجة كلها إيد واحدة، وارد إنك تتحيز لفكر معين أو شخصية معينة، لكن مش بشكل مطلق أبدًا، يعني أي حد يقدر ينقد أي حد، يقدر يلاقي فيه مميزات وعيوب، فلو ذكرت النظام القديم بالمساوئ فقط فهتكون شخص غير موضوعي، لكن لو قلت عجبني كذا لكن اعترضت على كذا وكذا فدي بحق أخلاق الشخص الموضوعي الثوري، اللي بيسعى لما هو أفضل من أجل الفائدة العامة ومصلحة الوطن، وليس من أجل مصلحة فكر بعينه عايز أظهره أو أدفنه...
بداية المسميات اللي ظاهرة دي ما هي إلا بداية انقسامات بين الناس بل ممكن تكون بين الأسرة الواحدة، أفراد تعادي بعض عشان مجرد وجهة نظر تخالف رأي الآخر.
فتدخلت زهرة قائلة: إي والله يا دكتور معك حق! مو بس نحكي رأينا بحرية إنما نحترم الرأي الآخر.
فتنهد مراد قائلًا: وده كمان في شيء يقلق، لا ده يخوّف! أنا فاكر كويس يوم ما رجعت، وشباب اللجان الشعبية اللي بيحموا الشارع صحيح كانوا حاجة تفرح، لكن بأه في نوع من انعدام الاحترام والأخلاق، لو شوفتوهم إزاي اتكلموا معايا واتطاولوا عليّ بدون أي احترام وطبعًا هيقولك إن هي دي الحرية، لكن دي مقدمة ما تسرش...
لو استمر الوضع كده، الأخلاق هتندثر وماحدش هيحترم حد ولو اعترضت هيقولك إن دي الحرية وقبل الثورة حاجة وبعدها حاجة تانية...
خايف أوي من مشاهد العنف اللي حصلت في الأيام اللي فاتت تتحول لمشاهد عادية ويبقى القتل والهرج والمرج أمر طبيعي ونعتاد عليه -صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم-
قالها متنهدًا وسكت فهمس الجالسون بالصلاة على الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لكن فجأة تحدث ياسر بتوتر: طب في موضوع مهم وأتمنى ما حدش يفهمني غلط.
فعقد هشام حاجبيه بدهشة قائلًا: نفهمك غلط!
فاستطرد ياسر بتردد: دلوقتي بعد خبر التنحي واللي مرّ عليه وقت، و خضوع الدولة تحت سيادة المجلس العسكري حتى لو بشكل مؤقت، فده لبداية عودة الإمساك بزمام الأمور، كلنا عارفين يا دكتور مراد إن مش كل اللي هرب من السجون هرب متعمّد، وإن في ناس كان من مصلحتها إثارة الخوف في نفوس الناس، إن حتى المسجونين هربوا من السجون وأقسام الشرطة اتحرقت واتنهبت والسلاح بأه مع شوية مجرمين...
وفي ناس تانية كان قصدها تخرّج ناس بعينها تخصها وهرّبت الباقي عشان يغطوا على نيتهم...
وهنا قاطعته عشق التي سُمع صوتها لأول مرة في هذا المجلس وتساءلت بريبة: تقصد إيه بكلامك ده يا ياسر؟
فابتلع ياسر ريقه وأكمل: من بعد الحكومة ما وقعت كلها والأمور بأت واضحة، وأصبح فيديوهات التعذيب وفضايح الداخلية تتنشر عادي في صفحات التواصل الاجتماعي، أنا عندي حساب على الفيس بوك وحساب على التويتر، وتابعت حكايات لناس كتير اتظلمت، وبصراحة قلدتهم ونشرت حكايتك يا مراد، وإنك اتحبست زور، حولت قضيتك لتريند، قدرت أتواصل مع شخصية مسؤولة...
إديتله تفاصيل عنك وعن حالتك الصحية الحالية وكونك عملت عملية، قالي إنك تقدر تسلّم نفسك ويتبحث في قضيتك وتاخد عفو، وبخصوص حالتك الصحية تقدر تقعد في مستشفى تبع السجن تكمل علاجك لحد...
فقاطعته عشق بصياح وثورة عارمة: لحد ما إيه؟ هو إيه؟! عايزه يروح لهم برجليه! ده راح بصحته ورجع بعد تلاتشر سنة حالته عاملة إزاي! عايزه يرجع للهم تاني!
أجابتها زهرة بهدوء: إهدي عشق يا قلبي، الأمور ما بتتاخد هيك.
- لا والله! ما هتقولي إيه! إن كان جوزك هو اللي قايل الكلام ده!
- ما بيصير هيك عشق، هو بالأخير خَيّك وغرضه المصلحة العامة.
فتحدث هشام: أنا شايف كده برضو يا عشق، ياسر اتصرف صح بصراحة.
فصاحت عشق مجددًا: لا والله!
فتنحنح مراد محملقًا لملامح ياسر المضطربة متابعًا: أنا كمان موافقه يا عشق، أنا مش هكمل حياتي هربان وقاعد في البيت بين أربع حيطان.
فازدادت ثورتها: لا لا، مش هيحصل! إيه كلكم اتفقتم عليّ! كلكم! وإنت بمنتهى البساطة عايز ترجع لهم تاني! ده إنت مشيت من هنا رجعت بعد تلاتشر سنة واحد تاني، هتمشي تاني وترجع إمتى؟ ولا ترجع عامل إزاي؟!
تنهد مراد واسترسل بهدوء: لا إله إلا الله! ده قدر ربنا وحكمه هنعترض!
وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، ربنا بيبتلي الإنسان بقدر ما يستطيع التحمل، لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها...
لازم نصبر ونحتسب وربنا قادر يبدلنا ويعوض علينا بالخير، رب الخير لا يأتي بخير.
فنهضت واقفة وبدأت دموعها تتساقط متحدثة بصوتٍ مختنق: آسفة، مش هقدر، أنا فاضل لي كام تلاتشر سنة في عمري عشان أضيعهم!
قالتها وانصرفت مسرعة للداخل يتعالى صوت انتحابها، فتنهد مراد بتثاقل مغمضًا عينيه قائلًا لزهرة: لو تسمحي تخشي معاها تهديها، هي ما تقصدش تطلع فيكِ بالطريقة دي.
فأجابت بهدوء: عشق بتكون أختي يااللي بحبها وبلتمسلها العذر، ومقدرة جدًا حالتها، لكن بعتذر منك ما فيني أحكي معها الآن ولا هي بحاجة لأي حدا يواسيها إلا إنت دكتور، عشق بحاجتك إنت وبس، هي ما عاد فيها تتحمل أكتر من هيك، الست لو مرئت بأي ظروف لحالها بتعتاد على هاد الإشي وما بيعني لها وجود أي شخص في حياتها مادام ما وقّف جنبها في الوقت يااللي عانت فيه.
فتابع هشام مؤيدًا لكلمات زهرة: وأنا بأيّدها يا مراد، مراتك الشيلة تقيلة أوي عليها ومحتجاك إنت بالتحديد اللي تكون جنبها مش حد تاني، وفي نفس الوقت بأيّد فكرة إنك تسلّم نفسك وإن شاء الله يحققوا معاك ويتأكدوا إنك برئ، بس لازم تلاقي طريقة تقنع مراتك بيها.
تابعت زهرة: بوافق على هاد الرأي، فيك تختلق طريقة تقنعها.
تحدث ياسر: شوف تروح امتى وآجي معاك ونقابل الراجل اللي كلمته عنك.
فأومأ مراد مومئًا برأسه...
وبعد انسحاب الجميع مغادرًا تحرّك مراد بعصاه رافعًا قدمه المجبّرة عن الأرض بطريقة تشبه الحجل على ساقه الأخرى، حتى وصل إلى حجرة النوم سامعًا صوت بكاءها مقطّعًا نياط قلبه.
دخل الحجرة وسار حتى وصل إلى الفراش المستلقية على وجهها فوقه تنتحب بشدة، جلس جوارها باحتراس، ربتّ عليها بهدوء وهمس: من فضلك إهدي، الموضوع ما يستحقش كل ده.
فهبت من فورها غاضبة وصاحت: ما يستحقش!
- أنا عارف إني تعبتك كتير بدل ما أريحك، عارف إن مش دي الحياة اللي تستحقيها، بس فعلًا مفيش غير الحل ده، ما أنا مش هكمل حياتي مستخبي!
فهمست بصوتٍ متحشرج: وتسيبني لمين؟ أنا حرفيًا ماليش حد غيرك، والله حاسة بيك! بس إنت لا، إنت حتى بعدتني عنك، ما خلتنيش جزء من حياتك، سيبتني لوحدي حتى وإنت جنبي، صحيح كنت بعيد لكن في الآخر مطمنة عليك أدامي وجنبي، عارفة إنك بتفضفض لهشام رغم إني اتمنيت أكون مكانه، اتمنيت أخدك في حضني ولا أنيمك على رجلي وتحكي، لكن عل الأقل كان في اللي تحكي له، لما تروح لهم هتحكي لمين؟
أطال النظر إلى آثار البكاء، عينيها المتورمتين وشفتيها المرتعشتين مع صوت شهقاتها المنبعث منها، فتحرك بهدوء منحنيًا نحوها في حركة فاجأتها نائمًا برأسه على ساقيها.
ظلت يداها جانبيها وعيناها محملقتين ربما تحاول استيعاب ما فعله، وربما تنتظر ردة فعله ريثما تتغير، لكنه ظلّ على وضعه بل أكثر أريحية، حرّكت يدها ببطء وتردد وبعد قليل وضعتها على رأسه وقد طال شعره.
حرّكت يدها وسط خصلات شعره المختلطة بالشعيرات البيضاء مخللة أصابع يدها بينها وممسّدة بيدها الأخرى، فابتسم بحالمية وهمس: كانت نومتي المفضلة على رجل أمي الله يرحمها!
فتابعت: عارفة أد إيه كنت بتحبها ومدى تأثيرها عليك، وأد إيه اتكسرت واتوجعت من ساعة وفاتها وسيطر عليك الافتقاد والوحدة الشديدة...
فقاطعها انتفاضته جالسًا ونظر إليها بفجأة فأكملت: عرفت من مذكراتك...
لما اتهد البيت ده واضطرينا نروح نقعد في بيت خالو الله يرحمه سيبت ماما وعشت في بيتنا لوحدي لحد ما الشقة دي خلصت،كنت قاعدة في أوضتك القديمة، أكتر وقت حسيت بروحك بترفرف حوليّ، جوة أوضتك، على فرشتك ووسط حاجاتك...
لاقيت المذكرات وفضلت أقرأ فيها وأعيدها لحد ما حفظتها، عرفت أكتر ما حكيت، يمكن فعلًا يكون مش من حقي، لكن ده كان سلوايّ الوحيد، عرفت عنك كتير، دخلت جواك وعرفت إزاي بتبص على اللي حواليك...
عرفت رأيك الحقيقي فيّ، إحساسك بيّ، أد إيه حبتني واتغلغلت جوة قلبك، قريت كلمة كلمة قلتها في حقي وحفظتها، واتخيلتك بتقولها، كأني سمعت صوتك وحسيت بحرارة كلامك حسيت بمسكة إيديك...
فقاطعها واضعًا سبابته على شفتيها فتوقفت واجمة محملقة في رماديتيه المحدقتين بها بحبٍ واضح، ثم همس: مش هتحتاجي تتخيلي ولا تقولي كأني بعد كده.
- يعني إنت بتحبني يا مراد؟
قالتها بتوسل فجذبها إليه على الفور وضمها بقوة كادت تدخلها داخل ضلوعه، ليكتشف فجأة أنه كان بحاجة لهذا العناق منذ سنواتٍ وسنوات، أغمض عينيه يستشعر السعادة والراحة، الراحة التي أظلتها أيضًا بمجرد إحاطته لها بين ذراعيه.
وبعد عناقٍ طويل ممتلئًا بأشواقٍ قد تأخرت عدة أسابيع منذ عودته أبعدها عنه قليلًا ثم مسح دمعها بيديه وهمس: بحبك! والله بحبك!
فعانقته هي هذه المرة وأجابته: ده أنت اللي حبيبي، حتى وإنت بعيد وبتقسى عليّ، وعمري لا حبيت ولا هحب غيرك...
وكأنها ألقت تعويذة قلبت الموقف رأسًا على عقب، فعلا صوت القلب وكانت له الغلبة، فكما يقال أن العالم قلبًا وقالبًا بإمكانه التغيير إن تغيرت القلوب وما فيها؛ فإن كان الجسم دولة فالقلب حاكمها وأميرها.
وقد تغير القلب وعاد لمنصبه وأمسك زمام الأمور بعد تنحّيه وعزلته، فألقى بأكوام همومه فجأة من فوق كتفيه ونحّاها جانبًا، ترك لقلبه القيادة وتوقف العقل عن التفكير، فلم يعد يسمع إلا كلماتها بصوتها المحبب يخالط دقات قلبها المتبعثرة بين ذراعيه، لتكون علامة واضحة لولاءها له وحده.
لم ينفي أبدًا الفوضى التي احتلته وبدأت تذهب برجاحته، كأنه تذكر فجأة أن له امرأة هي الحبيبة والزوجة، امرأة هي حلمه وأمنيته، عندما استجاب لوسوسات ذلك الشيطان المسمى بعلاء ليقينه أن عشق ليست كأي امرأة، بل هي حلم أي رجل وخاصةً رجل بعينه، لكن هاهي أعلنت عشقها، استسلامها وخضوعها له وحده.
أبعدها قليلًا وتأملها مجددًا محملقًا بكل إنشٍ فيها، فتعلقت عيناها بعينيه وتتفسّ كلاهما أنفاس الآخر، لتعلو أصواتٌ أخرى داخلهما وكأنهما قرينيهما الذئبين اللذين لا يعنيان إلا باللقاء المرتقب بين الرفيقين، أغمضت عينيها كأنما فهمت مقصده مطلقة علامة الترحيب والسعادة المطلقة، مشددة في عناقها له، عابثة في خصلات شعره بخفة، فاقترب ناثرًا قبلاته على كل إنشٍ في وجهها خاتمًا بخاتم ملكيته لهذه المرأة ليزداد غياب رجاحتهما مع انخراطهما في عالمهما الخاص واضعًا خاتم ملكيته مثبتًا بكل اللغات أن هذه المرأة هي له وزوجته مادامت الأنفاس حية بهما...
Noonazad 💕💓💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top