(28)
#سيظل_عشقك_مرادي
الفصل الثامن و العشرون
بقلم نهال عبد الواحد
وبعد مرور ما يقارب ساعتين رنَّ جرس الباب، نهضت زهرة مسرعة فاتحة الباب وكان هشام، دخل حاملًا في يديه حقيبتين وضعهما على أقرب منضدة.
نهضت عشق بإرهاقٍ تستقبله، فتفقد ملامح وجهها المرهقة بل والدالة على فقدها لبعض وزنها، فتساءل بقلق: في إيه مالك؟ إنت عاملة كده ليه؟ إنتِ تعبانة؟
تحدثت زهرة بهدوء: فيك تتفضل يا دكتور بهدوء ورح نحكي كل شي.
- مين اللي تعبان ومحتاج كل الإسعافات دي؟
أجابت عشق بصوتٍ مختنق: مراد!
وجم هشام واتسعت عيناه وكرر بفجأة: مراد!
ثم سألها متهللًا: هو رجع؟
أومأت عشق برأسها أن نعم قائلة: أيوة داخل في أسبوع.
- وما تقوليش!
- اتلهيت ولسه خاطر ببالي من شوية.
- طب وكان فين طول السنين دي كلها؟ وعامل إيه؟ وهو فين أصلًا؟
قالها هشام ونهض واقفًا يتلفت، فأجابت عشق ببؤس: أنا ما أعرفش أي حاجة!
- إزاي الكلام ده؟
فبكت عشق فأكملت زهرة: هاد ياللي بالداخل مو مراد ياللي بتعرفوه، هاد شخص جديد، واضح قدر معاناته طول السنين، هو متحفظ كتير مع مرته، ما بيحكي معها ولا تعرف عنه أي شي، وفي نفس الوقت هي بدها تساعده، فكرنا إنك عن جاد أقرب شخص لإله، فيه يحكيلك عن كل دواخله وفيك تخفف عنه وكمان فيك تعالجه لأن صحته أكيد تعبانة كتير، ولأننا ما بنعرف من شو بيعاني بالضبط طلبنا منك تحضر كل إشي وتفحصه وتعرف بنفسك لشو محتاج.
فقال هشام بحماس: طب أرجوكِ عايز أشوفه.
كفكفت عشق دمعها و تحركت متجهة نحو حجرة نومهما وخلفها هشام حاملًا الحقيبتين، وبمجرد اقترابها من باب الحجرة وطرقها للباب أتى صوت صياحه من الداخل: قلتلك عايز أكون لوحدي!
لكن هشام لم ينتظر وفتح الباب داخلًا إليه، وضع ما في يديه أرضًا وأسرع نحو مراد الذي نهض مسرعًا، تعانقا عناقًا حارًّا فانسحبت عشق وأغلقت الباب عليهما، وبعد فترة من العناق، البكاء والسلامات الحارة جلس مراد بتعب وأمامه جلس هشام الذي تفقده بكلتا عينيه بحزنٍ شديد، فسأله مراد: قالتلك إيه عني؟
-هي مين دي؟ مراتك!
-أيوة.
قالها مراد بتثاقل، فأجاب هشام: لا مالكش حق يا مراد، ليه بتعاملها كده؟ هي اتصلت بي واتفاجئت لما وصلت إنك رجعت، بس المفاجأة الأكبر طريقتك في الرد عليها!
ليه كده يا مراد؟ مراتك ما تستحقش منك كده أبدًا! دي فضلت صابرة ومستنية، كلنا كنا فقدنا الأمل في رجوعك وهي الوحيدة اللي كان عندها الأمل ده لدرجة اليقين.
- أنا تعبان أوي يا هشام، خدني من هنا في أي حتة بعيد.
- أخدك فين؟ ده بيتك! ولو عايز ترجع شقتك قولّها وهي مش هتعترض أبدًا، بس عل الأقل لما الأوضاع تهدا، دلوقتي صعب إنكم تعزلوا غير الحظر، مالك يا خويا! افتح قلبك وقل لي مالك؟
- أنا اتحبست ظلم، لفقولي تهمة زور، اتعذبت أبشع عذاب واتهنت واتشتمت من غير ما أعمل أي حاجة...
ثم بكا بحرقة وبعدها أكمل: وأكتر حاجة وجعتني، إن الإنسانة الوحيدة اللي اختارتها تطلع هي السبب في اللي جرالي بالاتفاق مع ابن خالها!
- إيه الكلام الفارغ ده!
مين اللي دخّل الكلام ده في مخك؟!
- هو، علاء الزيني، ما هو السبب في اللي حصل لي، طول عمره بيكرهني ووصله كرهه إنه يعمل كده.
- علاء الزيني مين؟ اللي هو علاء الزيني بتاع أمن الدولة!
فأومأ مراد فأكمل هشام: يا بني الداخلية كلها وقعت وخصوصًا بتوع أمن الدولة دول، وظهروا على حقيقتهم ونظام الدرتي وورك بتاعهم، ياما نفسي يتقبض على كل واحد انتهك حرمة الناس واستغل منصبه في أذية الخلق...
وبعدين تعالى هنا يا محترم، إزاي تصدق واحد بتقول عنه إنه بيكرهك وملفقلك تهمة زور؟!
- أمال مين اللي دخل الشقة وعمل كده غيرها؟
- ده إنت مصدق بجد بأه؟!
- أنا بآلي تلاتاشر سنة مستني اللحظة اللي أخرج منها م السجن عشان أنتقم منهم هم الاتنين، ومش مهم أي حاجة بعد كده، وأول ما وصلت هنا وشفتهم مع بعض وشوفت الولدين، كنت بحسبهم ولادهم، فكرت أضربهم بالعصاية اللي معايا لحد ما يموتوا، ما كانش معايا سلاح تاني، لكن اتخشبت مكاني وماقدرتش أعمل حاجة.
- لا إله إلا الله!
طب مش هعلق على تفكيرك المهبب ده، طب بعد ما اتأكدت إنها كانت مستنياك وإن الولدين دول ولاد ياسر وزهرة، ما رجعتش لعقلك ليه؟
- مش قادر يا هشام، صعب بعد السنين دي كلها أتغير فجأة! أنا تعبان، خربان، ما بآتش نافع، اللي أدامك ده بقايا إنسان، أو مش إنسان بعد كل التعذيب اللي شوفته، مش عايز أشوف حد ولا أقعد مع حد.
- تبقى إنت لسه في سجنك وما خرجتش لسه يا مراد!
بس انت كنت فين؟ ده احنا قلبنا عليك الدنيا وكأنك فص ملح وداب!
- ما أعرفش، كان بيغير مكاني كل شوية وساعة التنقل من مكان لمكان كانوا بيغموا عيني فمعرفش حاجة، لحد ما روحت المكان اللي كنت فيه، قعدت فيه من فترة مش عارف من امتى، بطلت أحسب من زمان، ما كل الأيام شبه بعض، والليل شبه النهار وكله محصّل بعضه، لحد ما في يوم سمعت دوشة وضرب نار كتير ما أهتمتش، قلت في عقل بالي لو قرروا يموتونا يكون أحسن م الذل والتعذيب اللي احنا فيه، لكني فوجئت بناس ملثمة بتكسر علينا السجون وبتخرّجنا بعد ما قتلوا ظباط السجن وعساكره، أو يمكن منهم ناس هربت، كنت زي اللي حد سايقه، خرجت وسط الناس من غير هدف، من غير ما أعرف رايحين فين ولا ازاي! زي ما مشوا مشيت معاهم، يمشوا بأه ولا يركبوا كنت معاهم، لحد ما واحد سألني أنا منين، قلتله من اسكندرية، اتعامل معايا على إني راجل عجوز ووصلني.
- حمد الله على سلامتك! المهم طمني على صحتك، أنا هعملك فحص شامل، بس نبدأ الأول بالكشف الظاهري.
- ضهري متبهدل يا هشام، شوف لي صرفة فيه، بموت م الوجع...
قالها مراد محاولًا خلع سترته العلوية فاقترب هشام مساعدًا له باحتراس خاصةً وهو يراه متوجعًا بشدة، ثم استلقى مراد على بطنه ليرى هشام أبشع مشهد لم يخطر له على بال، ظهر مشوه ملئ بالجروح القطعية المختلفة الطول والعمق، وأغلبها متقيحة.
انهمرت دموع هشام لما آل إليه حال أخيه، بدأ بوضع الأدوات الطبية داخل جهاز التعقيم المعدني، ارتدى قفازت طبية وبدأ بعملية تنظيف وتعقيم هذه الجروح وسط تأوهات وأنين مراد.
مرت ساعة واثنان والثالثة تقارب الانتهاء، وكلما اقتربت عشق من باب الحجرة لا تسمع إلا صوت آهات مراد فتبكي بحرقة، فتقوم زهرة بجذبها بعيدًا عن الحجرة مربتة عليها لتهدأ.
ظل الوضع هكذا حتى سُمع صوت فتح الباب فانتفضت زهرة وعشق واقفتين، خرج هشام من الحجرة وأغلق الباب خلفه، تحرك متعبًا وألقى بجسده على أحد الكراسي بإنهاك، فأسرعت عشق قائلة: إيه كل ده!
فأجابها بإرهاقٍ وأسى: ضهره متقطع!
فضربت عشق صدرها بقوة مع شهقة مدوية ثم جلست بتباطؤ، فقالت زهرة: متل ما اتوقعت.
فتنهد هشام وقال بقهر: كنت بسمع عن التعذيب لكن عمري ما تصورت بشاعة بالشكل ده، صدره في آثار حرق كمان بس اللي في ضهره أشد بكتير، وعشان كده خدت وقت لحد ما نضفت كله، وإن شاء الله مع العلاج والغذا الجيد هتبني أنسجة وتقفل الجروح دي كلها، بس هتترك ندبات.
فقالت زهرة بشرود: زبانية السجون ما بيختلفوا من مكان لمكان، مهما اختلفت جنسياتهم بيضلوا بنفس بشاعتهن، ما إلهم علاقة بأي إنسانية.
فتساءلت عشق بلهفة: وطب وهو لسه بيتوجع؟
فأجاب هشام: هو خِلِص، أول ما خلصت إديته حقنة مسكن قوية ومضاد حيوي فراح في النوم، وكويس إن بكرة الجمعة، هقعد معاه أول يومين وبعد كده هروح وآجي عليه، أنا كلمت الجماعة عندي والحمد لله إنها كانت رايحة عند أهلها إنهاردة فخليتها تبات هي والولاد.
أومأت عشق برأسها فأكمل هشام: كده فاضل يوم السبت إن شاء الله قبل ما أروح المستشفى الصبح هاخد منه عينات للمعمل، هعمله فحوصات شاملة، عل أغلب في مشاكل في وظائف الكلى وأكيد فيه أنيميا وهشوف باقي التحاليل نظامها إيه وهعرضها على دكاترة متخصصين وربنا يكتبله الشفاء.
فتساءلت عشق: طب ورجله؟
فأجاب: ده كسر ولَحَم غلط وده غالبًا هيحتاج جراحة عشان يلحم صح، لكن عل أغلب هتفضل العرجة دي، لكن عل أقل هتكون من غير الوجع اللي حاسس بيه دلوقتي.
فازدادت عشق بكاءها وتمتمت وسط شهقاتها: وأنا من أنانيتي كنت زعلانة من معاملته وبغبائي ما شوفتش كل الوجع اللي هو فيه! وهو يا حبيبي متحمل حمل جبال!
فربتت عليها زهرة تهدئها قائلة: إهدي حبيبتي! وانت شو اللي كان طالع معك؟ المهم هالحين إنه رح يتعالج ويصير في أحسن حال.
فنهض هشام واقفًا وقال: هدخل معاه جوة، معلش بأه يا عشق هتضطري تستضيفيني اليومين دول.
أجابت وسط شهقاتها: أهلًا وسهلًا ما تقولش كده.
فتحدثت زهرة: منيح إني حكيت لماما تسوي الغدا، رح روح وأجيب الغدا.
فقال هشام: لا لا لا، أنا هخش أريح جنب مراد، تعبت وأرهقت جدًا، ولما يقوم أبقى آكل معاه.
أومأت عشق برأسها سامحة له بمعاودة الدخول للحجرة عند زوجها، بينما أكملت هي بكاءها، فاتصلت زهرة بأمها وطلبت منها إرسال الولدين للمكوث مع عشق من أجل تسليتها والتخفيف عنها من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى لا تكون وحدها بالبيت في وجود رجل غريب.
مر اليومان وعشق ممنوعة من الدخول لحجرة النوم لرؤية زوجها، فقط تطرق الباب فيفتح هشام آخذًا منها صينية الطعام أو الشراب وبعد الانتهاء يفتح ويضعها أمام الباب بناءً على أوامر مراد بعدم دخولها؛ فلا يرغب في رؤيتها له فى هذه الحالة، ويظل هشام بالداخل مع مراد طوال الوقت خاصةً مع وجود حمام خاص بالحجرة.
كادت عشق أن تُجن من أوامره المتعنتة، اشتاقت له وتريد رؤيته والاطمئنان عليه ولا يكفيها مجرد سؤال هشام، ربما لهّاها بحق وجود مراد وعبدالله الصغيرين، لكن بالطبع ليس تمامًا.
وجاء يوم السبت وقد ذهب هشام يومها إلى عمله صباحًا بعد أن ترك ورقة على باب الحجرة بعدم دخول عشق وأنه قد أعد لمراد الإفطار قبل الذهاب مما زاد من حنقها؛ فهي زوجته والأولى أن تكون معه تمرّضه وتخدمه في أدق أموره، فلماذا يصر على رفضها وإبعادها؟
جلست عشق منتظرة عودة هشام من العمل عازمة على الدخول إلى زوجها مهما كلفها الأمر، وما أن دخل حتى قالت بقهر: ينفع كده يا هشام! بأه بتمنعني من الدخول على جوزي!
- غصب عني والله! هو مأكد أخليكِ ما تخشيش.
- يعني إيه! هفضل قاعدة كده!
أرجوك يا هشام، مش قادرة أتحمل أكتر من كده، يومين كاملين في حالته دي ومش عايزيني أدخله وأشوفه! عايزة أطمن عليه.
- صعب يا عشق، مش هتقدري.
- لا هقدر ما لكش دعوة، أرجوك ده وحشني أوي!
قالتها عشق بتوسل، فلم يجد هشام بدًا إلا وأشار إليها أن تتبعه، فطرق هشام عدة طرقات وصاح: مراد! إنت صاحي؟
فأجاب من الداخل: أيوة ادخل يا هشام.
وقبل أن ينهي جملته أسرعت عشق فاتحة باب الحجرة مندفعة بسرعة إلى داخل الحجرة، لكن ما أو وقعت عيناها على ظهره المكشوف وهو نائمًا على بطنه حتى شهقت بقوة وخارت قواها فجأة، وقبل أن تسقط أرضًا لحقها هشام وأسندها بذراعيه حتى الفراش جوار مراد، والذي انتفض جالسًا عندما رأي حالتها المنهكة لدرجة سقوطها، لكن أكثر ما لفت انتباهه هو أن لحقها هشام ممسكًا لها من ذراعيها وأسندها حتى الفراش.
وبمجرد استردادها لوعيها حتى صرخ فيها: إنتِ إيه اللي جابك هنا؟ مفيش سمعان كلام ليه؟! قلت ما تدخليش يبقى ما تدخليش! اتفضلي من هنا، يلا!
تفاجأت عشق بردة فعله المبالغ فيها، نهضت واقفة وتحركت متجهة للخارج بترنح وعيناها تزرفان دمعًا متواصلًا، تابعها هشام بعينيه بحزن وتحرك خلفها ليلحق بإمساكها إن عاودها الدوار فصاح فيه مراد: هشام! سيبها!
وبعد أن خرجت وأغلق هشام الباب، اقترب وصاح في مراد: إيه ده يا مراد! في حد يعمل كده! البنية هتموت م القلق عليك وشكلها ما بتكلش وعدمت، تقوم لما تدوخ وتقع من طولها تزعأ فيها وتطردها كده!
- وانت مالك! ومين قالك تدخلها ولا مين سمحلك تسندها؟
- ما هي داخت أدامك، أسيبها تقع عل أرض يعني؟
- آه سيبها، تقع أحسن ما واحد غريب يلمسها!
ثم قال: ويا ترى الموقف ده اتكرر في غيابي؟
- جرى إيه يا مراد! ما تتكلم عدل! إنت نسيت أخوك ولا إيه! مراتك دي مرات أخويا! أختي الصغيرة! يعني مسؤولة مني، وافتكر إنك عارف أخلاقي كويس وإني راجل محترم وملتزم وبحب مراتي وبيتي.وقبل كل حاجة بخاف ربنا.
فزفر مراد ولم يعقب، أطال هشام النظر إليه ثم ابتسم قائلًا مغيرًا الموقف: طب ما إنت حلو وبتغير أهو!
- غيرة إيه وكلام فاضي إيه! دي مراتي يعني ما ينفعش أي حد مهما كان يحط إيده عليها ولا حتى يسندها.
- ماشي يا عم ما اختلفناش، بس ده يمنع إنك بتغير عليها! يعني بتحبها! يا أخي قول وما تتكسفش مش هفتن عليك وأروح أقول على آخر الزمن واحد بيغير على مراته!
- بطل تهريج!
- ماشي يا مراد! بس أنا جاي أطمن عليك ومروح بيتي.
- ليه كده؟!
- ليه إيه؟ إنت اشترتني يا جدع إنت ولا إيه! جروحك الحمد لله اتحسنت وما بآتش تقلق، كُل كويس زي ما قلتلك عشان الأنسجة تبني، وبعدين كفاياني شحططة، مراتي وولادي وحشوني، ذنبي إيه في النومة العُذّابي دي! وكمان مصحيني قبل معادي عشان أحضر لمعاليك الفطار قبل ما أروح الشغل اللي أصلًا نازل بدري عشان أروح البيت أغير هدومي الأول، يا بني أنا بقوم على ميعادي بلاقي هدومي وفطاري جاهزين مش بعمل لنفسي حاجة، وفوقيهم كام بوسة وشوية دلع.
زفر مراد مجددًا ولم يعقب، فأكمل هشام: مراد! آن الأوان تخرج من السجن قلبًا وقالبًا، حس بحياتك وعيشها، إنت خرجت من السجن لكن فكرك وإحساسك لسه مسجون، أرجوك حررهم وحس بحريتك، إديها فرصة تقف جنبك تطمنك وتطمنها...
Noonazad 💕💖💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top