(الأخير)
بقلم نهال عبد الواحد
انصرف عزيز تاركًا جمال مكانه متابعًا خطواته بعينيه حتى اختفى من أمام ناظريه، بعدها ظلّ مكانه محملقًا في اللافراغ شاعرًا بفوضى صارخة داخله؛ لا ينكر اقتناعه بما قاله عزيز، بل لا يصدق نفسه أنه تغير هكذا في ساعة!
أين إيمانه واعتقاده الراسخ؟
-وهل أنت واثقًا أن هذا هو الإيمان؟!
-لقد كنتُ في ضلالة لأعوام ثم تركت طرق الشيطان وعُدت إلى طريق الله، إذن فأنا على الحق.
-بل تظن أنك على الحق، فالحق ساطعًا مثل النور، لكن في نفس الوقت بحاجة لتدقيق حتى لا يحدث الالتباس، أتذكر منذ بضع سنوات، منذ وقت هدايتك واستمعت لخطبة الجمعة، وقتها قال الشيخ «إن الشيطان يجري في جسد ابن آدم مجرى الدم، فيظل يسوس له ويزيّن له السوء حتى يتبعه بشتى الطرق، ولكل شخصٍ مدخل، فالمتقطع في الصلاة يزيده بُعدًا وغفلةً عن أدائها، لكن ماذا عن مقيم الصلاة المحافظ عليها، هل يمكن أن يأمره بترك الصلاة أو التغافل عنها؟ بالطبع لا، لكن يدخل إليه من مدخلٍ آخر يناسبه.»
وقد صرت ملتزمًا مطّلعًا فيكون هذا هو المدخل، الدخول من بعض الثغرات التي تجعله يلتبس عليه الأمر ويختلط نور النهار الواضح بآخر مزيّفًا.
ظلّ جمال هكذا في حوارٍ داخلي لكن أيقظه صوت الرعد المفزع فانتفض فجأة فرأى قلة من الناس يجرون أسفل الشرفات أو ممسكين المظلات محاولين الاحتماء من الأمطار الغزيرة.
لكن جاءه الفتى قائلًا: أعتذر منك، لكن أريد غلق المقهى؛ الجميع ذهب والطقس سييء للغاية وشديد البرودة، سنصاب بنزلة برد شديدة!
فأومأ جمال واضعًا يده في جيبه فقال الفتى: ماذا بك؟ لقد حاسب قريبك قبل أن يغادر!
فتحرك جمال مغادرًا جارًّا قدميه دون أن يعقب، حتى لم يجري اتقاءً من هذا المطر، بل ظل ماشيًّا أسفل منه حتى ابتلت ملابسه، فرغم قلة المسافة الجو مطير للغاية والأسكندرية تواجه نوة شرسة كشرت عن أنيابه ولازالت تصر المهاجمة.
فتح الباب رأى أمه مدثرة بشالها الصوفي وما أن لمحت خياله نهضت متجهة إلى حجرتها كأنها لم تراه، رغم تأكده أنها جالسة تنتظره.
تحرك نحوها وانحنى مقبلًا رأسها فشهقت فجأة وصاحت في وجهه: ما هذا البلل؟ اذهب وأبدل ملابسك سريعًا قبل أن تصاب بنزلة بردٍ شديدة!
فابتسم جمال؛ فأمه لا تتغير أبدًا، ومهما فعل لا تملك إلا أن تحبه وتخشى عليه، فصاحت فيه: كأنك لازلت طفلًا وتعبث تحت المطر -ثم بترت كلماتها وتصنّعت القسوة وأكملت بصياح- أقصد ابعد عني! ستبتل ملابسي وأصاب بنزلة برد!
ثم أسرعت متجهة نحو حجرتها وأغلقت الباب خلفها، فاتسعت ابتسامته واتجه هو الآخر نحو حجرته وأبدل ملابسه، دخل فراشه ودثّر نفسه وظلّ محملقًا في سقف الحجرة، متابعًا ومضات البرق المتسللة عبر فتحات نافذة حجرته.
ثم همس داخل نفسه: يارب الهمني الصواب! وحقك إني أحبك وأخافك! وتشهد يا رب إني لم أفعل إلا النهر بالحديث، ولم تُلطخ يداي بدم إنسان.
سكت هُنيهة ثم أكمل همساته: يارب أنا لا أملك في هذه الدنيا إلا أمي وأختي لو أُصيبت إحداهما بمكروه لن أسامح نفسي أبدًا، لكني...
ثم سكت مجددًا، نهض مغادرًا فراشه، ذهب توضأ ثم عاد متنفّلًا مناجيًّا ربه، وبعد أن انتصف الليل ولازال صوت الأمطار والرعد مستمرًا، عاد لفراشه مجددًا هامسًا: يارب أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه، أرني الحق نورًا واضحًا كالنهار.
وبعد بضع ساعات نهض جمال لآداء صلاة الفجر، فوجد أمه وأخته المنهكة تصليان، ذهب ليصلي هو الآخر ثم عاد إليهما وقد شعر بهدوء الصراع داخل نفسه، تعجب من نفسه أن استطاع في ليلةٍ واحدة أن يحسم أمره.
اتجه نحوهما فأبعدتا الاثنتان ناظريهما عنه، وما أن رأى درجة الإعياء الواضحة على أخته حتى أسرع إليها، ضمها إليه بشدة مربتًا عليها قائلًا: نور، آسف، أنا السبب دائمًا في كل شيء، لا تخافي فأنا جوارك ومعك، سأكون رجلًا أساندك حتى ولو لمرة.
فلم تعقب نور بل سمع نحيبها، فمسح دمعها بيديه وقبل جبهتها معتذرًا مرات ومرات حتى ابتسمت إليه بإعياء وشددت في عناقها له، بعدها اتجه نحو أمه مقبلًا يديها ورأسها فربتت عليه وزفرت براحة قائلة: أحمد الله على هدايتك وعودتك! فآباءك جميعهم كانوا صالحين وأنت من تبقى لي وخشيت أن تكون نبتة شجرتهم فاسدة.
فقال نادمًا: سامحيني يا أمي، قد ندمتُ على ما فعلت، رجاءّ اعطيني فرصة أخيرة ولن أضيعها هذه المرة وسأُحسن استغلالها، سأكمل دراستي، سأعمل وأكد وأجتهد، سأكون وسطيًّا دائمًا لا أقصى اليمين ولا أقصى اليسار.
فقبلت أمه اعتذاره مربتة عليه وظلت تدعو لهما حتى طلعت الشمس، وبدأ الكون يتنفس بنور الصبح بعد ليلة مطيرة حالكة السواد، فهكذا يأتي الفرج والنور بعد الظلام.
زدادت أحوال البلاد سوءًا وحمد جمال ربه أنه قد عاد لرشده قبل فوات الأوان وقبل تورطه؛ خاصةً وقد صدرت الأوامر بعد ذلك بجمع كل المشتبه بهم وزجهم في السجون والمعتقلات صغيرهم وكبيرهم دون تفرقة، لتزداد الأمور احتقانًا باغتيال الرئيس محمد أنور السادات ويُسدل عليه الستار كرئيسٍ راحل وبطل للحرب والسلام.
صار بعدها محمد حسني مبارك الرئيس الجديد والذي بُدئ عهده باسترداد سيناء كاملة وعودة طابا ... دائمًا بدايات الأشياء رائعات!
وتزوج عزيز أخيرًا من نور وجُمع أخيرًا قلبيهما، أكملت نور دراستها وهي متزوجة بل وبعد أن صارت أم، فقد رُزقت بنور الدين و نوارة -تبدو رغبة عزيز في مزيد من النور-!
أما جمال فقد أكمل دراسته متتابعًا دون توقف ولا انقطاع ولا رسوب وقد جمعته صداقة بعزيز وإن كانت ظروف عمله تجعل لقاءاتهما به قليلة للغاية، فعزيز دائم التنقل بين محافظات مصر بين الأسكندرية، مرسى مطروح، البحر الأحمر والإسماعيلية.
وكانت نور تنتقل معه في فترات الإجازة، وتمر الأعوام والسنين بحلوها ومرها، ربما مرت بعض أيام الازدهار والنهضة لكن سرعان ما انخفض المؤشر من جديد نحو الانحدار وفسادٍ وفتنٍ حالكة أشد من السابقة تكاد لا ترى فيها كف يدك.
اختلفوا إن شئتم في آراءكم في حكامكم وأنظمتكم، لكن إياكم أن تختلفوا على ولاءكم لأوطانكم.
وأخيرًا فقد طال الظلام هذه المرة، ترى متى يأتي النور؟
«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: من قلةٍ نحن يومئذٍ، قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، فقيل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.»
تمت♥️
سعدت بمتابعتكم،
وإلي اللقاء مع كتابات أخرى،
تحياتي 💞
يوليو 2019
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top