(24)

#سيظل_عشقك_مرادي

الفصل الرابع و العشرون

بقلم نهال عبد الواحد

عادت عشق عملها وانتظمت فيه بعد استقرار حالتها الصحية تمامًا، ترددت قليلًا في مفاتحة زهرة في طلب ياسر لكنه فاجأها بإلحاحه وكثرة تساؤلاته حول هذا الأمر، حتى عرضت عليها الأمر وطلبت منها زهرة وقتًا كمهلة للتفكير.

وبعد أسبوع بلّغتها زهرة بأنهما في انتظارهما يوم الجمعة القادم، تفاجأت عشق بسعادته الغامرة التي ارتسمت في كل إنشٍ من ملامحه، وبالفعل ذهب ياسر بصحبة عشق إلى بيت زهرة وأمها وبالطبع حاملًا معه من الحلوى والورود كالمعتاد في مثل هذه المناسبة.

جلس أربعتهم يتحدثون أحاديثًا عادية حتى أومأ ياسر لابنة عمته بطرف عينه مشيرًا لها لتفتح الموضوع سبب الزيارة الرئيسي، فتنحنحت عشق وقالت: زي ما حضراتكم عارفين السبب الأساسي في تواجدنا اليوم، وانتم حددتم الموعد ده بدون ما تقولوا أي شيء آخر.

تحدثت وداد بلطف: بصراحة ياسر من أول مرة اتقابلنا وحكينا مع بعض وحسيت إنه متل ابني تمام مو بس مشان على اسم الغالي الله يرحمه، لكن هيك حسيت عن جد.

فأجاب ياسر على استحياء: والله حضرتك القلوب عند بعضها! وأنا قلت لحضرتك فعلًا إني حسيتك زي المرحومة أمي وعمتي، حتى لو لسه ما أخدتوش قرار تقدروا تسألوني عن أي حاجة وانا تحت أمركم.

تابعت وداد: يا ابني إذا ما كان في قبول ما كنا سمحنا بالمقابلة بالبيت عنا.

اتسعت ابتسامة ياسر واحتلت كل ملامحه لدرجة أن وجمت عشق من قدر سعادته ثم ابتسمت بفرحة مستمعة إلى كلماته المتلاحقة بدون ترتيب من فرط سعادته: طب مادام كده، أنا تحت أمركم في أي طلبات تطلبوها، أنا مش عارف عادات الجواز عندكم ايه لكن أنا تحت أمركم، الشقة اللي انا فيها أصلًا جديدة كلها وأنا مش قاعد فيها، يادوب وقت النوم بس، لكن هغير أوضة النوم، وأي حاجة في الشقة عايزين تغيروها أنا تحت أمركم طبعًا، في كمان...

فقاطعته وداد: إهدى شوية يا ابني، ما حدا فتح سيرة الماديات، دي بتكون آخر شي نهتم فيه وعمره ما يكون مصدر خلاف أبدًا.

فقال: طيب أنا تحت أمركم.

وهنا تحدثت زهرة بثبات بعد صمتٍ طويل: متل ما ماما حكت، نحنا ما بيهمنا الماديات والأثاث ولا أي إشي، ما بيفرق معي بيت كبير أو صغير ولا كل هيك شغلات.

فسألها ياسر بوله: أمال يفرق معاكِ إيه؟!

ارتبكت قليلًا من طريقته، ابتلعت ريقها بهدوء محاولة استمرار ثباتها قائلة: أنا لي شرط مهم وضروري...

- تحت أمرك برضو.

- إذا بتسمح اتركني أكمل حكي، أهم شرط عندي وما بقبل أي تهاون فيه حتى لو اتزوجنا لخمسين سنة، هو الخيانة، ما بسامح فيها بنوب!

- وأنا عمري ما أخونك أو أفكر في أي واحدة غيرك، أنا عمري ما كان لي أي علاقات مع أي واحدة، هو شغلي وبس، وتقدري تسألي عشق!

فتابعت عشق: في الحقيقة ياسر عمره ما كان بتاع بنات، ده من سنين وهو شغال بين البنك وشغل المقاولات، حتى أيام خالو وطنط ما كانوا عايشين كانوا بيشتكوا من انشغاله المستمر!

فقالت زهرة: ما حزرتم شو بقصد! مو هيك الخيانة ياللي بقصدها، لأنه ببساطة الخيانة أشمل وأعم، أنا طول حياتي بعاني بسبب الخيانة، انحرمت من بابا بسبب الخيانة، فقدت أخواتي بسبب الخيانة، عانيت كتير بسببها، حتى انحرمنا من الحلم بسبب الخيانة، لساني بتذكر من وانا صغيرة وكنا قاعدين بحديقة بيت ستي ويا ولاد عمامي، كنا شفنا فيلم ما بتذكره كان فيه البطل طيّار، جه ياسر أخي حكى إن بدو لما يكبر يصير طيّار أو ضابط طيّار، ما بتصدق شو اللي صار! اتفاجأنا بستي جت تركض وتقول ما بيصير أبدًا! إياك تتمنى إشي ما راح يحصل...

ببساطة لأن إلنا تخصصات محدودة بندرسها، حتى الحلم بيتوأد من وهو في مهده، كل هاد بسبب الخيانة...

بعرف منيح إن مصر الله يحفظها بلد مستقلة وهي أمنا وأختنا الكبرى اللي عن جد ما حسيت إني مغتربة فيها ولا لحظة وإنها صارت بلدي مو بس بحكم الدم والأوراق الرسمية لكن بحكم الإحساس يااللي حسيت فيه، وبعرف هون أديش حبكم إلنا ولفلسطين والقدس، بعرف منيح إن ما فيك تكون خاين لوطنك، ممكن يكون حكيي غير مناسب للأجواء، لكن أنا واحدة خسرت أهلها كلهن ومافي أي شيء في قلبي إلا وطني اللي ما بعرف إن كنت راجعته ولا لأ...

الشهور يااللي قضيتها هون صحيح اندمجت بالمكان لكن عندي ذكريات كتير هناك، يظهر لك إني بحكي ثرثرات فارغة، لكن أنا هون وببلد جديد والمفروض رح بلش حياة جديدة ومع شخص جديد لازم يعرف أكتر شي ما بتهاون أو بسامح فيه، الخيانة، الخيانة هي نقطة ضعفي الوحيدة فلا تحاول تقترب منها مو بس معي، مع أي حدا، لو خنت أي شخص وغدرت فيه بتكون نهيت كل إشي حتى لو صار معي بدل الطفل عشرة!

قالت زهرة الأخيرة بقوة وثبات زلزل كيان ياسر خاصةً وقد استحضر فعلته القديمة وغدره بمراد أمام عينيه معروضة كشريط سينيمائي، وسأل نفسه، ماذا لو كان بمقدورهم قراءة أفكاره الآن؟ ماذا لو علم أحدهم أنه سبب رئيسي في معاناة التي صار يطلق عليها أخته؟

أفاق من شروده على صوت عشق تناديه: ياسر، روحت فين يا ابني؟ إنت سكت خالص كده ليه؟!

تنحنح قليلًا وأجاب بملامح تائهة: آسف، سرحت شوية.

فقالت وداد: لا تواخذنا يا ابني، والله زهرة طيبة وحنونة، صحيح هي واخدة مني طباعي الحادة لكن هادي الطباع ما ظهرت إلا بعد ما صرنا لحالنا في الدنيا بدون رجّال، بعرف منيح إن حكيها شديد، لكن فيك تعذرها لأن حياتها كانت صعبة كتير، وبكرر لو ما كان في قبول ما كنت تبقى جالس معنا ببيتنا.

تابع ياسر محاولًا إخفاء ما به: لا لا، كل الحكاية إني افتكرت والدي و والدتي الله يرحمهم وأد إيه كانوا منتظرين اللحظة دي وكانوا هيفرحوا إزاي!

أومأت وداد بتأثر: الله يرحمهم ويرحم كل الأموات.

فتابع ياسر: اطمني يا زهرة، أنا عمري ما هخون حد أبدًا مهما حصل.

قالها شاعرًا بغصة كبيرة تعتصره لدرجة أن التمعت عيناه، لكنهم فسروها من فرط سعادته، فتنحنح قائلًا مغيّرًا الموضوع: كنت فوق السطوح عامل روف و قعدة وحمام سباحة صغير على أساس نتجمع فيه كعيلة، لكن قدر الله وما شاء فعل، واتقفل من يومها هو محتاج شوية صيانة ويكون جاهز، عشان تروّحوا عن نفسكم فيه.

سألته زهرة بلطفٍ خفي طل وسط كلماتها: في مكان يسمح بالزراعة! كنت بزرع زمان بعض النباتات وبعتني فيهم في حديقة بيتنا.

فابتسم ياسر بسعادة؛ فقد علم أن خلف هذه الشخصية الحادة الثابتة أنثى رقيقة، فأجاب: في كل حاجة تتمنيها يا ست العرايس، بس قولي أيوة.

تابعت بمداعبة خفيفة: إيه قولي أيوة دي! أسلوب ضغط!

- سميه زي ما تسميه، المهم تقوليها.

ابتسمت زهرة ناظرة لأمها على استحياء وقد توردت وجنتيها، فتابعت الأم: على بركة الله، نقرأ الفاتحة.

وبدأ الجميع بقراءة الفاتحة بسعادة غامرة، وتتابع نظراتهما الخاطفة التي توحي بعنوانٍ لقصة حبٍ جديدة، بينما شردت عشق، رن في أذنيها صوت مراد بكلماته التي تحييها...
«نفسي أصارحك بحقيقة مشاعري، لكن وانا بحريتي مش مقيد بكلام ومسافة محددة، ما أنشغلش بصوت ضميري وهو بيصرخ في لأنه ما ينفعش، عايز لما مشاعري تخرج، تخرج بحرية بدون أي قيود، وده صعب يتحقق دلوقتي فاصبري لوقته اللي مش بعيد، وبعدين المشاعر مش محتاجة لكلام وبس، أعتقد إنك حاسة بيها بوضوح ولا إيه!»

ابتلعت ريقها لكن صوته مجددًا يرن بأذنيها كأنه الآن وبصحبة أنفاسه...
«عشق، بحبك أوي، وعمري ما حبيت حد كده... اوعي تخافي وأنا جنبك، واوعي تفكري تسيبيني لأي سبب، إنتِ حتة مني، حاسس بيكِ بجد مخلوقة من ضلعي و...»

ترغرغت عيناها؛ فهي آخر ما قاله لها وبعدها انقلب كل شيءٍ رأسًا على عقب، أغمضت عينيها قاضمة شفتيها وقد انفصلت عن الزمان والمكان، فقط أخرجها من شرودها نداءات زهرة المتكررة بلهفة: شُصار! اشبيكِ يا عمري؟!

أومأت عشق متصنعة الابتسامة التي لم تعد قادرة على إعادتها الآن: ولا حاجة حبيبتي، أنا بخير، ألف مبروك ربنا يتمم بخير!

ونهضت عشق تحتضنها فشاركتها زهرة عناقها رغم شعورها بارتجافتها، وقد تأكدت تمامًا أنها ليست بخير، يبدو أنها شردت لذاكرياتها مع زوجها المفقود.

لم يكن هذا لسان حال زهرة فقط بل كان واضحًا لوداد وياسر، الذي كلما رأى حالتها صار يلعن نفسه بكل اللغات.

أكملوا جلوستهم في اتفاقات الزواج المعتادة، وبعد أسبوعٍ واحد كان حفل خطبتهم، وكان حفلًا صغيرًا ببيت زهرة؛ فالعروسين بدون عائلة حالية تقريبًا، فقط القليل من الأصدقاء المقربين، وأكثر ما سرّع تحديد يوم الخطبة هو إصرار زهرة على ارتداء ثوبها الفلسطيني الشعبي البسيط وعلى رأسها حجابًا وطوق من الزهور والقليل من الكحل واكتفت، شعرت كأنها لا زالت هناك بموطنها، لدرجة أنها تنفست بعمق ربما تشتم عبق البلدة القديمة، تتلفت حولها تلمح طيف باقي أهلها يرقصون ويرددون الأناشيد الشعبية المختلفة، أغمضت عينيها تستشعر بوجود روح أبيها وأخويها حولها تعانقها فابتسمت، لكنها برغم بساطتها بدت رائعة.

طلبت زهرة من عشقٍ يومها التقاط الكثير من الصور؛ لترسل منها يومًا لأهلها حينما تتواجد فرصة مناسبة.

ولأن الزواج بعد بضعة أشهر، الصيف القادم، فقد عينت عشق نفسها أختًا مقربة لزهرة كي تشتري كل ما تحتاجه وتعينها علي تلبية طلباتها، كان ذلك أعظم الأمور لكليهما، فقد وجدت كلتاهما الأخت في الأخرى وتولدت علاقة أكثر عمقًا، فستتقاربان أكثر من أي توقع بل وستكونا جارتين في نفس البيت.

مرت الأشهر سريعًا وقد أُعد بيت العروسين على أكمل وجه، وأكثر ما أسعد عشق تلك السعادة الشديدة التي تقرأها على وجهيهما، سعادة أكثر من مجرد سعادة عروسين، هي سعادة عشق وُلد وسُمح له بمزيدًا من الترعرع.

لكن ياسر كلما رأى فرحة عشق الصادقة ازداد تألمه، وخزه ضميره وشدد من تأنيبه...

عاشوا معًا كعائلة صغيرة، ياسر وزهرة، الأخت المقربة عشق وأم الجميع وداد، ثم تُوَجت العائلة وازدادت حلاوة بقدوم ولييّ العهد، التوأم عبدالله ومراد، بالطبع واضحًا سر تسمية الاسمين، لتظهر عشق بدور العمة والخالة معًا، ما أسعد الجميع! فقد ضُبطت كل الأمور، حتى هذه الأم المكلوبة بدأ الابتسام يعرف طريقه إليها وسط حفيدَيها قطعتين من الفؤاد.

جرت أمور العائلة بسلام، وعادت الحياة العائلية المترابطة لعدة سنوات قد تركت زهرة عملها أو بالأحرى قدمت على طلب إجازة بدون مرتب منذ إنجابها لطفليها ولم تعود إليه منذ سنوات، وبالرغم من أن عبدالله ومراد قد قاربا الخمس سنوات وصارا بالسنة الأولى بمرحلة رياض الأطفال لكن لم تعد زهرة بعد إلى عملها.

في الحقيقة لا زال ياسر ممانعًا عودتها للعمل ليس فقط من أجل رعاية ابنيها؛ فهي ليست وحدها بل جوارها عشق ووداد تعيناها في رعايتهما تحت إشرافها، لكن أيضًا لأنه لا يريد إرهاقها ويخشى أن تنشغل عنه أو يتعكر صفوها بسبب متاعب العمل.

فقد أحبها ياسر بحق وأسعدها كثيرًا بحبه وعشرته الطيبة لها، تأكد أن قلبه الآن يحب بحق وليس له عشقٌ أو مرادٌ إلا زوجته، وأن كل ما سبق لا شيء، وهذا اللاشيء أوقعه في أكبر خطيئة في حياته لا زال يعاني منها مهما طالت السنوات.

أما زهرة ربما أعجبت به وانجذبت إليه في بادئ الأمر، لكن حبه الكبير الذي قدمه إليها أشعرها بتضخم قلبها سامحًا لحبه ساكنًا بداخلها، فمنذ زواجهما قد عاشا بحق أسعد أيامهما حتى الآن.

وبالطبع لا زالت عشق على حالها، حتى بانشغالها بين عملها مع وجود الطفلين، لكنها لا زالت تتألم، لا زال جرحها ينزف، لا زال لديها أمل وتنتظر عودته! ولا تستغنى عن العيش وسط تلك الذكريات والمذكرات.

لكن خلال هذه السنوات الأخيرة كان قد تفاقم الفساد بمختلف صوره، خاصةً الفساد الإداري والاقتصادي مع استغلال النفوذ، خاصةً أخبار انتهاكات الضباط وتحديدًا التابعين لجهاز أمن الدولة، حيث بدأت تتسلل أخبارهم رغم الحزم الشديد، ومع استغلال قانون الطوارئ أسوأ استغلال وبلا رقيب، صار الاعتقال أسهل ما يكون وحرية الرأي جريمة تجعل فاعلها يختفي بلا عودة، لكن عدم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وقتها لم يساعد على افتضاح الأمر كما ينبغي، كانت مجرد أقاويل تقال على فترات ولا يطول تداولها، فسرعان ما تتم السيطرة عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة...

حتى جاءت ليلة رأس السنة والجميع يستقبل العام الجديد، عام ألفين وأحد عشر ميلاديًا، عامٌ جديد مثله مثل أي عام، وكانت عشق جالسة هذه الليلة مع زهرة تثرثران وتنهض كل واحدة من فترةٍ لأخرى تصنع مشروبًا ساخنًا وتكملا ثرثرتهما ومزحاتهما، وقد ساعدهما الليلة على طول السهر تأخر ياسر خارج البيت على غير عادته، وبينما هما جالستان لا تشعران بمرور الوقت إذ تفاجئتا بمجئ ياسر والساعة قد تجاوزت الواحدة، عدّلت عشق من هيئتها تستعد للمغادرة.

لكن اندفع ياسر للداخل بسرعة سلم على زوجته بحرارة وتفقد أرجاء البيت وسط تعجب الجالستين، فتساءلت زهرة بدهشة: اشبيك ياسر؟

فزفر وألقى بجسده على أقرب أريكة بعد أن تفقد ابنيه النائمين في حجرتهما ثم أهدر: انتو كويسين؟

أجابت بعدم فهم: الحمد لله، شُصار؟ شكلك مو طبيعي بالمرة!

تنهد قائلًا: شكلكم ما حستوش بااللي حصل، الدنيا مقلوبة برة! أمال أنا اتأخرت ليه؟! الشوارع مقفولة وقوات الأمن والإسعاف والمطافي في كل حتة!

تساءلت عشق بقلق: حصل إيه؟!

أجاب: حادث انفجار مش عارفين إن كان انتحاري ولا عربية مفخخة أدام كنيسة القديسين.

صاحت عشق بفزع: لا حول ولا قوة إلا بالله!

تسآلت زهرة: وين ها المكان؟ قرِيب منا؟

أجابت عشق: أيوة، ده هنا في جمال عبد الناصر، فاكرة يوم فرح دعاء اللي حضرناه في المسجد؟ مسجد شرق المدينة!

أومأت زهرة أن نعم فأكملت عشق: أهو المسجد ده الرصيف اللي في وشه على طول هي الكنيسة دي، ساعة ما سألتيني عن ازاي الاتنين في وش بعض كده!

ثم التفتت عشق نحو ياسر متسائلة بهلع: في اصابات؟

أومأ قائلًا: في كتير أوي وفي وفيات كمان، الله يصبر أهلهم!

فتساءلت عشق: بس أي انفجار في الشارع ده هيطول الكنيسة والجامع مع بعض! يبقى اللي عملها عملها ليه؟!

أجاب ياسر زافرًا: مش عارف، ولاحد عارف حاجة! وشكلها مش هتعدي على خير.

- هيعملوا إيه أكتر من كده يعني؟ ده الواحد سامع حكايات تشيّب، تعذيب في السجون وآخر إهانة غير الموضة بتاعة تلفيق التهم!

قالت عشق مقالتها الأخيرة لتوخزه بها ميقّظة ضميره الذي يجلده دون هوادة، يود هذا الضمير لو يصرخ قائلًا أن تلفيق التهم أمر ليس ببعيدٍ عنكِ.

تمتم ياسر بداخله أن لو تعرفين حقيقة الذي اتخدتيه أخًا ما نظرتِ في وجهه ولا طرفة عين!

عاد من شروده ناظرًا لابنة عمته بقهر يخالطه الخزي، لم ينتبه لما قالته مع زوجته زهرة، لكنها تهم بالانصراف فناداها: رايحة على فين الساعة دي؟

رفعت عشق حاجبيها بدهشة ثم قالت: ادخل نام يا ياسر شكلك فصلت، أنا مروحة.

- هتروحي في الوقت المتأخر ده؟

- ياسر، أنا الشقة اللي أدامك يا بابا، يعني مفيش مواصلات...

سارت بضع خطوات ثم التفتت قائلة: آه صحيح، مش جاية معاكم القاهرة.

- ليه يا عشق؟ إذا كانت ماما وداد نفسها اقتنعت وجاية معانا، فرصة زهرة والولاد يشوفوا الأهرامات والبرج.

- ماشي، روحوا وانبسطوا انتو، أنا لسه عندي مراقبة امتحانات وتصحيح وانتو أحسن لكم تروحوا قبل الأجازة ما تبدأ.

- هتقعدي لوحدك برضو!

- عادي متعودة على كده، المهم اتأكدوا قبل ما تسافروا من حالة الجو، ما تسوقش على الطريق الصحراوي والجو وحش.

- طيب يا ستي بس مش معقول هنمشي ونسيبك...

قاطعته: خلاص بأه! المهم دلوقتي أخبار الرسومات إيه!

أومأ مجيبًا: قابلت المهندس انهاردة وقالي هيخلصها بعد أسبوعين عشان معاه شغل تاني.

- لسه هستنى أسبوعين!

- كده كده ما حدش بيبني في الشتا، هتستني كل النوات تخلص والأرض تنشف من مية الشتا عشان الشغل ما يبوظش.

- أهم حاجة عندي يا ياسر التصريحات تكون مظبوطة وكل حاجة تكون تمام.

- يا ستي ما الأرض وسجلتيها وتصريح البنا معاكِ.

- نفسي عبال ما مراد يرجع بالسلامة إن شاء الله يلاقي الملجأ اللي كان بيحلم بيه بأه حقيقة على أرض الواقع.

ابتلع ياسر ريقه بصعوبة الذي تحول شيئًا يضيق بأنفاسه، بينما نظرت إليه زوجته بحزن ولم تعقب، لكن عشق سرعان ما انصرفت أمام نظرات خزي ياسر وشفقة زهرة.

وبعد مغادرتها تنهدت زهرة قائلة: لا زال عندها يقين بعودة زوجها! تعتقد رح يرجع!

ثم التفتت إلى زوجها الذي تغيرت ملامحه تمامًا وصارت غامضة لها، فنادته زهرة: ياسر، ياسر!

فانتفض فجأة بطريقة أفزعتها، اقتربت منه واحتضنت وجنتيه برقة مربتة على لحيته الخفيفة وتساءلت بحنان: اشبيك حبيبي؟!

تنحنح ياسر محاولًا استعادة نفسه ثم أجاب: بتصعب عليّ.

- إي، بتصعب عليّ كتير، لهيك بترك معها الولدين كيف ما تريد، هم كمان متعلقين فيها كتير.

- كنت خايف يكون الموضوع ده بيضايقك.

-شو! يضايقني! اللي ما منتبه عليه يا زوجي العزيز إن عشق من قبل ما تكون أختك فهي أختي ياللي معي بكل شي وما بتتأخر عني أبدًا، لكن أنا لمحت في عيونها أديش قلقانة ومرتعبة من خبرية ها الحادث ياللي مو بعيد عنا، يعني هي مع وحدتها خايفة كتير، هاد شي فوق الاحتمال.

اكتفى ياسر بإيماءة صغيرة من رأسه ثم نظر إليها يحدث نفسه أن لو علمتِ يا زهرة بفعلتي الحقيرة ماذا أفعل بدونك؟! أنتِ المعنى الحقيقي للعشق، بل أنتِ عشقي ومرادي الذي أتاني ليؤكد لي أن كل ما عانيت منه طوال سنوات لم يكن إلا هواجس من صنع يداي، ليتني انتبهت قبل أن انغمس بذلك الوحل، لا زلتُ أشعر باتساخي يا أبي...

عاد من شروده على يد زهرة التي تربت على لحيته وصوتها الهادئ: اشبيك يا عمري! لا تشغل بالي عليك هالأد!

فابتسم ضامًّا خصرها إليه وهمس: لازم ينشغل بالك، بيّ وبس.

- عم تمزح وأنا قلقانة عليك!

- عجباني حنيتك فيها حاجة لما أسوق فيها!

- بس بدون ما تتعب قلبي هيك من القلق عليك.

- سلامة قلبك يا روح القلب انتِ.

- ياسر!

- يا عيون ياسر، بس إيه الحلاوة دي!

- اضحك على عقلي مشان أسكت وما أسألك ليش اتأخرت اليوم هيك؟

- ولا حاجة قعدت مع جماعة صحابي والكلام خدنا زي ما خدكم انتو الاتنين وخلاكم تفضلوا سهرانين لحد الساعة دي، غير إنه نسّاكِ تتصلي بيّ من كام ساعة.

قال الأخيرة بعتاب مصطنع، فتعلقت في عنقه وأجابت متحرجة: والله الوقت خدني! ما بقصد أتجاهلك، ياسر لا تضايق لو سمحت.

عقد حاجبيه بغضب مصطنع ولم يعقب، ففركت حاجبيه كي تفك انعقاده بلطف وقالت: خلاص ياسر لا تغضب مني.

ثم قبلته على إحدى وجنتيه فاستدار بوجهه معطيها الجانب الآخر فلكزته وصاحت: بتخدعني يا شرير! عامل حالك غضبان! طب بكرهك.

فقهقه ياسر وضمها إليه رافعها إلى مستوى طوله ولا زال محتضنها، فهمس في أذنها: إنتِ عارفة كويس أد إيه بحب اعاكسك.

ثم انحنى يحكم حملها بيديه أسفل فخذيها وتحرك بها وهي لا زالت متعلقة بعنقه، فهمس إليها: نكمل سهرتنا جوة أحسن.

فأجابت بغنج: ياسر...

مرت عدة أيام وقد انشغلت خلالها عشق باختبارات نصف العام والتصحيح بالإضافة لأعمال المجمع الخيري، بينما سافر ياسر وأسرته إلى القاهرة عدة أيام للترفيه، استمتعوا خلالها بالزيارات لأشهر الأماكن هناك، جميعهم كانوا سعداء فقط يفتقدون وجود عشق معهم، فكانوا يهاتفونها يوميًا خاصةً الابنين، ولما عادوا جلسوا معًا يشاركوها أسعد لحظاتهم حكيًا وأيضًا بمشاهدة الصور التي التقطوها هناك مع عدة مقاطع فيديو أيضًا.

وبينما كانوا على حالتهم وكان الجهز المرئي مدارًا أمامهم على إحدى برامج الأحاديث التليفزيونية دون التفات لثرثراتهم، لكن فجأة استوقف ياسر صوت أحدهم فالتفت إلى شاشة التلفاز محدقًا لذلك المتحدث بنفس ثقته وعجرفته التي يعرفها جيدًا، مكتوبٌ على الشاشة «الخبير الأمني علاء الزيني»...

حملق فيه بعينين تشتعلان غضبًا وقهرًا، ود لو كان بإمكانه اختراق هذه الشاشة والدخول إليه ممسكًا بعنقه لا يدعها حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ثم صاح فجأة: فين ريموت التلفزيون؟!

سكت الجميع فجأة بينما التفتت إليه زهرة متسائلة بدهشة: اشبيك ياسر؟ شو اللي قلب حالك فجأة هيك؟!

- غيروا الزفت ده، جايبين واحد زيه ليه؟ ده مجرد حيوان كل مهمته في الحياة يشعللها نار، ياريت كان في مداخلات كنت اتصلت وبهدلته عل هوا.

تدخلت عشق بذهول: مالك يا ياسر! ومين ده أصلًا عشان تنفعل للدرجة دي؟

نظر إليها ياسر بخزيٍ شديد ولم يعقب، قضم شفتيه ونهض متسللًا للداخل وسط نظرات التعجب والذهول من الجميع، فأعادت زهرة تساؤلها: مين هالزلم اللي غضّبه هالأد وخلاه يجن جنونه؟

أومأت عشق رافعة كتفيها أن لا تعرف، لكن نبت داخلها شعور ما بدا غامضًا دون تفسير...

Noonazad 💕💖💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top