(2)

بقلم نهال عبد الواحد

وبعد أن ودّعت نبيلة ابن أخيها، ما إن أغلقت باب الشقة حتى التفتت لتلك الذاهبة لحجرتها، حدجتها مؤنبة وصاحت: إنتِ عندك دم إنتِ! ده إيه قلة الذوق اللي كانت مع ابن خالك دي!

توقفت عشق في مكانها والتفتت لأمها وأهدرت بتذمر: أنا مش قليلة الذوق، بس شكلي هعمل كده فعلًا لو فضل يفرض نفسه عليّ ويتدخل في حياتي بالشكل ده.

- لا والله! يظهر إني دلعتك بالأوي!

- يا ماما أنا كنت بكدّب نفسي في الأول، بحسب إني فاهماه غلط، بس ده بأه واضح زيادة عن اللزوم ولازم يقف عند حده.

- ليه؟ كان أجرم ولا أجرم! أنا عارفة إنه عينه منك ومن زمان، ماله بأه! عيبه إيه عشان تكسري بخاطره وتكبسيه بالشكل ده!

- يا ماما في إيه! ده انا لسه يا دوب مخلصة ثانوية عامة.

- ماحدش قالك اتجوزيه بكرة!

- لا معلش آسفة جدًا، لا ده قال كمان جاي يقولي تخشي كلية إيه وما تخشيش إيه!

- ده جزاته إنه خايف عليكِ! تقدري تطلعي عيب واحد فيه! محترم، مؤدب، له شغل ومقتدر، عنده شقته، ابن خالك وهيشيلك في عينيه، وأبوه وأمه يتمنولك الرضا ترضي، جدع حليوة طول بعرض وشعره مسبسب وشبه نجوم السينيما، وفوق ده كله ميت في هواكِ، يعني هيكون شبيكِ لبيكِ...

- كل ده جميل جدًا ومش معترضة عليه، لكن الأهم من ده كله، القبول، مش قابلاه يا ماما، ياسر بالنسبة لي أخويا الكبير، ابن خالي اللي اتربيت معاه، ما عمريش حسيت ناحيته بأي إحساس...

- طب ما تجربي يا حبيبتي مش يمكن...

فصاح سيد بتر جملتها قبل أن تكملها: ما خلاص بأه يا نبيلة، اقطمي في الكلام، وبعدين بتحكي وبتقنعي على أساس إيه؟ ولا يكون حد فاتحك في حاجة!

أجابت نبيلة: لا حد قال ولا عاد، بس صعبان عليّ الواد، وبصراحة مستخسراه!

تابعت عشق: يا حبيبتي أنا معاكِ إنه كويس وابن حلال، بس مش ليّ.

وأكمل سيد: مش بالضروري يكون فيه العبر عشان البنت ترفضه.

قالت عشق: قل لها يا بابا، وبعدين ليه عايزة تقنعيني اتجوز واحد من غير ما يكون في مشاعر من ناحيتي؟ يا ماما ده حضرتك وأيامك كانت غير أيامنا، لما بابا اتأخر عليكِ عبال مااشتغل وكوّن نفسه، وكل ما يجيلك عرسان كنتِ بترفضيهم لمجرد إن قلبك مش ميال لهم حتى اللي كانوا أغنى من بابا، انتِ استنتيه عشان بتحبيه لحد ما بقى عندك خمسة وعشرين سنة، ودي في زمنكم كانت تعتبر تأخير في الجواز، ليه بأه عايزاني أتجوز أي جوازة والسلام! ده انا لسه ما كملتش سبعتاشر سنة، لسه أدامي مستقبلي وأحلامي.

سكتت نبيلة ولم تعقب، فأكملت عشق: ياريته يكون فهم واستوعب موقفي من ارتباطي بيه، والله صعبان عليّ وهو بيهدر مشاعره من غير أمل، إن شاء الله يقابل بنت الحلال اللي تستاهله وتستاهل كل المشاعر دي.

تمتمت نبيلة بتذمر: ربنا يصبرك يا ابن اخويا!

أجابت عشق بتهكم: لا إطمني، الرجالة بتقدر تتخطى أي واحدة مهما كانوا بيحبوها حتى ولو كانت مراته وأم ولاده، وأدامي أكبر مثال، بابا وماما داليا صاحبتي أد إيه كانوا بيحبوا بعض وبعد ما طنط توفت حصل إيه! هو شهر واحد وباباها راح اتجوز عادي جدًا، يارب تكون مراته الجديدة حنينة عليها! يعني كده كده الرجالة بتتخطى كل حاجة، غير الست هي اللي بتفضل وفية.

صاح سيد: بزيادة كلام في الموضوع ده!

ثم التفت لزوجته وأكمل محذرًا: وانتِ حسك عينك تفتحي السيرة دي تاني، بنتنا لسه صغيرة والمستقبل والحياة أدامها، ولسه بدري عل المواضيع دي.

أسرعت عشق محتضنة أبيها بسعادة وأهدرت بفرحة عابثة في لحيته الخفيفة: أيوة كده ياابو السِيد...

ثم رفعت يدها صائحة: يعيش بابا يا يعيييش!

وقبّلته ثم قبّلت أمها واتجهت نحو حجرتها، ابتسم سيد وهو يتبع ابنته بناظريه، اقتربت زوجته تحدجه بعتاب، جلست جواره قائلة: إنت بتضحك يا سيد!

- بنتنا كبرت يا نبيلة، كبرت ونضجت ولها فكر ووجهة نظر، صحيح هتفضل بنوتي الصغيرة، بس ثقتي فيها زادت ومطمن عليها.

- اقعد يا خويا دلّع فيها انت بس!

- ليه؟ هو انا بدلعها لوحدي يا بلبلة! ماانتِ كمان مدلعاها ومخليها ما تمدش إيدها في شغل البيت ودي عيبة في حقك.

- يعني أبقى أنا قاعدة وبنتي وحيدتي شغالة في البيت!

- هي هتعمل إيه يعني؟ ده احنا تلاتة.

- خلاص ياابو السِيد، كل اللي انت عايزه هيتم...

ثم قالت بدلال: سيبك انت، من زمان ما قلتش يا بلبلة!

ابتسم ومسّد على شعرها الأسود القصير وأهدر بدعابة: ده انتِ الخير والبركة يا أم عشق، بس الله لا يسيئك بزيادة كلام في موضوع ياسر ده!

- ياسر ابني مش ابن اخويا وبس، ده أول فرحتنا، كنت أمه التانية مع ماجدة، وعشق حتة مني وعمري ما أحب أغصبها، لكن خايفة على زعل زكريا، ده أخويا الوحيد برضو!

- زكريا ابن عمي طول عمره عاقل وعقله كبير، وزي ما ياسر ابنك فعشق بنته، والمصلحة بتقول إنهم ما ينفعوش غير أخوات.

- خلاص يا سيد، اللي فيه الخير يقدمه ربنا.

يبدو رأيهم واقعي ومنطقي لأقصى درجة، لكنه كان بمثابة الخنجر الذي طعنه بين طيّات قلبه، والمدفع الذي فجّر حجرات هذا القلب، فتحول إلى شظايا حادة، إن حاول لملمتها جرحته وزادت من تمزّقه، وإن تركها متناثرة، ضاعت روحه وتشتت شتات التيه.

الحقيقة أنه لم يغادر، وبمجرد سماعه صياح عمته لابنتها توقف وعاد أدراجه، وقف أمام الباب ملصقًا أذنيه منصتًا متلصصًا، ربما نوى العودة ليقتص لسلطانة قلبه من أمها التي تعنّفها، لكن بعد سماع الحقيقة المندفعة من بين شفتيها قد تحطم كليًا، بل صار على شفا جرف الهلاك.

غادر أخيرًا جارًّا أذيال الخيبة، جروح عميقة، روح مبعثرة، سار بتثاقل لاعنًا نفسه أن عاد مسترق السمع وعلم ما علم، رغم أن وجع ساعة أفضل من وجع كل ساعة، لكنه آثر أن يظل خلف سرابٍ كاذب أفضل من هذه الحقيقة المحطّمة.

بعد عدة ساعات من السير منكبًا على وجهه دون وجهة، عاد أخيرًا إلى البيت، كانت ملامحه متهجمة، روحه البائسة تطل من عينيه، خلع حذائه وتحرّك بتثاقل متجهًا نحر حجرته دون أن يلقي السلام على والديه الجالسين، نادت عليه أمه: ياسر يا حبيبي، مالك! واخد في وشك وداخل على جوة كده طوالي، حتى ما رمِتش السلام!

التفت نحو أمه يحدجها بنظراتٍ تائهة ولم يعقب، فأكملت: ده انا قلت بعد زيارتك لعمتك هترجع مبسوط، ما أنت كان بآلك مدة ما شوفتش عشق!

تمتم بتيه: ما بتحبنيش ومش عايزاني...

تابعت ماجدة: إيه اللي بتقوله ده؟!

- بقول اللي سمعته.

تدخّل الأب: يبقى خلاص فوق لنفسك وحياتك.

تحدث بصوت متحشرج: بس انا بحبها...

فقاطعه: وهي ما بتحبكش، يبقى خلاص!

قالت أمه: معلش يا حبيبي هي لسه صغيرة وطايشة، بكرة تكبر وتعقل و....

فقاطعها زوجها بصياح: و إيه! بتخليه يحلم تاني ليه؟! أنا قلتلك م الأول انتو متربيين مع بعض، يعني أخوات، وما دام عدت السنين دي كلها من غير ما يتغير إحساسها ليك يبقى خلاص، إكفي عل خبر مجور وشوف نفسك انت بأه.

فتابع ياسر بحنق: ما عمتو وعمي سيد كانوا ولاد عم واتربوا مع بعض وحبوا بعض واتجوزوا!

مسح أباه على صلعته يهدئ نفسه وأجاب متنهدًا: يا بني نبيلة حست بيه، وربك خلق الحب بين قلوبهم من صغرهم لحد ما كبروا، لكن الشهادة لله عمره ما اتكلم معاها ولا فتح الكلام غير وهو جاي يتقدم بعد ما كوّن نفسه، مش سايح ومتدهول على عينه زيك!

صاح ياسر: يا بابا بحبها، والله بحبها! فيّ إيه عشان ما تحبنيش! عيبي إيه عشان تفضل شايفاني أخوها!

ربت عليه أباه وأجاب بإشفاق: يا بني الحب ده رزق من عند الله، يبعته لمن يشاء، وبيألف بين قلوب من يشاء، يعني مهما عملت لو ربك مش رايد يبقى مش هيحصل، مش لازم يكون فيك عيوب يا بني.

تابعت أمه بحنان: التفت انت يا حبيبي لشغلك ومستقبلك ومن هنا لحد ما تتخرج يـ....

قاطعها زوجها بصياح: هو مفيش فايدة فيكِ يا ولية!

أجابت ماجدة: يا زكريا بطيّب خاطره، وبصراحة البت خسارة تروح لحد تاني.

زفر زكريا وصاح: يا وليّة خلاص مفيش نصيب، ما تديلوش أمل وسبيه يلتفت لحياته ومستقبله، البنات على أفا مِن يشيل.

أجاب ياسر بقهر: وانا مش عايز غير عشق، بحبها ومش بحب غيرها.

تابع زكريا: لا إله إلا الله! يا ابني مش بالغصب، والله ما ينفع! استعيذ بالله كده من شر نفسك، عشان اللي انت فيه ده ما يرضيش ربنا؛ الحب من طرف واحد هلاك، والتعلق الزائد عن الحد أكبر هلاك، بيهلك صاحبه يا إما بيدفعه لتصرفات غير لائقة فيتذلل ويقلل من قيمة نفسه، إنت راجل وانا عارف ومتأكد إنك هتقف من جديد على رجلك، وكل ده هيتحول لماضي لما تكبر وتفتكره هتقعد تضحك على نفسك وعل أيام دي.

قال الأخيرة مربتًا على كتفي ابنه برفق، فانسحب من أمامهما يملأه قهر وآلام مبرحة، تسع العالم ليتألم ويتجرع الهم والغم، أبعد كل هذا الحب والانتظار يعود بخفي حُنين؟ يظن أنه ملك كل شيء بينما فتح يده وجد نفسه قابضًا على الهواء!

Noonazad 💕💗💕

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top