(21)
#سيظل_عشقك_مرادي
الفصل الواحد والعشرون
بقلم نهال عبد الواحد
غادر ياسر مكتب علاء صاحب المنصب بأمن الدولة مسترجعًا كل كلماته وتهديداته الوقحة، والتي يعرف تمام المعرفة أنه يستطيع تنفيذها دون أن يغمض له جفن وبدم بارد.
حاول وسط فوضى أفكاره أن يجد حلًا ليعود مراد، لكن سرعان ما يتذكر أنه قد عرف من فعل به هذا فيرتعب؛ مؤكد يوم يُكتب له النجاة سيعود منتقمًا!
فيتساءل وهل أمثال مراد يعرفون الانتقام؟ فيجيب على نفسه أن لا أحد يعرف ماذا أحدث به السجن وماذا يفعل به هذا الحقير!
وبعد مد وجزر التساؤلات داخل رأسه يجد نفسه مكانه عائدًا لنفس النقطة دون حل قاطع.
وحتى منتصف الليل لم يصل لرأيٍ آخر سوى السكوت من أجل حماية عشق، فيكفي ما وصلت إليه وما تسبب فيه، فلن يجلب لها المزيد من الضرر.
لكن شعور تأنيب الضمير لا زال في الصدارة لا يجد له حلًا سوى إقناع نفسه أنه حاول إصلاح ما أفسده ولم يتمكن، فلم يعد الأمر بيده!
وبعد يومين ذهب ياسر بصحبة والديه وعمته متابعًا تجهيز وفرش الشقتين الجديدتين، فقد صارتا على أتم استعداد، وسيخبرون عشق لتعود مع أمها للعيش معها في شقتهما.
وبينما كان ياسر واقفًا معهم وهم يتفقدون الشقتين إذ ارتفع رنين هاتفه المحمول الجديد؛ فقد اشتراه فقط منذ عدة أيام، فهو من القلة المميزين الحاملين لهذه النوعية من الهواتف المميزة.
وما أن بدأ في محادثته حتى تغير وجهه وتشنجت ملامحه في صدمة، ثم أسرع خارجًا تاركًا الجميع مندهشًا من حالته المصدومة بل زاد من دهشتهم أنه لم يجيب على سؤال أحدهم، بل لم يلتفت إليهم من الأساس، فقط أسرع مندفعًا.
لم يعرف ياسر كيف قاد سيارته حتى وصل، مؤكد قد حرّكه اللاوعي على طريقة القيادة الذاتية، ترجّل ياسر من سيارته واقفًا أمام إحدى عماراته حديثة البناء، بل أغلاهن منزلة وثمنًا، بل بالأحرى أرض العمارة!
فقد تفاجأ الجميع منذ الصباح الباكر بمجئ قوات الأمن مطوّقة المكان مع رافعات ضخمة وعمّال بمعاولهم لتنفيذ قرار هدم العقار بموجب قرار حكومي، ولم يتمكن أحد من التواصل مع ياسر إلا منذ قليل؛ عندما عثروا على من يعرف رقم هاتفه الشخصي.
وقف ياسر أمام الأحزمة المحاطة بأنقاض المبنى وجوارها أكوام من الأنقاض، عقد ساعديه أمام صدره دون أن يعقب، فقط يتجول بعينيه خلف نظارته الشمسية متفقدًا كل إنشٍ في هذا الموقع.
بدت ملامحه مبهمة وغير مفهومة، لكن ربما لو كان لأحد المحيطين قدرة على قراءة الأفكار لضربًا كفًا بكف مما رآه، إنه من داخله يبتسم بسخرية؛ أن هذا هو القصاص العادل، فإن كانت هذه الأرض هي أُس البلاء الذي دفعه إلى اللجوء لذلك الثعبان فهاهي قد ذهبت هباءً بعد كل شيء وفي غمضة عين!
فما لا شك فيه أن مراد رجلٌ مباركٌ ومؤكد أنه قد دعا على من ظلمه وتسبب فيما يعانيه، سواء علم هويته أم لا، أو على الأقل قد فوّض أمره لله وطلب منه القصاص، وهاهو قد حدث...
لكن يا ترى قد انتهى العقاب إلى هذا الحد أم لا زال هناك المزيد!
لم يبرح ياسر موقعه طوال اليوم حتى تحولت عمارة من عشرة طوابق إلى مجرد أطلال تتناقله عربات النقل المتتابعة.
كان متابعًا للموقف بكل حواسه حتى لم ينتبه لرنات هاتفه المتلاحقة بداخل جيبه.
عاد مساءً إلى بيته جآرًّا قدميه خلفه وقد أنهكت قواه، لا يسمع إلا صوتًا مترددًا بداخله «تستحق كل ما تجده؛ هيا احصد ما زرعته»
وصل البيت دون أن ينتبه لتلك الجموع من المتوافدين، دخل الشقة فوجد سوادًا ونحيبًا يملأ المكان، نظر بينهم ببلاهة وعدم فهم إلى أن اقترب منه أبيه، باغته بإلقاء نفسه بين ذراعيه وهو باكيًّا بحرقة.
نظر إليه ياسر محاولًا أن يسأله عن ما يجري، لكنه مرتاب من معرفة الإجابة، حتى التقطت أذناه كلمات أبيه وسط شهقاته ونحيبه: أمك يا ياسر!
وبعد فترة من ثبات ياسر بدأ يظهر اندهاشه وتساءل بارتياب: مالها!
ثم التفت حوله وصاح: هو في إيه!
فأتته الإجابة في صورة أصواتٍ متداخلة من البكاء والنحيب يتخللها بعض الكلمات «الملك والدوام لله!»
«شد حيلك يا ابني!»
«كلنا لها!»
«الله يجازي اللي كان السبب!»
فرمقهم جميعًا وصاح مكررًا: بقول في إيه!
فأجابته عمته الباكية: نازلين من الشقة الجديدة ويادوب بنعدي الشارع، كنت مسبقاها بخطوتين بالظبط، عديت الشارع وببص ورايا وفجأة عربية بتجري دهستها وهربت حتى ماحدش لحق يلقط نمرتها!
ليكون هذا الخبر هو القشة التي قسمت ظهر البعير، نظر بينهم جميعًا ثم انسحب نحو حجرته، ظل جالسًا لا يبرح مكانه حتى الصباح مارًّا أمام عينيه كل شيء منذ ذلك الاتفاق الخسيس حتى محاولة تحديه لذلك الثعبان الماكر، وهاهو قد نفث سمه داخل حياته!
يمكنه تحمل الخسارة المالية أو المادية، لكن فراق أمه وبسببه!
فيرفع يديه يقلبهما ناظرًا فيهما، هاهو يراهما تقطران دمًا، هذا دم أمه! الذي تسبب فيه، ليكتمل وضوح صورته، مجرد شخص خائن وقاتل.
لم يلتفت ياسر لأحد طوال أيام العزاء! لم يتحدث! حتى لم يبكي!
أشفق عليه الجميع ظانّين أن الصدمة قد فعلت به الكثير، ربما لو علموا حقيقته لبصقوا عليه إن لم يشبعوه ضربًا.
وأكثر من أشفق عليه هي عمته نبيلة، التي كانت ولا زالت أمه الثانية، هي وحدها من تنجح في إقناعه بتناول بضع لقيمات بالكاد، لكنها بالطبع أفضل من عدمه.
أما عشق فموقفها من ياسر قد حسمته منذ مدة، قاطعة أي علاقة به، كم تمنت لو ترك لها مساحة الأخوية! ربما تمكنت من الوقوف إلى جانبه بقدر المستطاع، لكن هذا لم يمنع أنها حزنت على موت ماجدة زوجة خالها كثيرًا؛ كانت بحق حنونة وتعاملها بلطف طوال حياتها، والأهم أنها لم تتغير معاملتها لها بموقفها من ابنها، كما ظلت على حيادها عندما اتفق ضدها ياسر مع أمها.
انتقل الجميع بعدها إلى البيت الجديد وعادت عشق للعيش مع أمها، والتي صارت منشغلة بصورة شبه مستمرة بخالها الذي تدهورت صحته بعد وفاة زوجته مستسلمًا لآلامه ويأسه، وسرعان ما لحق بزوجته هو الآخر إلى الدار الحق.
مرّت الصدمات على ياسر كضرباتٍ متلاحقة أفقدته السند في الحياة كما كاد أن يفقد عقله، ما أصعب هذا العقاب القاسي!
لقد حُرم من كل أحبابه! سيحيا حياته من الآن وصاعدًا وحيدًا، فلم يعد يملك إلا قدرًا من الذكريات التي يتذكرها بالكاد؛ فالآونة الأخيرة كان كثير الانشغال ودائم الغياب، لو علم قرب موعدهما ما تركهما وغاب عنهما هكذا، ربما كان استزاد في لقاءاته بهما، لكن هذا هو حال الإنسان، يفرّط ثم يبكي قهرًا على تفريطه.
لا زالت كلمات أبيه في آخر أيامه ترن في أذنيه لا تتركه...
-إنت عملت إيه يا ياسر!
-ولا حاجة يا بابا.
- أمال بشوفك ليه غرقان في طين ومتوسخ بالوحل؟
- بتشوفني!
- بتجيلي كده ف أحلامي.
فسكت هُنيهة يعرف جيدًا ما يرمي إليه أبيه، ثم أجاب: والله يا بابا بِعت الأرض ورجّعت للناس فلوسها!
- أحسن، شكلها ملعونة، ما شوفناش منها إلا وجع القلب.
- عندك حق يا بابا، ما شوفناش منها إلا وجع القلب.
- ربنا هيعوضك ويوسع عليك!
- يارب!
فيعود من ذكراه ناهضًا متجهًا لأقرب مرآة، وقف أمامها يتفحص نفسه، هو بالفعل يرى نفسه متسخًا بالوحل، لكن اتساخًا غير قابل للغسل مهما تحمم وفرك جسده.
لم يمر الكثير من الوقت ولحقت بهما نبيلة، وانتهت العائلة، لم يبقى منها سوى ياسر وعشق المتباعدَين، فعليًا لا يفصلهما إلا جدارًا بين الشقتين، لكن الحقيقة هما بعيدان كل البعد عن بعضهما البعض، بالكاد يتقابلان بالمصادفة على السلم أو داخل المصعد فيتبادلان التحية الشفهية بتبلدٍ وابتسامة مصطنعة لا تصل إلى العينين كأداء واجب.
بعد أربع سنوات توغلًا في هذا القرن الجديد، القرن الواحد والعشرون، ظن الكثير أن القرن العشرين توديعًا لسنوات الاحتلال، الحروب والكثير من المآسي، ترقبوا قدوم هذا القرن الجديد الذي سيتمتعون فيه ويسعدون بمزيدٍ من الرفاهية والسلام... السلام!
تبدو كلمة لم يحين الوقت بعد لتشغل حيز التنفيذ، كانت أول أربعة أعوام من القرن حافلة بكم من الأحداث سواء عالميًا، داخل المنطقة العربية وداخل مصر.
صحيح توقفت العمليات الإرهابية التكفيرية، لكن وُلد وحشًا خفيًا حمل اسمًا مستعارًا لأمن الوطن، وهو في الحقيقة جهاز توغل فيه الفساد واشتهر بالقذارة، كأن شرطًا رئيسيًا للعمل فيه أن يكون شخصًا منعدم الأخلاق والرحمة، متغذيًا على تلفيق التهم وتعذيب الأبرياء، ربما بينهم مدانين، لكنهم في النهاية بشر ويستحقون المعاملة الآدمية.
جهاز أمن الدولة، الذي بدأ انتعاشه وقتها على حساب الكثير، وبقوة قانون الطوارئ كما قضى على الإرهاب، زاد من نفوذ الكثير، عديمي الشرف، ويكفي اتهام أحدهم أنه إرهابي، إذن فقد ذهب في خبر كان، ذهب بلا عودة!
وهاهي عشق تعيش وسط هذا الفراغ العملاق، شقة متسعة والكثير من الجدران، سعت على ملأها بعدد من صور لوالديه، خالها وزوجته، مع المزيد من صور لمراد في مختلف مراحله العمرية، بالإضافة إلى صور عرسهما.
وكأن هذه الصور تخفف عنها وحدتها، أجل وحدتها، فهاهي تشترك مع مراد مجددًا في شيءٍ آخر، ألا وهو الوحدة.
وقفت تعد وجبة صغيرة في أصغر إناء بالبيت؛ فهي وحدها من ستأكل منها، لكن أين الشهية؟! بضع لقيمات بالكاد في اليوم، فيجعل هذه الوجبة الصغيرة كوليمة كبيرة تكفيها لأيام!
لم تكن تسليتها بمشاهدة الصور فحسب، بل بقراءة المزيد من مذكرات مراد، التي تقريبًا تحفظها؛ من كثرة قراءتها طوال هذه السنوات!
« لم أعتاد الشكوى يومًا، لكن الوحدة تكاد تفتك بي، منذ سنوات، منذ وفاتك يا أمي، أحيا وحيدًا بائسًا، إن كنتُ طوال عمري يتيمًا لكن يُتم الأم وافتقادها أشد وأشد، وحدتي حبلًا يلتف حول عنقي يضيق ويضيق، الجميع يلتمس راحته عند عودته إلى بيته، وأنا لا أجد إلا ألمًا ووحدة تنهش بي، أشتاق لكِ أمي، أشتاق لصوتك، حضنك وحنانك حتى وأنتِ طريحة الفراش، ترى لمتى هذه الوحدة؟ هل سيجئ يومًا وأقتلها؟ هل سأجد يومًا يدًا تربتُ عليّ؟ وصدرًا حنونًا يحتويني؟! أم هي مجرد أحلام لن تهبط يومًا على أرض الواقع؟!»
ابتسمت بوجع ودمعت عيناها، لا زال بداخلها دمعًا يجود ولا يجمد، تحدث نفسها بقهر أن الوحدة قدرنا، فلم يحقق مراد إلا مزيدًا من الوحدة، بعد أن تلمّس بيده متنعّمًا للحظاتٍ متحررًا من قيدها، جُذب من يديه ليُزَج في سجنها مجددًا، لكن لست وحدك بل أنا هنا سجينتها وحدي، سجن لأجل غير مسمّى.
وذات يوم بينما كانت عشق عائدة من المدرسة وقت الظهيرة مشيًا كعادتها إذ سمعت صوتًا أنثويًا غاضبًا من سير سيارة مسرعة مرت على بركة ماء تبقت من أثر الليلة السابقة المطيرة، صاحت بغضب: يلعن اليهود!
التفتت عشق لصاحبة الصوت وأكثر ما أدهشها هذه الكلمات غير المألوفة على أذنيها، خاصةً مع لهجتها غير المصرية، بل أن جمالها الهادئ لا يعتلي ملامح مصرية.
وجدتها عشق تتفقد عباءتها التي لُطخت ببقع الماء المتسخ الذي قُذف عليها من بركة الماء، فتحت عشق حقيبتها وأخرجت كيسًا من المناديل وقدمته إليها قائلة بود: اتفضلي نضفي عبايتك لحد ما تروحي.
رفعت عيناها ثم ابتسمت مجيبة بلطف: أشكرك، بس بيتي قرِيب من هون، رَح غسّلها أول ما افوت عل بيت.
أعادت عشق المناديل إلى حقيبتها وهمّت تكمل خطواتها فوجدت هذه الفتاة تسير في نفس اتجاهها فالتفتت إليها، فقالت الفتاة: طريقي هيك...
قالتها وهي تشير للطريق أمامها وأكملت: إذا بدِك نمشي سوا.
أومأت عشق مرحبة بابتسامة، سارتا بضع خطوات ثم قالت الفتاة: أنا بشوفك كتير بالمدرسة.
عقدت عشق حاجبيها بدهشة متسائلة: إنتِ شغّالة معانا في المدرسة!
- إي، بشتغل بالأعمال الإدارية.
- أهلًا وسهلًا.
قالتها عشق بفضول يطل من عينيها الكثير من التساؤلات، لكنها لم تعقب وأكملت سيرها، سألتها الفتاة: إسمي زهرة، شُسمك؟
-عشق، ومدرسة لغة عربية في المدرسة...
ثم تساءلت بفضول: بس إنتِ سورية ولا لبنانية؟
- لا أنا فلسطينية، فيكِ تقولي مصرية فلسطينية، إمي مصرية وأبي فلسطيني...
قالتها زهرة ثم سكتت وتنهدت بحزنٍ دفين طل وسط حروف كلماتها قائلة بشرود: هي حكاية يطول شرحها.
ثم انتبهت قائلة: بس أنا معدّلة لهجتي لتفهموا عليّ، أنا مبسوطة كتير هون بمصر، المصريين شعب لطيف ومضياف كتير، حقيقي ما شعرت بأي غربة، عن جد فلسطين بقلب الكل، وصلت! بيتي هون...
قالتها وهي تشير إلى أحد المباني، فابتسمت عشق قائلة: ده احنا طلعنا جيران كمان! أنا ساكنة في العمارة اللي في وشك، لسه ساكنين جديد ولا إيه! أصلي بشتغل الصبح وبعد الضهر ومش بفتح البلاكونة والشبابيك إلا لو هنضف أو أنشر الغسيل.
- إجينا لهون من اشي كام شهر، من آب الماضي، بقصد من أغسطس الماضي، شهر تمانية يعني.
- فرصة سعيدة، على فكرة أنا بنزل الصبح على الساعة سبعة، لو يناسبك ممكن نروح مع بعض المدرسة.
ابتسمت زهرة قائلة: بيناسبني، إن شاء الله نتقابل في الموعد، فرصة سعيدة.
- أنا أسعد.
قالتها عشق بود وتصافحت معها...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top