(11)
#سيظل_عشقك_مرادي
(الفصل الحادي عشر)
بقلم نهال عبد الواحد
اتصل مراد بزكريا خال عشق يستأذنه في زيارتهم لأمر يخص ابنتهم، بالطبع رحب وحدد الموعد.
منذ ذلك اليوم الذي أخبرها فيه مراد رغبته بخطبتها، ميله إليها، لا زالت تحاول استيعاب أنه أمرٌ واقعي وليس حلمًا أو تهيؤات يرسمها عقلها لها كالعادة.
هذا البطل الذي جذبها منذ أول لقاء وتمنته ظانّة نفسها حمقاء، لكنه تحقق، هيا يا أيام مُرّي بسرعة، بل اركضي وتوقفي عند ذلك اليوم، يوم الموعد، تتمنى ألا تتحرك عقارب ساعات ذلك اليوم؛ لتنعم بكل لحظة فيه، تحفرها داخل قلبها وذاكرتها.
أما مراد فلم يختلف حالًا عنها، هو أيضًا ينتظر قدوم هذا اليوم، يشعر أنه أبطأ أسبوع يمر عليه، كلما مرّ اليوم وانتهى، يقطع ورقته من دفتر الأيام بمنتهى السعادة، ثم يقوم بعد الورقات المتبقية حتى ذلك اليوم.
قد اختلفت ملامحه وتبدّلت، فمن يرد معرفة ماهية السعادة، فقط فلينظر إلى وجهه سيجدها متجسدة في كل إنشٍ من ملامحه.
وأخيرًا جاء اليوم المنتظر، البيت عند عشق على أتم استعداد لاستقبال هذا الضيف الجليل.
وصل مراد بالفعل بصحبته هشام ابن عمه، أخيه وأقرب الناس إليه، وكان زكريا ونبيلة بانتظارهما، حسب الموعد بعد صلاة العشاء، وبعد التحية والترحاب مع بعض أقوال المجاملات المعتادة.
تحدث مراد بتوتر: في الحقيقة إحنا جايين إنهاردة نتقدم لخطبة الآنسة كريمتكم وأتمنى القبول، وده هشام ابن عمي وأخويا، وإن شاء الله بعد كده هيحصل تعارف مع باقي أفراد العائلة.
ابتسم زكريا وتابع مرحّبًا: إن شاء الله كل خير، والله مهما اتكلمنا مش هنقدر نوصف حجم سعادتنا بزيارتك ولا طلبك اللي لا كان على البال ولا على الخاطر.
قالت نبيلة: إحنا اتشاورنا وأخدنا رأي العروسة، وربنا يتمم بخير!
استطرد هشام: في الحقيقة عمي الله يرحمه توفاه الله بعد جوازه مباشرةً، وماما زوزو مرات عمي الله يرحمها بعدها اكتشفت حملها، واختارت تكمّل حياتها أم للطفل ده وتعيش وفيّة لذكرى عمي رغم إنها كانت لسه في عز شبابها، أنا ومراد اتولدنا في أسبوع واحد واتربينا مع بعض، لكن والداته دخّلته مدارس أزهرية من صغره، وكمّل تعليمه الأزهري لحد ما تخرج من كلية الشريعة وبدأ يعمل دراسات عليا في الشريعة والفقه واللغة العربية، وأنا عشان ولد وحيد على بنتين فكنت تقريبًا مقيم مع مراد، لحد ما والدته الله يرحمها بدأت صحتها تتدهور وبعد كده توفاها الله، فضلت مقيم معاه في بيت عمي إقامة كاملة لحد من تلات أربع سنين كده عشان اتجوزت، وبآينا نتقابل في المجمع، ما أنا مسئول عن المستوصف وبشتغل فيه ساعات، وكل فين وفين لما يرضى يجي يزورني في بيتي.
أومأت نبيلة باستحسان: ربنا ما يحرمكمش من بعض! ونِعم الأخوات، وربنا يرحم كل أمواتنا!
ثم قالت: بصراحة كده في حاجة مهمة، إحنا صعب نعمل حفلة خطوبة، ده أبوها لسه يادوب ما كملش حاجة متوفي.
تابع زكريا: وهو الشيخ برضو بتاع حفلات! إحنا ممكن نتفق ونقرأ الفاتحة ودبل كده عشان يبان إن البنت اتخطبت، ونخلي الخطوبة والشبكة ع الصيف.
أومأ هشام معترضًا: حضرتك ليه قراية فاتحة وبعد كده خطوبة؟! إحنا فعلًا ممكن نقرأ الفاتحة دلوقتي وع الصيف يكون الزفاف بمشيئة الله! مراد شقته جاهزة، يادوب هتحتاج دهان وش نضافة، وطبعًا لو في حاجة تانية حابين تغيروها مفيش مشكلة، وشرا العفش بيكون قبل الفرح مباشرةً، هي عروستنا تخلص امتحان ويتجوزوا، ليه يستنوا؟ وبعدين مراد مش بتاع أفراح وصخب وكده.
فقالت نبيلة: ليه؟ البت تدخل سُكيتي!
أومأ هشام نافيًا: لا يا فندم، لكن مراد هيحب فرحه يكون إسلامي، يعني الرجال لوحدهم والستات لوحدهم ويادوب فرقة إنشاد كده تحيي الحفل وتزف العروسين.
تابع زكريا: وماله، أحسن من الدوشة برضو.
قالت نبيلة معترضة: بس...
قاطعها زكريا: مش هنقعد البت جنبنا أكتر من سنة يا نبيلة، ده بتاعنا وده بتاعنا، وكده كده مادمت مفيش هيصة يبقى خلاص، وبعدين الفرحة جوة القلب وفرحة العريس بعروسته، وكمان الله يرحمه ما كانش هيرضى يقعدها جنبه ويطوّل فترة الخطوبة.
تابع هشام: عين العقل يا حاج، هه يا ست الكل، قلتِ إيه!
تنهدت نبيلة قائلة بسعادة: قلت لا إله إلا الله! ربنا يتمم بخير! الواحد هيعوز إيه غير واحد ابن حلال يحافظ على بنتي، ويشيلها في عينيه، ويراعي ربنا فيها.
أردف هشام: يبقى اتفاقنا! فين عروستنا بأه عشان نقرا الفاتحة؟
ضحكت نبيلة ونهضت واقفة بعد الاتفاق على طلبات الزواج المعتادة، اتجهت إلى الداخل لحظات، ثم عادت وجوارها ابنتها تسير على استحياء حاملة صينية كبيرة تحتوي على أكواب العصير وأطباق من الحلوى.
طلت في فستان من البنفسج الداكن وحجاب من اللون الأسود، تسير مرتبكة بشدة لدرجة اتضحت في ارتعاشة يديها الحاملة لتلك الصينية المهتزة!
وصلت عشق بالصينية، وضعتها على المنضدة دون خسائر، ألقت السلام بخفوت وصوتٍ مرتعش، جلست بين أمها وخالها تفرك يديها بعضهما ببعض، تنظر أرضًا متوردة وجنتيها بحمرة الخجل، تزوغ بؤبؤتا عينيها بتوتر وارتباك شديد.
بعد قليل قرأ الجميع الفاتحة، وبعد أسبوعين سيجئ العريس بصحبة بعض أقاربه لتقديم خاتم الخطبة.
لم يكن حال مراد مختلفًا أبدًا عن حال عشق من حيث التوتر والارتباك المختلط بسعادة غامرة جعلته صامت طوال الوقت.
حتى تحدث زكريا بدعابة: مالك يا شيخ مراد! ما سمعناش صوتك من بدري!
أومأ مراد على استحياء قائلًا: معلش سامحني إنهاردة يا حاج.
ضحك زكريا وهشام على حالته، فقال زكريا: طب قل لنا أي حاجة من كلامك الحلو يا شيخنا.
أهدر هشام ومراد معًا بدهشة: دلوقتي!
أومأ زكريا مبتسمًا: وماله! المهم نسمع صوته وكلامه الجميل.
تنحنح مراد وسكت بعض الوقت يفكر فيما يمكن قوله، ثم قال بصوتٍ مهتز: كل ما نفعله من طاعات وإنفاق وحضور مجالس العلم و... هو لتحقيق الشعور دائمًا بمعية الله.
«من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون»
والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، تراه في كل شيء، فلا تغيب عنه في شيء، وكثيرًا ما يغيب عنا شعور تلك المعية رغم أنه معنا أينما نكون بل أقرب إلينا من حبل الوريد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه أتقانا لله وأشدنا له خشية، أي أن كل أفعاله هي الأفضل على الإطلاق في أوقاتها، أي وقت قيامه بفعل ما هو أنسب وقت لهذا الفعل، مهما بدا لنا الفعل عاديًا، حتى ولو كان يتسابق مع أمنا عائشة رضي الله عنها، أو كان يلعب مع أحفاده!
أي أنه صلى الله عليه وسلم قام بالكثير من الأعمال التي تظهر للرائي أنها أعمال دنيوية، إنما كانت هي الأفضل في هذه الأوقات وقد حقق من خلالها معية الله.
فذلك الموظف المنكب على وجهه في كتابة التقارير أو ذلك الطالب المشغول بمذاكرته دون أن يتنفل أو يكثر من قراءة القرآن هو محقق لمعية الله؛ لأن العمل الذي يقوم به هو الأنسب لذلك الوقت.
فلا تحجب نفسك عن الله بتصورك أنك لست مع الله مادمت لا تصلي أو تقرأ القرآن في لحظة ما.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: «إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» إذن حتى وهو نائم فهو في معية الله.
إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده
و اليوم حتى ونحن نقوم بعمل يظهر للرائي أنه دُنيوي بحت، إلا أنه الأنسب الآن لنا جميعًا، أي حتى ونحن سعداء الآن فنحن في معية الله...
«قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين»
«وهو معكم أينما كنتم»
صاح زكريا بسعادة: الله يفتح عليك يا شيخنا! والله كلامك يدخل القلب! وصاحب الكلام طبعًا!
قالها زكريا بضحك، وضحك معه الباقين، مال إليه هشام وهمس: مفيش فايدة فيك! حتى وإنت جاي تخطب، بتخطب!
فنظر إليه مراد وأسكته...
مر الأسبوعان سريعًا، فاليوم هو اجتماع عائلي صغير لتقديم خاتم الخطبة إلى العروس.
كان زكريا يعد نفسه ومتأهّبًا للذهاب، فُتح الباب ودلف ياسر مجهدًا، ألقى السلام ثم جلس بتعب وتثاقل، حرّك رأسه يمينًا ويسارًا ممسكًا رقبته بيديه يدلكها بإرهاق، جلس أمامه أبوه وأهدر: وأخيرًا شوفناك، عاش من شافك يا أخي! الاسم عايش معانا في بيت واحد! قل لي كده آخر مرة شوفناك زي الناس من إمتى؟!
زفر ياسر بضيق وأجاب: معلش سامحني يا بابا، بس مشغول جدًا، ومشاكل وأرف!
- تنشغل عن أهلك برضو!
- كان بآلي أسابيع بجري ورا حتة أرض عشان اشتريها وأبني عليها، وبعد ما تعبت أد إيه ودخلت المزاد واشتريت الأرض وسجّلتها، جه واحد وخدها مني وضع يد، وقال إيه عضو مجلس شعب ومعاه حصانة! وانا بأه أضرب دماغي في الحيط!
- لا حول ولا قوة إلا بالله! طب وبعدين! هتعمل إيه!
- في واحد ظابط كان معرفة، عرفت إنه اشتغل في أمن الدولة، هحاول أقابله وأعرض عليه الأمر وأشوفه يقدر يعمل إيه!
- يا بني ربنا ييسرلك ويرجعلك حقك إن شاء الله!
التفت ياسر حوله وتساءل: أمال فين ماما؟ هي مش هنا! وبعدين شايفك لابس ومتشيك على فين كده؟ رايح فرح ولا إيه!
اتسعت ابتسامة زكريا: آه خطوبة بت عمتك، وأمك مع عمتك من الصبح بيجهزوا عشا يليق بالعريس وأهله.
اتسعت عينا ياسر بصدمة، فرغ فمه قليلًا ثم تساءل ببلاهة: بت عمتي مين وخطوبة إيه؟!
ضرب زكريا كفًا بكف وقال بتعجب: لما هي عمة واحدة وعندها بت واحدة، صحصح وفوق كده! دي خطوبة عشق بت عمتك، قوم غير هدومك ويلا معايا.
أهدر بخفوت وروحٍ محترقة: وحصل إمتى ده؟ هو أنا انشغلت للدرجة دي!
- أمال أنا بقول إيه! ومش هتصدق مين العريس! الشيخ مراد عبد الرحمن بنفسه، بسم الله ما شاء الله! الواحد كان حامل الهم أد إيه بعد ما بأت مسؤولة مني بعد موت أبوها الله يرحمه! بس اتيسرت أوام الحمد لله ومفيش أحسن من كده، ربنا يسعدهم ويهنيهم ويهدّي سرهم!
قال الأخيرة بسعادة غامرة، وأكمل دون أن يلتفت لذلك المطعون أمامه: يلا بأه، لازم أكون في استقبال الناس، دول هيجوا بعد صلاة العشاء على طول.
أهدر بأنفاس تكاد تنقطع: معلش يا بابا اتفضل روح وما تتأخرش إنت على الناس، أنا لسه هاخد دش وأغير، وأهدى شوية، مش معقول أروح بهيئتي دي! اتفضل حضرتك وهبقى أحصلك أنا.
أومأ زكريا بتفهّم، نهض واقفًا واتجه إلى الباب وقال دون أن يلتفت: طب يا ياسر، حاول ما تتأخرش عشان تلحق تيجي وتتعرف على الناس، يلا سلام عليكم ورحمة الله.
انصرف زكريا وأغلق الباب خلفه، ظل ياسر مكانه ناظرًا إلى نقطة فراغ، شعر بتصدع فجائي وشروخ تتمدد في كل إنشٍ من جسده، لدرجة شعر أنه لو نهض واقفًا وسار على قدميه سينهار كما ينهار أي مبنى في مكانه، سيتحول جسده هذا لمجرد أنقاضًا وترابًا رثًا، مجرد أطلال، هذا هو حقًا أنسب وصف له، أطلال إنسان.
بل هو احتراق شديد غمر كل أنحاء جسده، في كل مرة رفضته فيها وتعاملت معه أنه مجرد أخ، كانت طلقة نارية تسكن طيات قلبه، عندما قبلت غيره بمثابة سكب البنزين وإشعال النيران به، هاهو يحترق ويتآكل، هاهو يتحول لرماد مجرد أن يخرج للهواء سينثره ويقذف به في كل اتجاه، ويصبح مجرد هباءً منثورا.
ليت احتراقه يحوله لرماد فينتهي كل شيء، لكنه فقط يحترق ويتألم، يتذوق مرارة العذاب الأليم.
لم يتوقف عن طرح سؤال بعينه، لماذا؟ لماذا؟
لماذا تركتيني؟ رفضتيني! بلهيب عشقك لوّعتيني،
بسقم وجدك أمرضتيني، صبا قلبي بحبك جننتيني، بمعاناة الكلف مزقتيني، بهواكِ أغرقتيني، بسهام عينيكِ أصبتيني، بنار إهمالك أحرقتيني، واليوم ألقيتِ بي في قبري ودفنتيني، أين عمري، أيامي، وسنيني؟ قلتُ ستظلي عشقي ومرادي فلمَ استبدلتيني؟ لكن، وحق عذابي وحنيني، ستعودي يا عشقي متوسلة تتمنيني!
ضربت في رأسه فكرة حمقاء، عبثت به بين مدٍ وجزر، هيا تشجّع وتخلّص من حياتك، كيف لحياة أن تكون بدونها؟ كيف تستطيع العيش وتراها تُزف لرجلًا غيرك، تتوسد صدره وبين ذاعيه؟ إن ذهبتِ لغيره فهي نهاية الحياة!
لكن في نفس اللحظة دفع هذه الفكرة الحمقاء، طردها بعيدًا، كيف يتركها له بهذه البساطة؟ أليست هي عشقه ومراده!
تحرّك نحو الحمام دون الشعور بخطواته أو أنه كان يتخبط بقطع الأثاث أثناء سيره، فتح مرش الماء على رأسه دون اهتمام إن كان باردًا أو ساخنًا، أجل لا يهم أي شيء، سيفقد الشعور بمذاق أي شيء، سيفعل أي شيء بلا روح ولا اكتراث، لكنه أكّد لنفسه أن كل هذا لن يدوم، سيتغير كل شيء، سيستعيد كل شيء، وسيفعل أي شيء وسيظل عشقك هو المراد.
- إن الأيام دول، يوم لك ويوم عليك، فإن كان اليوم عليّ فغدًا سيكون لي وحدي بلا منازع!
حدّث بها نفسه وهو يزيح الماء على رأسه، ومعه يزيح أفكار مستعدًا لوضع غيرها...
Noonazad 💕💗💕
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top