(3)

بقلم نهال عبد الواحد

أنهى زكريا مقالته مربتًا على كتفي ابنه برفق، فانسحب من أمامهما يملأه قهر وآلام مبرحة، تسع العالم ليتألم ويتجرع الهم والغم، أبعد كل هذا الحب والانتظار يعود بخفي حُنين؟ يظن أنه ملك كل شيء بينما فتح يده وجد نفسه قابضًا على الهواء! 

وفجأة قهقه بقوة كأنما يدفع بقهقهاته ما في صدره من أسى، قهر، مع خيبة أمل، أو ربما يدفع حبها ليخرج من صدره بصحبة قهقهاته فيستريح، رغب للحظات أن يظل يضحك ويضحك حتى لو انقلب العالم بأسره.

بتر قهقهاته، تمتم من داخله ءأدفع حبها ليخرج من صدري! لا ولن يحدث أبدًا ما حييت، إن خرج حبها من قلبي فلتخرج معه آخر أنفاسي، فهي عشقي وسيظل عشقها ومرادي، ستكوني لي، ستعودي لي...

كرر الأخيرة بداخله كثيرًا، قفز فجأة نحو فراشه كأن تيارًا كهربائيًا قد قذفه وأرهق قلبه من تسارع نبضاته، غط بعدها في نوم عميق...

هبت ماجدة قلقة عندما سمعت صوت قهقهات ابنها تصدع بالمكان، متجهة إليه فأمسك بها زوجها قائلًا: سيبيه يا ماجدة.

- انت مش سامع صوته عمال يضحك إزاي كأنه اتلطش في عقله!

- معلش، وجع القلوب مش بالساهل أبدًا.

- وكان لازم كسرة القلب دي يا زكريا!

- كل تعب نهايته راحة وفرحة كبيرة بس فيه دماغ ناشفة لازم تاخد خبطة جامدة عشان تفوق وتتعلم، وهو خد الخبطة دي فضروري يتوجع وبعد كده هيفوق ويبقى تمام، لكن الوهم والأمل الكدّاب اللي كان عايش فيهم ده ما ينفعش أبدًا، أهو سكت وشكله نام.

- ربنا يخفف عنك يابني ويقويك ويعوض عليك بالخير!

- أيوة كده ادعيله يا أم ياسر...

وبعد مرور بعض الوقت سُمع صوت صراخه فجأة، أسرع والديه نحو حجرته، وجداه جالسًا فوق فراشه بملابسه دون أن يبدلها، مثبتًا عينيه  على والديه، يستشعر العرق يتفصّد بقوة من خلايا جسده، أنفاسه متلاحقة يزفرها بجهدٍ كبير، ضربات قلبه المتسارعة لا زالت كالطبول.

هرب بعينيه عنهما، حدق بهما في الفراغ، كيف يشرح لكما أن الأمر ليس بتلك البساطة! خروجها من قلبه يعني خروج روحه معها.

وأخيرًا التفت مجددًا نحوهما لم ينتبه لكلماتهما القلقة عليه كأنما لا زال في كرى بين النوم واليقظان، تبدو أصواتهما متباعدة، وأخيرًا استوعب كلماتهما في الاطمئنان عليه، ابتسم بخفوت مربتًا عليهما دون أن يعقب، نهض متجهًا إلى الحمام ليبدل ملابسه المبتلة بعرقه.

مرت ليلة عصيبة على ثلاثتهم، بين قلق الأبوين ورجفة الابن، وأصبح صباح جديد، وُلد يومٍ جديد، تبدأ فيه آمال وتنتهي فيه أحلام كانت ككرة ثلج أذابتها أشعة الشمس.

فتّح عينيه، وجد نفسه لا زال في حجرته صادعًا جواره صوت المنبه، نهض جالسًا وأطفأه، انتبه لنفسه أن لا زال على قيد الحياة، ظن أن ليلته هي الأخيرة، لكنه لا زال  شاهدًا ميلاد يومٍ جديد، بل وُلد مع اليوم ياسرٌ جديد لا يشبه ياسر الأمس إلا في ملامحه.

صار أكثر غموضًا، قليل الكلام، ابتسامته لا تصل إلى عينيه، لم يعلق أبواه؛ فهي نتيجة طبيعية لحالته التي يحياها، ربما تطول حتى تثبت حالته ويتقبل واقعه.

مرت أيام ولم يعد هناك إلا ياسر الجديد، في حين أن عشق مشغولة بكتابة رغبات كليتها وانتظار التنسيق، وانشغالها بإعداد ملابسها الجديدة للذهاب إلى الجامعة.

وهاهو جاءها خطاب التنسيق بشرها برغبتها الأولى، أن التحقت بكلية التربية.

وذات يوم قرابة العصر، دلفت نبيلة وعشق شقتهما، عائدتان محملتان بعدد من الأكياس المكتوب عليها أسماء لمحلات للملابس الجاهزة وأخرى للأحذية وحقائب اليد النسائية.

وضعت نبيلة ما في يديها وألقت بجسدها الممتلئ على الأريكة محرّكة قدميها في مختلف الاتجاهات ببعض التأوه، بدأت تفك حجابها، أمسكت بجريدة موضوعة أمامها على المنضدة تحركها يمينًا ويسارًا لجلب بعض نسائم الهواء لوجهها اللامع من العرق.

بينما عشق تجمع أكياس المشتروات لتدخل بهم حجرتها، فصاحت فيها أمها: إستني عندك، قبل ما تخشي اعمليلي كوباية ليموناتة ساقعة.

- طب غيري هدومك الأول.

- يابت ريقي ناشف اخلصي، آه يآنا!

وهنا فُتح باب الشقة وكان سيد عائدًا من عمله توًا، دلف وجلس جوار زوجته بعد أن ألقى السلام سألها: مالك! تعبانة ولا إيه؟

أجابت: هلكت ورجلي اتفرمت من كتر اللف لحد ما جابت اللي هي عايزاه، كل الهدة دي عشان رايحة الجامعة! أمال لما تتجوز هتعمل فيّ إيه؟!

هنا اقتربت عشق واضعة كوب عصير الليمون على المنضدة أمام أمها قائلة بدعابة: هلففك برضو...

وضحكت، أخذ سيد كوب العصير، بدأ يشربه فازدادت ضحكاتها بينما علامات الغضب تعتلي وجه أمها وهي تنظر بينهما بغيظ.

انتهى سيد ووضع الكوب فارغًا وأهدر: تسلم إيديكِ يا قلب ابوكِ.

أجابت ضاحكة: تسلم يا بابا...

ثم نظرت لأمها ونهضت ضاحكة وتابعت: هعملك غيرها خلاص ما تزعليش يا بلبلة.

واقتربت قبّلتها بدلال، فأهدرت نبيلة: أيوة كلي بعقلي حلاوة يا ختي!

تابع سيد: سيبيها براحتها يا أم عشق، المهم جبتِ اللي نفسك فيه؟

تحركت عشق أحضرت أكياس المشتروات، أخرجت ما فيها تريه لأبيها، فابتسم قائلًا: مبروك عليكِ يا حبيبتي.

ثم قال: بس الهدوم دي مش ضيقة شوية!

أجابت: ما أنا بخس يا بابا، قللت أكلي وبعمل كل يوم التمرينات اللي بتيجي في صباح الخير يا مصر، وعبال ما تيجي الدراسة هكون خسيت والمقاس ظبط عليّ.

زفر بغيظ واستطرد: يا بنتي يعني قلتوا هتجيبوا جاهز ومش هتخيطوا عشان شرا العبد ولا تربيته، وجايين تشتروا لبس تلبسيه لما تخسي، عقل إيه ده!

ثم التفت لزوجته وأكمل: كنتِ فين وهي بتختار الكلام ده؟!

أجابت على مضض: هي بتسمع كلامي يعني! عمّالة أقولها إوعي تخسي إنتِ كده قمر، وشك هيبوظ لما يخس، مفيش فايدة!

تنهد سيد بقلة حيلة ثم قال: طب مش آن الأوان وتتحجبي بأه، أديكِ داخلة الجامعة اهو.

طأطأت رأسها وأجابت بتردد: بس أنا يا بابا لسه مش مستعدة له دلوقتي، يعني أدام شوية.

- ده فرض ربنا مش بمزاجي ولا مزاجك، بس هطوّل بالي عليكِ شوية كمان، بس أتمنى إنك ما تضطرينيش اجبرك.

أومأت برأسها موافقة، فتابعت نبيلة: سيبيها شوية يا راجل دي لسه صغيرة، ده انا يادوب لسه لابساه من كام سنة بس، ما تكبسش على نفسها وخليها تعيش سنها.

تنهد قائلًا: كان جهل يا نبيلة، كان جهل، ومش عايزين نكرره مع بنتنا، وبلاش تتخني ودنها.

تابعت عشق: إطمن يا بابا، هلبسه ماتقلقش.

أومأ برأسه قائلًا: ربنا يهديكِ!

ثم لمح شيئًا في يدها، فتساءل: إيه اللي معاكِ ده؟!

ارتبكت قليلًا وأجابت: ده... ده...  ده شريط محمد فؤاد الجديد.

زفر قائلًا: ويطلع مين؟!

-ده اللي بيقول فاكرك يا ناسيني.

- أغاني برضو يا عشق!

- وفيها إيه يا بابا، ما كل البنات بتعمل كده!

تأفف ونهض واقفًا وأهدر: ربنا يهديكِ!

ثم التفت نحو زوجته وقال: أنزل اجيب أكل سريع عشان جاية مرهقة!

أجابت وهي تنهض واقفة: لا يا خويا، عاملة الغدا قبل ما أنزل، فاضل الرز بس، روحي يا عشق فلفلي الرز.

صاحت بعدم رضا: نعم!

صاحت فيها أمها: إيه بتقولي حاجة!

- خلاص يا ماما هعمله.

اقتربت منها هامسة: مارضتش أقوله على شريط الرقص اللي جايباه.

فأجابت هامسة: ده حكيم يا ماما.

- لايميها بأه بدل ماابوكِ يوديكِ للحكيم عشان يجبسك.

نظر بينهما سيد وتساءل: في إيه؟

أجابت نبيلة: ولا حاجة يا خويا، بقولها ما تشيطش الرز، وما تنساش تحط حتة سمنة فلاحي على وش الحلة قبل ما تطفي.

ثم قالت: خلي الواحد يتغدى ويقيل شوية عشان نعرف نسهر بليل على حفلة ليالي التليفزيون.

زفر سيد واتجه لحجرته متمتمًا: أشكو إليك!

هكذا تعيش عشق حياتها بتلقائية، لا تنظر خلفها، فلم يكن هناك شيئًا أمام عينيها من الأساس لتراه أو تحاول قراءة ما بين سطوره، فقط تخطو خطواتها نحو حياتها الجامعية، بناء مستقبلها، إثبات ذاتها، لم تطوق نفسها لأي حب أو للقاء فارس أحلامها، بل لم تضع هذا الأمر من الأساس على قائمة أهدافها، اكتفت أن يكون نصيبها من العشق هو إسمها.

التحقت بقسم اللغة العربية بالكلية، لم تكن طالبة متميزة، لكنها كانت تستمتع بحياتها الجامعية بصحبة زملاء وصديقات جدد.

مر العام الأول و الثاني، بدت حياتها مستقرة لا شيء يؤرقها أو يشغلها، وهاهي على مشارف العام الثالث في الجامعة، بدأت تحسب كم متبقٍّ لها لتنتهي من العامين الباقيين، وحينًا لا تأبه لتلك الفكرة؛ فلتستمع بهذه الفترة التي لن تعود، وإن كانت مهام دراستها كثيرًا ما تؤرقها فتدفعها للتذمر وتمني الانتهاء مجددًا.

في حين أن ياسر أصبح لا يُرى إلا نادرًا في بعض التجمعات الأسرية أو المناسبات، لكنه سرعان ما يختفي من المجلس بحجة انشغاله، لم يتوقف أحدهم حول تصرفاته، هو حتمًا يبني مستقبله مغرقًا نفسه في العمل، ما بين العمل في البنك والعمل في مجال المقاولات الذي بالفعل بدأ ينتعش بشكل ملحوظ.

ورغم هدوءه ونضجه الواضح إلا أن أبيه لمح انطفاءة في عينيه، مؤكد أنها بسبب فقدانه حبه المزعوم، أو كونه قد صار أكثر عملية عن ذي قبل، لكنه لن يجبره على الزواج بأخرى بل ترك له الأمر وقتما شاء، لكنه يعاني من مفاوضات كثيرة مع زوجته ليجعلها تنفض فكرة جلب عرائس لابنها؛ هو قطعًا لن يتزوج بهذه الطريقة!

لكن ما لم يعرفه أحد أنه لم يفقد سوى بريق الحب، أما عشق فلا زالت داخله، لكن داخل عقله، ربما لا زال يقنع نفسه أنها بداخل قلبه.

صحيح أنه مختفي من حياتها بشكل ملحوظ، وكم هو مؤلم عدم اكتراثها لذلك!  لكنه لم يخفيها من حياته مثلما أخفى سيرتها على لسانه، كان متابعًا لها طوال الوقت، يتفقد خطواتها وحياتها الجامعية عن بعد، حتى إنه ليتفقد أصدقائها، رغم أن علاقتها بزملاءها الشباب لا تتجاوز حد الزمالة والتجمع من أجل تصوير بعض الملزمات والمراجع.

هي كما هي بنفس نقائها، هدوءها، كم مريحًا أن قلبها لا زال في طي النسيان لم يتحرك عن نبضاته الحياتية التقليدية، فقط ملامحها صارت أكثر جمالًا كلما ابتعدت عن مرحلة المراهقة، وأيضًا بعد نجاحها المبهر في إنقاص وزنها.

بقدر ما يسعده هذا الهدوء والثبات، بقدر ما يحزنه أن بعاده لم يؤثر بها.

وذات يوم تأخرت عشق في استيقاظها، ومنه تأخرت عن موعد محاضرتها، وصلت إلى قاعة المحاضرات، وجدت الباب مغلقًا رغم كونها أول محاضرة لهذه المادة هذا العام.

تلفتت حولها، لمحت عددًا من الطلاب مما شجعها على محاولة دخول المحاضرة، طرقت الباب مرة، اثنان، ثلاثة... عشرة، لكنها لم تجد أي إجابة، تجرأت وأمسكت بمقبض الباب أدارته، فُتح، اقتحمت دالفة وخلفها زملاءها...

لكنها تفاجأت بصياحٍ رجَّ المكان في وجهها: إيه قلة الذوق دي! مين أذنلك تفتحي وتدخلي؟! موعد المحاضرة الساعة عشرة بالظبط مش بعمل استثناء إلا لمحاضرات الساعة تمانية، خصوصًا للمغتربين عشان لو القطر اتأخر، لكن دي محاضرة الساعة عشرة وشكل سيادتكم من هنا.

قالت عشق مطأطأة الرأس بصوتٍ مرتعش يعلن عن انفجارها باكية في غضون لحظات: آسفة بس راحت عليّ نومة.

فتابع بصياح: والمفروض آجي أصحي معاليكم! وإيه الخبط ده كله! ضيعتم وقتي ووقت زمايلكم، اتفضلوا... بره!

خرج الجميع مسرعًا بعيدًا عن انفجار هذا الدكتور الغاضب، بينما عشق انتحبت بحرقة جالسة على درجات سلم الجامعة، كفكفت دمعها وبعدها انطلقت عائدة إلى البيت، وطوال الطريق لا زالت تلازمها الشهقات ملتصقة بأهدابها أثار الدمعات، يظن الرائي لها أن أصابها أمر جلل، ربما فاجعة أو كارثة وليس مجرد صياح وتأنيب!

Noonazad     💕💗💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top