البارت الأول

كانت السماء ملبدة بغيوم داكنة تبثّ الكآبة في نفوس المتجولين، كان المارة يهرولون في خطاهم لتجنب المطر الذي ينذر الطقس بهطوله، و من بين هؤلاء عبرت فتاة نحيلة تركض بثياب النوم الرقيقة كأنها تتحدى برودة بداية فصل الشتاء، فيما ركض خلفها شخصان آخران بثياب سوداء و لثام يحجب ملامحهما.

لهث الإثنان الذان توقفا عند مفترق طرق أضاعا من خلاله أثر الفتاة، نزع أحدهما اللثام و بدأ يشم العبير من حوله و كأنه يحاول التقاط رائحتها، لكن ما التقطه هو رائحة بقع الدم القليلة المتفرقة باتجاه مفترق اليسار، ابتسم بجانبية و انطلق إلى مسعاه يسابق الرياح مع شريكه.

دخلت الفتاة زقاقا ذا نهاية مسدودة و ألقت بكتفها على الجدار علّها تلتقط أنفاسها و يخف ألمها، إذ وضعت يدها على الجرح الغائر في ذراعها و إذا بها مبتلة بدماء حمراء قانية، لم يكن مجرد جرح كهذا ليوقفها أو يستنزف طاقتها عادة، بيد أن السيف الذي طعنها بينما كانت متخاذلة في شقتها كان منقوعا في سم قوي ممزوج ببعض من سحر النور.

تنهدت بينما تلاعب الرياح شعرها الأسود القصير و الذي التصق معظمه بوجهها المتعرق، لقد شعرت بوجود كيانين يحاصرانها عند مدخل الزقاق، مصاصي دماء من النخبة، لكنها مبتدآن فيما يتعلق بعالم البشر، فبعد أن أحدثا ضجة كبيرة في شقتها و أثارا انتباه الكثير من الناس حولهم خلال عملية المطاردة؛ أدركت ذات العيون الفحمية أنهما حديثا الخروج من العالم السفلي، ربما هربا؟ أو نفيا؟ لم تستطع الجزم لكنها كانت واثقة من شيء واحد و هو أنهما يكنان ضغينة كبيرة ضدها بشكل أو بآخر.

تقدم الرجل ذو البنية الضخمة الذي خلع لثامه آنفا، و ألقى بظلاله عليها، بينما يلوح الآخر ذو البنية الهزيلة بسيفه حولهما كما لو أنه يلمح إلى حماية ظهر شريكه في حال فكرت في القيام بأي حيلة أو إلقاء تعويذة سحرية.

تحرك بؤبؤيها السوداوين متفحصة إياهما، كانت تبحث عن ثغرة تمكنها من الفرار، إلا أنها أكثر تعبا و استنزافا من أن تعثر على منفذ، ترنحت لبرهة ثم استجمعت شتات نفسها، حاولت أن تشحذ كل ذرة سحر ما تزال تسري في عروقها رغما عن الألم النابض في ذراعها الأيمن.

و لأن مصاصَيْ الدماء الذان حاصراها كانا يخالان أنها استُنزفت تماما؛ أرخيا دفاعاتهما، و بمجرد أن أدركت صاحبة ارشعر القصير ذلك، قامت بهجوم مباغت! إذ أردتهم مصابين بعد أن اخترقت جذور سميكة مدببة أطرافهما، و بذلك شلت حركتهما تماما، أو لنقل لفترة على الأقل ريتما تبتعد قدر المستطاع.

سارت متجاوزة إياهما كأن ما أصابهما لا يعنيها، بينما ما تزال الجذور التي اخترقت بلاطات الأرض الحجرية تلتف حول أقدامهما و أذرعما بينما تخترقها هي الأخرى.

خرجت من الزقاق و سلكت طريقا شبه فارغ من المارة، لكنها لم تستطع تجنب أعين الذين كانوا يمرون بجانبها بين الفينة و الأخرى، فقد كانت مثيرة للريبة بحق؛ مع وجه مبلل بالعرق، و ذراع تنزف بلا هوادة إثر جرح غائر، و ملابس خفيفة حافية القدمين في بداية الشتاء، خالها البعض مجنونة بينما أشفق عليها البعض ظنا أنها كانت ملاحقة، رغم أنها كذلك بالفعل! بيد أن أحدا لم يجرؤ على التدخل خيفة من الوقوع في مشاكل لا طائل منها.

أخيرا وصلت إلى وجهتها! عبرت باب بناية سكنية متوسطة لا تحتوي سوى بضعة شقق مأهولة، تسلقت الدرج بصعوبة و بالكاد ماتزال تستطيع التقاط أنفاسها بينما ترتجف.

ألقت اللوم على نفسها لتخاذلها آن ذاك، لمجرد أنها شعرت بالأمان بسبب الهدوء الذي عمّ خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت تلعن تحت أنفاسها الساخنة التي تعارك الهواء البارد من حولها، شعرت بثقل لا مثيل له في جسدها و بالكاد بلغت وجهتها أخيرا، طرقت الباب بضعف في قبضتها و انتظرت بصمت.

اللعنة عليكما...

لعنت بمجرد أن سقط ظلان متفاوتي الطول عليها من الخلف، ظنت أنها ستكسب ما يكفي من الوقت إذا أصابت الأطراف، لكن يبدو أنه توجب عليها استهداف المناطق الحيوية كالقلب و المعدة، كما أن إصابتها و ذلك السم القوي أبطآ حركتها بشكل مخيف، ما جعلها عرضة للإستهداف و أبطأ من أن تلوذ بالفرار.

فجأة ارتطمت جثتان ثقيلتان بالأرض محدثتان ضجيجا عاليا، ما جعل ذات الشعر الأسود تلتفت بتفاجؤ لأنها لم تشعر بوجود شخص ثالث بينهما، و اتسعت حدقتا عينيها بعد أن التقت بحدقتيه الذهبيتين اللتان تتألقان بجوّ وديّ يناقض منظر سيفه المهيب الذي يقطر دما.

شيزو...

أخفى السيف في جزء من الثانية و هرع لإمساكها قبل أن ترتطم بالأرض هي الأخرى، احتلت علامات القلق تقاسيم وجهه الشاحب، و ظلت عيناه الذهبيتان تتفحصانها بحثا عن أي إصابات أخرى عدا التي في ذراعها، لكن تعبيره ذاك تحول إلى برود فجأة، و التفت يحدق بعداء نحو الشخص الذي يصوب مسدسا نحوه من مسافة قريبة بينما يعانق كيس البقالة الورقي بإحدى ذراعيه.

حدقا ببعضهما لبرهة ثم تحولت نظرة الرجل الواقف إلى شيزونا؛ الفتاة التي الهزيلة التي يعرفها حق المعرفة، ممددة بين ذراعي رجل أشقر مشبوه عند عتبة بابه بينما ثمة جثتان مشطورتان تنزفان شلالا من الدم الذي لا يبدو أنه سيتخثر في وقت قريب، ما بدا مثيرا للريبة أكثر.

أدرك الشخص الذي يحمل المسدس الوضع بسرعة و عدل طريقة إمساكه للمسدس بينما ألقى كيس البقالة بعيدا على أهبة لأي حركة مفاجِئة، ثم أردف قائلا بنبرة تحذيرية:

ضع شيزونا أرضا بهدوء و تنحى عنها.. حاول أن تتسبب لها بمزيد من الأذى و سأجعل دماغك يتناثر من حولنا...!

لم يأبه ميان للتحذير الموجز الذي قدمه خصمه، و على النقيض من ذلك وقف فيما حمل شيزونا بين ذراعين، و تحرك كأنما لا أحد أمامه مع مسدس ملقم و موجه نحوه، تحدث ميان بنبرة عميقة كتحذير أخير لنفاذ صبره:

تنحى جانبا.. أريد أن آخذ زوجتي ليس إلا...

لقد أدرك صاحب الشعر البني الفاتح و اللحية الخفيفة أن الشخص الذي أمامه ليس مدعاة للمزاح، فقد حذرته شيزونا من قبل بأن يتجنب الإحتكاك به و بأتباعه، لكنه لم يكن الآن في وضع يسمح له بالتراجع، فحتى لو كان الذي يقف أمامه الآن بشموخ هو ملك العالم السفلي الذي أعدم عائلته و جميع أعدائه؛ فإن للفتاة التي بين ذراعيه فضل كبير عليه، لذا لم يجرؤ على التنحي جانبا و التخلي عنها في ضعفها على عكس جميلها و مساعدتها له في وقت سابق.

كان المطر يهطل بغزارة في الخارج، بينما تسابقت الرياح بلا هوادة تحرك الأشجار المغروسة على جانبي الطريق، فجأة سمع صوت إطلاق ناري أشبه بصاعقة برق تضرب بالقرب من ذلك المبنى السكني، لكن ما لم يدركه المارة الذين بللهم المطر و أفزعهم الصوت الذي اخترق ضجيج الرياح؛ أنه لم يكن برقا بل طلقا ناريا تبعه صوت سقوط النصف الأمامي للمسدس الذي شطر نصفين بعد الرصاصة.

عدل ميان وضعية وقوفه بعد أن أخفى السيف ثانية و أمسك شيزونا بإحكام كي لا يؤلمها الجرح على ذراعها، و في لحظة عزمه على المغادرة تفاجأ بباب الشقة يفتح خلفهم، و إذا به طفل بعمر الثانية عشرة ينفخ على حفنة الغبار البراق الذي انكشف حالما فتح قبضة يده.

لم يستطع ميان تجنب استنشاق الغبار الأخضر الذي نثر في وجهه فجأة، مما أشعره بالدوار للحظة، ثم فقد القوة في ساقيه لذا جثى و وضع شيزونا في حضنه خيفة أن يفقدها مجددا.

بمجرد أن انقطع اتصال ميان بالعالم و فقد وعيه تماما، التقط الرجل ذو اللحية الخفيفة شيزونا و دلف بها إلى داخل الشقة، فيما أردف قائلا:

برنارد.. تخلص منهم.. جميعا...

أومأ الفتى و أغلق الباب خلفه بمجرد أن دخل الرجل مع شيزونا، ثم بدأ يطوي أكمام قميصه بينما يعاين الأجساد الملقاة من حوله و التي كان بعضها ممزقا و مدرج بالدماء، ليشرع في تنفيذ ما طلب منه بتعبير بارد خالٍ من المشاعر، مما يناقض بنيته و ملامح وجهه الطفولي.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top