(15)
#سيظل_عشقك_مرادي
الفصل الخامس عشر
بقلم نهال عبد الواحد
كان هذا اليوم يومًا فاصلًا في حياة عشق، وتبعه أيامًا أخرى، لم تخرج من البيت ولا إلى الجامعة، جالسة بمفردها تكاد لا تتحدث ولو كلامًا عابرًا، فقط يرن في أذنيها صوت إطلاق المدافع الآلية لا يبرحها حتى في أحلامها...
تهب من نومها مفزوعة تتصبب عرقًا، تلتقط أنفاسها بصعوبة، بل أحيانًا تصرخ فتسرع إليها أمها فتجدها مرتعدة يرتجف جسدها، تخبرها بكونه كابوس دون تفصيل، فتضمها إليها بحنانٍ تهدئها، تمسد عليها ترقيها بهمس حتى تعاود نومها مجددًا.
رغم أن عشق لم تخبر أمها بشيء من حقيقة ما حدث، لكن أمها حاولت إلهاءها بالتحدث عن تجهيزات العرس واحتياجاتها كعروس.
فكرت عشق كثيرًا في نتيجة اختيارها، بل اختيار قلبها، ربما تسرعت! أم تغمس نفسها في مشاكل لا نهاية لها بل قد تودي بحياتها! لكن مراد أصدقها القول في كون حياته صعبة وبحاجة لمن تسانده لا لتحبطه.
أما مراد فقد لاحظ غيابها ورغبتها في الانطواء، أعطاها المساحة الخاصة التي أرادتها ملتمسًا لها العذر؛ فتجربتها ليست هينة على الإطلاق.
عندما رآه الجميع بتلك اللاصقات الطبية على وجهه ويده المربوطة وتساءلوا، أخبرهم أنه مجرد حادث بالسيارة.
جاء يوم الجمعة، يوم زيارته الأسبوعية لها، تردد قبل تأكيد موعده مع الخال زكريا كما اعتاد كل أسبوع، لكنه حسم موقفه وقرر زيارتها؛ فيلزم المواجهة بينهما مهما كانت نتيجتها.
بالطبع فزع الخال و والدتها من هيئته خاصةً بعد معرفتهما أنه قد تعرض لحادث، لكن ما فاجأهما بحق هدوء عشق أو ردة فعلها المتبلد حسب قولهما.
بدت الجلسة متوترة قليلًا؛ فقد بدأ القلق يتسلل داخل الأم والخال، وشعرا بوجود خطب ما بينهما، أخذ الخال يدير الجلسة والتنقل من حديثٍ إلى غيره لمجرد التخلص من رتابة الجلسة.
قال زكريا: باقولك إيه يا شيخنا، السؤال العجيب اللي اتسألك في آخر الدرس ده ما فهمتش منه حاجة.
فرمقته أخته؛ فالوقت غير مناسب، فتدخل مراد قائلًا: مفيش مشكلة يا حاج...
السؤال كان بيقول، لماذا نطيع الله ونحن لا نعرف السبب الحقيقي وراء أحكامه؟
وهذا السؤال عن الحكمة والموثوقية في الله، فلو سألنا لماذا تثق في كلام الله؟ لماذا نطيع الله في أوامره ونواهيه وفي بعض الأحيان نجد لأنفسنا المبرر لفعلها؟
مثلًا لماذا حرّم الزنا، الخمر، الكذب.... ؟
لماذا نصلي كل صلاة في وقتٍ بعينه دون غيره وبعدد محدد من الركعات؟
لماذا خلق الله هذا الكون الفسيح بعدد لا نهائي من المجرات والكواكب ولا يسكن الإنسان إلا جزء من كوكب واحد في هذا الكون العملاق؟
والكثير من التساؤلات، لماذا... لماذا...؟
بدايةً هذا السائل أو أي شخص يسأل مثل هذه الأسئلة فهو يراها أسئلة منطقية، إذن فهو يثق بعقله ومنطقيته، إذن فهو يثق بصانع العقل وخالقه، وإن لم يثق فيصبح هذا العقل لا يمكن الاعتماد عليه واعتبار أسئلته مجرد أسئلة مجنونة.
فمثلًا لو تملك جهاز حاسوب تقوم عليه ببعض أمور العمل، فأنت تثق في نتائجه لأنك حتمًا تثق في ماركة هذا الحاسوب الدقيقة جدًا أي تثق في صانعه، بالتالي تثق في طريقة عمله ومخرجاته.
ولله المثل الأعلى، هذا العقل طارح الأسئلة، إن وثقت في صانعه وهو الله فهذا يعني أنك تثق في تساؤلاتك وأنها منطقية، لكن إن لم تثق في صانع هذا العقل فهذا يعني أن هناك عطب أو مشكلة ما، فكيف تثق بمخرجات دون ثقة في صانع آلة المخرجات؟
وكون هناك عدد من التساؤلات التي لا إجابة لها فهذا لا يعيب العقل لأن له حدود في قدراته، تمامًا مثل جهاز الحاسوب الذي تمت برمجته لتنفيذ أمور بعينها لكنه حتمًا قد لا يكون ملمًا بأمور أخرى.
ومن هنا يخرج إلينا الملحدين مشككين في الكثير من الأمور التي لا يجدون إجابة لها، فعدم المعرفة بالحكمة أو سبب أمر ما لا ينفي وجود السبب، إنما هذا العقل البشري بكل قدراته التي أبدعها خالقها لها حد، فمهما أجهد هذا العقل في تساؤلات فلسفية لن يصل لإجابة لها؛ لأنه باختصار هناك علم معلوم وعلم يمكن البحث فيه وتعلمه، وعلم آخر محجوب أعلى من قدرات البشر.
أما لو كانت الأسئلة بغرض التشكيك في الصانع وخالق هذا العقل، أمثال الملحدين الذين يميلون لمبدأ المادة وأن الكون أصله مادة لا خالق له، فهذا تفكير ينافي المنطقية وأن لكل شيء سبب، ويستحيل تمامًا أن يتواجد شيء بلا سبب.
وقد أخبرنا الله عنهم في قوله:«أم خُلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون».
أومأ زكريا بدهشة: ولما هو سؤال مالوش إجابة بيتسأل ليه؟
ابتسم مراد مجيبًا: العقل كتير بيسأل أسئلة لا إجابة لها، وزي ما قلت لحضرتك في علم معلوم للجميع، وعلم يحتاج لبحث ويظهر مع التطور العلمي، وعلم ثالث محجوب مهما تقدم العلم لن يصل إليه أبدًا.
سكت الجميع مجددًا حتى زفر مراد بهدوء ماسحًا لحيته قائلًا: بستأذن منكم في كلمتين معاها.
قالها مشيرًا إلى عشق، فنظر زكريا ونبيلة لبعضهما البعض، أومأ زكريا وهو ينهض واقفًا: اتفضل.
ثم نظر لأخته فوقفت بتثاقل، تحرك الخال والأم منصرفَين، بينما ظل مراد جالسًا على أقصى جانب الأريكة فاركًا يديه ببعضهما بتوتر، وعشق في أقصى الجانب الآخر من الأريكة تتسارع ضربات قلبها بقوة...
سكتا قليلًا ثم بدأ مراد: أخبارك إيه!
أومأت قائلة: الحمد لله.
- أنا قصدت أسيبك فترة كافية لحد ما تهدي وتفكري كويس بدون تأثير مني عليكِ.
التفتت إليه بصدمة وقالت بصوتٍ متحشرج: قصدك إيه!
- أنا كنت واضح معاكِ جدًا من البداية، صحيح ما تخيلتش الأمور توصل للدرجة دي، لكن اللي كنت متأكد منه إن طريقي اللي اختارته لتحقيق هدفي غير ممهد إطلاقًا، لكن مش هقدر أتراجع.
- طب ما هي دي المشكلة، انت مش هتقدر تتراجع، وانا ما ينفعش أطلب منك ده، لأنك فعلًا صح، بس اللي حصل كان صعب أوي، أنا خفت بجد، اترعبت، لأول مرة يتسرق مني الإحساس بالأمان!
- يعني إيه!
قالها بنبرة بائسة، فتابعت: مش عارفة المفروض أقولك الكلام ده ولا لأ، بس الحياة من غير أمان صعبة، أنا في الكام يوم دول فكرت في كام قرار وما عرفتش أخدهم وأصمم عليهم...
- مش هتقدري تكملي!
أهدر بها مراد مقاطعًا بنبرة مختنقة، فتابعت بإيماءة نافية: ولا هقدر أبعد...
ابتلعت ريقها وأكملت: عمري ماهرتاح لما أبعد عنك، مراد، إنت ما ينفعش حد يحل محلك ولا يكون مكانك أبدًا، أنا عمري ما قابلت حد زيك، ولا عرفت أشوف أي حد غيرك، لأن ببساطة مفيش حد زيك، ومهما كانت الظروف ما قدرش أبعد، ما قدرش أكون بعيدة وما عرفش عنك حاجة، مراد، أنا حاسة بالرابطة اللي ربطانا ببعض، رابطة قوية وخفية، إحنا بس اللي حاسين بيها، مراد، أنا اختارتك إنت وهفضل جنبك ومعاك لآخر لحظة في عمري، حتى لو فكرت تسيبني عشان خايف عليّ، أنا بأه مش هسيبك.
- وأنا عمري ما فكرت أسيبك أبدًا، بس حسيت إن صعب تتحملي بعد كده.
- كل الحكاية إني خفت، ولسه خايفة، كأن المستقبل أصبح ضبابي مش ظاهر ملامحه.
- وهتفضلي خايفة حتى لو معايا!
- هخاف عليك، بس مش هعرف أحميك، أنا طلعت ضعيفة أوي.
- بس أنا شايفك قوية، لو إنتِ خايفة قيراط فأنا خوفي مضاعف عنك حتى أكتر من الأربعة وعشرين قيراط، بس مش على نفسي، خايف أكون بأذيكِ بوجودك جنبي وفي حياتي، وفي نفس الوقت خايف تملِّي وتتعبي وتسيبيني، خايف تفضلي خايفة وما اعرفش أطمنك.
ساد الصمت مجددًا ثم تحدثت عشق بهدوء: عارف أحسن حل إيه!
- إيه!
- نبطل نفكر ونشغل نفسنا بأسئلة مالهاش إجابة، انت مش لسه قايل كده!
أومأ برأسه مبتسمًا بسخرية وأردف: واضح إن باب النجار مخلّع!
فضحكت بخفوت قائلة: نعيش اللحظة أحسن...
- عندك حق، الخوف لا يمنع القدر، لكنه يمنع الحياة، والحياة نعمة بلاش نضيعها.
- صح!
قالتها بصوتٍ صافٍ، فابتسم قائلًا: لسه زعلانة مني!
أومأت برأسها نافية، وأجابت: بس أنا ما كنتش زعلانة منك، أنا كنت خايفة...
- تاني!
- خلاص خلاص، مش هتكلم عن الخوف.
- طب بمناسبة إنك هديتِ وروقتِ، فنجان قهوة من إيديكِ الحلوين!
- لا، هعملك عصير أحسن، بكرة يومك طويل ولازم تنام بدري.
أومأ برأسه مبتسمًا بامتنان فاتجهت عشق إلى المطبخ، بينما هو تلاشت ابتسامته، أغمض عينيه شاعرًا بأنه شخص أناني، فقط يريد ما يرضيه ويوافق هواه، لكنه بالفعل لا يقوى على الترك، وجد نفسه قليل الحيلة واقفًا مقيّدًا بين العشق والمراد، لا يريد إلا أن يختارهما معًا.
أما نبيلة وأخيها زكريا فكانا جالسين بإحدى الحجرات في حالة من القلق والترقب، وفجأة سمعا صوت الخلاط الكهربائي قادمًا من المطبخ، نظر الأخوان لبعضهما البعض، فهمست نبيلة لأخيها: يعني إيه! اتصالحوا!
- هم كانوا متخاصمين!
- ولا أعرف حاجة، بس هي مش متظبطة من كام يوم، وقاعدة ما فتحتش بؤها بكلمة من ساعة ما الراجل جه، ما هو أدامك!
- وارد يكون في سوء تفاهم وحَلُّوه، دي أول مرة من يوم ما خطبها يطلب مني إنهم يتكلموا على انفراد!
- لما يمشي أبقى أسألها...
- لا يا نبيلة، مادام اتصافوا يبقى خلاص، وعوديها إن الست ما تخرجش كلمة برة بيتها ولا حتى لأمها إلا لو لا قدر الله مشكلة كبيرة ومحتاجة حد كبير منا، وقتها بس نتدخل، فبلاش تسأليها.
- طيب طيب، تعالى نخرج للراجل بدل ماهو قاعد لوحده.
خرج زكريا مع أخته وجلسا بصحبة مراد وبعدها جاءت عشق تحمل صينية العصير، جلس الجميع جلسة ودية حتى انصرف مراد، ونفذت بالفعل نبيلة ما طلبه منها أخيها في عدم السؤال عن ما حدث.
تحسنت عشق عن ذي قبل وعادت المداومة في جامعتها وأيضًا في المجمع الخيري، لكن لم تختفي مخاوفها، هي فقط غطتها أمام الجميع ثم تعاودها كلما انفردت بنفسها، وهذا بالطبع لم يخفى عن مراد خاصةً من تهرب عينيها عنه، لكن لا فائدة، فالخوف إذا عرف طريق النفس استوطنها رغمًا عنها.
اقترب موعد اختبارات آخر العام، فطلب منها مراد التفرغ لدراستها والتدريب العملي الخاص بالكلية فقط، وقد فعلت.
وبمجرد الانتهاء من الاختبارات لم يكن متبقيًا سوى شراء أثاث منزلهما ثم فرش عش الزوجية بكافة المفروشات.
مر شهرًا بعد انتهاء الاختبارات وقد جُهّزت شقة العروسين تمام التجهيز أثاثًا وفَرشًا، وهاهو يوم زواجهما وقد أكّد مراد أن يكون ثوبها محتشمًا وتلتزم بحجابها حتى ولو كان الحفل إسلامي منقسمًا فيه الرجال عن النساء، وقد لبت طلبه باقتناع.
كانت عشق جالسة في القسم النسائي من قاعة المناسبات الملحقة بالمسجد، كانت كملكة متوجة، مرفرفة القلب من فرط سعادتها تكاد تحلق به لأعلى وأعلى، وأخيرًا يتحقق الحلم وسيكمل اليوم كلاهما نصفه الناقص في الآخر، نظرت إلى باقة الورد الحمراء الممسكة بها بإحدى يديها وبيدها الأخرى تمسّد على فستانها المحتشم هادئ التطريز، تنهدت وأغمضت عينيها بزينتها الهادئة، أشرق وجهها بابتسامتها الصافية وتوّجها حجابها الملتزم الذي لم تفرط فيه حتى ولو ستجلس وسط النساء.
الجميع جالسًا يستمع لكلمات المأذون الشرعي وهو يعقد قرانهما، متوسطًا الجلسة بين مراد وزكريا المتصافحين بكفيهما المغطى بمنديلًا أبيضًا، وباقي المدعوين الرجال جالسين حولهم، تعتلي وجوههم جميعًا ابتسامة السعادة والفرحة الصافية، إلا وجهًا واحدًا بدت ملامحه غير مفهومة، أجل، وجه ياسر!
جلس الجميع بعد عقد القرآن يستمعون إلى فرقة إنشاد إسلامي تردد بعض الأناشيد الدينية، وسرعان ما انتهى حفل الزفاف وزُف العروسين أثناء خروجهما من القاعة بدقات الدفوف وبعض الأناشيد.
وصل العروسان إلى عشهما الجديد بصحبتهما هشام وزوجته، أمها نبيلة، الخال زكريا وزوجته، و... ابن خالها ياسر.
دخل العروسان شقتهما الرائعة وكل شئ فيها مرتب ورائع، بدأ هشام يلتقط صورًا تجمع العروسين في كل إنشٍ في بيتهما وسط زغاريد أمها وزوجة خالها.
الجميع سعيد وفرحًا أشد الفرحة، يتمنون السعادة والبركة للعروسين، ثم نادت نبيلة على ابن أخيها فاقترب منها فقالت له: معلش يا ياسر في شنطة العربية بتاعة أبوك لفة كبيرة فيها عشا العرسان، نسيته في العربية انزل جيبه بسرعة عشان أدخله.
أومأ مبتسمًا ابتسامة لم تصل إلى عينيه: عنك يا عمتو، خليكِ مكانك وأنا هعمل كل حاجة.
ربتت على كتفيه بسعادة قائلة بحب: ربنا يبارك فيك يا حبيبي ويسعدك ويوعدك ببنت الحلال يا قادر يا كريم!
تلاشت ابتسامته تلقائيًا وانصرف من أمامها دون أن يعقب، أخذ مفتاح السيارة من أبيه، ذهب وعاد بعد قليل حاملًا لفافة العشاء متجهًا بها للداخل بينما الجميع منشغل بمتابعة العروسين أثناء التقاط الصور المختلفة لهما.
ضحكات السعادة والفرحة ترتج بأرجاء البيت، لم تلتفت لملامح أحدهم العابسة، الحاقدة، التي يشوبها شيئًا آخر بعد أن فعل ما فعل!
في جميع الأحوال لم يأبه أو يلتفت إليه أحد، الجميع مشغول عنه كأنه غير موجود، في الحقيقة لا وجود له من الأساس بينهم؛ هنا فقط أصحاب القلوب المباركة للزيجة.
مر بعض الوقت ثم سلم الجميع عليهما، عانقتها أمها بحرارة فترقرقت عيناها؛ فهي أول مرة تبتعدان، لكن مراد قد وعدهما ألا تغيبا عن بعضهما أبدًا.
وعانق هشام أخيه، الذي حقًا أخيه وليس مجرد ابن عمه، كان عناقهما حارًّا، شدد هشام في عناقه بطريقة لا إرادية، لديه شعور مسيطرًا عليه يدفعه للبقاء دون المغادرة، لكن بالطبع اعتبره مجرد هاجس أرعن، وفي الأخير قد غادر الجميع.
أغلق مراد الباب وتحرك نحوها بهدوء، كانت تفرك يديها ببعضهما البعض متوترة ناظرة أرضًا على استحياء، وقف مقابلًا لها ثم تنحنح قائلًا: متوضية زي ما قلتلك!
أومأت برأسها دون أن تعقب، أشار لها بيده نحو حجرتهما، حملت ثوبها متحركة بهدوء نحو الحجرة ثم تبعها مراد، اصطف كلاهما وصلى بها ركعتين خفيفتين بصوته النديّ، وبعد أن سلما وضع يديه على رأسها وتمتم داعيًا فتمتمت مؤمّنة.
بعد قليل نهض واقفًا مادًّا يده نحوها، أمسكت بكفه بيدها المرتعشة ثم نهضت واقفة.
وقفا متقابلين، أمسك بيديها وقبّلها بين عينيها بعمقٍ زاد من رجفتها، ثم همس منحنيًا نحو أذنها: ألف مبروك. نورتِ مملكتك يا سمو الملكة.
ابتسمت رغمًا عنها من دعابته، أجابت هامسة: مبروك عليّ انت يا سمو الملك.
فضحك هو الآخر قائلًا: بترديها على طول كده!
- لو أنا سمو الملكة فأكيد إنت سمو الملك.
شعرت بإحدى يديه تطوق خصرها وظل ممسكًا بكف يدها الأخرى فأسندت يدها الأخرى تلقائيًا على صدره، قربها إليه وتحرّك بخطواتٍ هادئة كأنما يراقصها، كم حلمت بذلك كثيرًا، أن يراقصها حبيبها ويميل بين ذراعيه جسدها ليس على نغمات الموسيقى بل على نبضات قلبيهما، وهمس إليها برقة:
جئتنا بالشعور والأحداق
وقسمن الحظوظَ في العشاقِ
وهَزَزْنَ القَنا قُدودًا، فأَبلى
كل قلبٍ مستضعفٍ خفاقِ
حبذا القسم في المحبين قسمي
لو يلاقون في الهوى ما ألاقي
حيلتي في الهوى وما أَتمنى
حيلة الأَذكياءِ في الأَرزاق
لو يُجازَى المحبُّ عن فَرْطِ شَوْقٍ
لَجُزيتُ الكثيرَ عن أَشواقي
[ أحمد شوقي]
ثم قال ولا زالا يتحركان بمراقصة هادئة:
في زهرتَي ذا العود من أهل الهوى
جُمعت صفات كالعاشقَين تقابلا
لكن على سُرر النبات متآنسين
يلاقيان الحــب من كل الجهات
هذا على هذا حنا
ولذا إلى هذا التفات
[ أحمد شوقي]
فقضمت شفتيها على استحياء، فابتسم وتوقف عن مراقصتها، تطلع إلى كل إنشٍ فيها وقال بعشق ورماديتاه تعانق عسليتيها بحرية لأول مرة على الإطلاق: بحبك يا عشق.
وأخيرًا نطق اسمها متذوقًا حروفه ومعناه كما تمنى ورغب دائمًا، ولأول مرة تسمع اسمها يخرج من بين شفتيه، فكثيرًا ما تساءلت عن سبب تلاشي نداءها إلا بـ ( آنسة) وإن نطق اسمها يلفظه مسرعًا بطريقة بدت مستفزة، لكنها لم تعلم جمال اسمها كيف يكون خاصةً مع كل هذا الكم من المشاعر الصادقة المتدفقة.
دارت هذه الأفكار في رأسها، لكن لم يظهر على وجهها سوى ابتسامة رضا، لكنها لم تدرك بعد كم أن عينيها واشيتين، وقد أوشت بكل مكنونات الأفكار والمشاعر.
أكمل مراد: كتمت كل مشاعري لحد اليوم ده، عشان أقدر أصارحك بحرية، أقدر أبص في عينيك زي ما أنا باصص كده، أقدر أخرّج إحساسي بحرية، وبعدها أقدر أطمنك وانا بضمك ليّ.
قالها وضمها إليه مشددًا في ضمته، شعر كلاهما باضطراب نبضات وأنفاس الآخر، ربما ترددت عشق بعض الوقت لكن في الأخير بادلته عناقه معلقة ذراعيها حول عنقه، استشعرت أنفاسه الدافئة، استنشقت عطره بكل حرية.
شعر بين ذراعيها كأنه عاد طفلًا يمرح وسط حنانها المفرط وبسماتها الصافية، وفي نفس الوقت رجلًا عاشقًا لها في سكناتها وهمساتها، براءتها وأنوثتها الطاغية المتغنجة...
ثم همس إليها بنبرة بدت لعوبة وماكرة:
سألت حبيبيَ في قبلةٍ
فما نعنيها بحكم الخجل
فلازمت صبرىَ حتى غفا
وملت على خدّه بالقبل
فنضّى عن الجفن ثوب الكرى
وعما جرى بيننا لا تسل
[أحمد شوقي]
فابتعدت قليلًا بشهقة أهدرت بفجأة: مراد!
فقهقه بملء صوته فاحتلت وسامته كل إنشٍ في وجهه حد الفتنة، وجمت محملقة فيه تتطلع إلى هذه الوسامة بإعجابٍ صريح، فأجابها: يا عيون مراد.
أخفضت بصرها بوجنتين مشتعلتين خجلًا، فقد أعلنت عيناه عن نيته الماكرة، رفع وجهها إليه من طرف ذقنها ثم أمسك وجنتيها متملّكًا، اقترب أكثر بهدوء مع بعض التردد، ظل محدقًا بكل إنشٍ في وجهها كأنما يحفظ ملامحها ويخزنها داخل ذاكرته فتظل أمام رماديتيه في صحوه ومنامه.
ثم تجرأ خاطفًا قبلة طويلة من شفتيها فتبعثرت النبضات والرجاحات، تجردا من أي عقلانيات، وبدأت تستشعر رجلًا جامحًا كان مختبئًا داخل أعماق مرادها الهادئ الرزين، حان ظهوره لها وحدها، ثم...
Noonazad 💕💗💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top