(30)
(بقلم : نهال عبدالواحد)
عادت نور إلى البيت وتكاد تطير من فرط سعادتها، ولم يختلف شعور عزيز عنها كثيرًا إلا انشغال عقله الدائم بعمله والأحوال من حوله، ذهب بعدها بالفعل إلى تلك الشقة التي ذكرها وقام باستئجارها.
جاء والديّ عزيز، ذهب لاستقبالهما بمحطة القطار ثم إلى بيته الذي يسكنه الآن، وما أن دخل والديه الشقة حتى تلفتت حميدة حولها وهي تفك الوشاح من فوق شعرها، ولم تكن تغيرت كثيرًا إلا أن ازدادت بدانة خاصة من الجزء السفلي، بعكس عبد المنعم الذي اصطبغ شعره وشاربه باللون الأبيض.
نظرت حميدة لمحتويات الشقة بضيق، ثم تحدثت: ما هذا؟! ما هذه الشقة الحقيرة يا عزيز؟!
فتسآل بعدم فهم: ماذا بها يا أمي؟!
فتابعت بعدم رضا: أهذه شقة تسكنها يا بني؟!
فأشار حوله وهو يلتفت في أرجاء الشقة وتسآل: وماذا ينقصها؟! هاهي نظيفة ومرتبة.
- لكنها لا تليق بمقامك نهائيًّا يا عزيز، كيف لضابطٍ مثلك أن يسكن في شقةٍ كهذه؟!
فتدخل عبد المنعم: أراكِ تبالغين يا أم عزيز!
فتابعت حميدة: لا، لم أبالغ، الشقة حجرة واحدة وصغيرة للغاية، حتى أثاثها قديم.
تابع عبد المنعم ببعض السخرية: هل كنتِ تتوقعين أن يستأجر ملعبًا ليسكن فيه بمفرده؟!
- يا أمي هو مجرد سكن مؤقت، ثم أني رجلٌ أعزب وليس لي السكن وسط العائلات، وهاهي تقضي الغرض، وعلى أية حال يا أمي هناك شقة أخرى قمت باستئجارها، لكن استريحوا أولًا من تعب السفر ونتناول الغداء ثم نتحدث.
فصاحت أمه تحاول أن تستشف ما يخفيه: لا، كأنك تخفي شيئًا ما ولابد أن أعرفه الآن!
فابتسم عبد المنعم وقال بقلة حيلة: أنصحك بالتحدث الآن، لقد تولتك أمك ولن تسكت إلا أن تحكي.
فابتسم وقال ببعض التوتر: حقيقةً يا أمي الشقة الثانية هي مقدمة لموضوع آخر أكثر أهمية.
فأومأت حميدة تحاول فهمه: خيرًا يا بُنيّ!
- الشقة الثانية ستكون شقتي بمشيئة الله لأتزوج فيها.
صاحت حميدة بسعادة: تتزوج!
هيا اجلس واحكي كل شيء وما أصل هذه الحكاية؟! من تكون؟
ومن أهلها؟
وكيف تعرفت عليها؟
وأين؟!
وكم تبلغ من العمر؟
فضحك عزيز ووالده فقال الأب: لقد أخذت أمك دور وكيل النيابة، هيا أجب.
فرمقته حميدة بغضب ثم تابعت: أتسخر مني يا أبا عزيز، لم أنتظر منك هذا.
فتدخل عزيز مهدئًا: لا يا أمي هو لم يقصد أبدًا، إنه يمزح معك، كأنك لا تعرفيه!
فتابعت بحماس: إذن طمئني يا بُنيّ، أنت تعلم جيدًا منذ متى وأنا أتمنى أن أفرح بزواجك، وكم رفضت من فتياتٍ قبل ذلك؟ وكأنه لا توجد فتاة جيدة!
فتنهد عزيز وقال: ليس الأمر هكذا يا أمي، كنت أرفض تلك الفتيات ليس لعيوبٍ بهن، لكن كل الأمر أني لم أجد فيهن من تجذبني، من أشعر بها، أعني القبول.
فتسآلت بمكر : وهل وجدت بفتاتك تلك القبول؟!
ثم قهقهت بالضحك.
فتابع عزيز بابتسامة عريضة: أنت تعرفينها جيدًا يا أمي، هي فتاة قد وُلدت على يديكِ ونشأت أمام عينيكِ بل أنتِ من ربيتيها مع أخواتي، كما تعرفين أهلها.
فالتمعت عيناها كأنما تحاول إدراك ما يقول بعدم تصديق، فأكمل قائلًا: إنها نور ابنة خالتي عديلة جارتنا في السويس.
أهدرت حميدة بسعادة: حقًا يا عزيز! هل أنت تصدقني الحديث؟! هل ذهبت إلى عديلة؟!
فأومأ: أجل أمي، قابلت نور ذات يوم، حقيقةً هي من تعرفت عليّ ثم بعدها ذهبت إلى بيتهم زائرًا وقد قابلت خالتي، ترسل إليك سلامًا حارًّا، وقد أكدت عليّ بدعوتها لنا جميعًا على الغداء يوم الجمعة القادم.
حميدة بسعادة كبيرة: ألف مبروك يا بُني، وكيف أصبح شكلها يا ترى؟ هل صارت جميلة؟!
فأهدر عزيز بعشق واضح: هي أجمل من القمر نفسه ليلة تمامه، ستريها وتتأكدي بنفسك.
- ماشاء الله، اللهم صلّ على سيدنا محمد، مبارك يا ولدي الغالي، وأخيرًا سأطمئن عليك وأفرح بزواجك، إذن عندما نذهب نفاتحهم في الأمر ونتقدم لخطبتها، ما رأيك يا أبا عزيز؟! حتى عندما يزورهم بعد ذلك يكون هناك صفة رسمية.
فأومأ عبد المنعم موافقًا وقال: نِعم الرأي، ونِعم النسب، وهاهي تربية يديكِ وتحبيها وتحبك، رغم فارق العمر بينكما يا عزيز!
- حقيقةً كان ذلك الأمر بالتحديد يشغلني كثيرًا، بل إني ترددت لدرجة أني وددت أن أصرف نظر عن الأمر بأكمله، لكن عندما تحدثت مع نور وجدتها مرحبة.
- أي فارق عمري تتحدثان بشأنه؟! وهل سيجدون لابنتهم زوجًا مثلك؟
ثم قالت: إذن فلنفاتحهم في أمر الخطبة ونتفق على كل الأمور ونعقد قرانكما أيضًا، ويكون خير البر عاجله.
فقال عبد المنعم بعدم رضا: ولماذا هذا التسرع يا أم عزيز؟!
- ولمَ لا؟ كأننا سنسأل عنهم أو سنتعرف عليهم؟! ثم أن طول فترة الخطبة ليس برأيٍ صائب، ثم إني أريد أن أفرح بابني قرة عيني.
- لكن يا أمي كنت أريد أن نتعارف على بعض طباعنا، من عرفتها كانت طفلة صغيرة، حتى نعتاد على بعضنا البعض.
فصاح عبد المنعم: ماذا بكِ يا امرأة؟! أليس الزواج يحتاج لتجهيز وإعداد؟! ثم ماذا عن أخواته وأعمامه؟! أليس من المفترض إبلاغهم للحضور؟! كأن الفرحة أذهبت بعقلك يا امرأة!
فضحكت بشدة ثم قالت: معذرةً يا عزيزي أنت محق، إذن فلنجعل عقد القرآن في فرصة لاحقة.
- عقد القران مع الزفاف، هذا أفضل اختيار، ثم إننا لم نفاتحهم في الأمر بعد لنقرر إن كنا سنعقد القران الآن أو في وقتٍ آخر!
هكذا قال عزيز بهدوء.
- وهل تظن أن عديلة سترفض؟! بل إنها تتمنى ذلك الأمر، ثم هل هناك شاب مثلك أو حتى يشبهك؟!
قالت أمه الأخيرة وهي تربت عليه.
فضحك وقال: ماذا سأقول يا أمي؟!
فصاحت فيه: أنت ابني الغالي، ابني البطل.
وجاء بالفعل يوم الجمعة ومنذ الصباح بل بالأحرى منذ يومٍ قبلها وعديلة ونور تستعدان على قدمٍ وساق، من إعداد البيت، ترتيبه وإعداد وليمة مشرفة.
جلست نور بعد إتمام إعداد الطعام وأخذت حمامها، ارتدت بنطال (شرلستون) زيتوني اللون، كنزة صوفية أرجوانية اللون مع عقدٍ طويل من اللون الأسود، وترفع شعرها لأعلى على هيئة كعكة وقرطان مستديران من اللون الفضي، وهاهي تحدد عيناها بمحدد العيون فدخلت إليها عديلة تتفقد هيئتها.
فصاحت فيها بعدم رضا: ما الذي ترتديه هذا؟!
فأجابت بتلقائية: ماذا؟! سيئ!
فضربت كفًّا بكف ثم تابعت بعدم رضا: يا لكِ من حمقاء! إنهم قادمون للتقدم لخطبتك، ترتدين بنطال! كان الأفضل أن ترتدي التنورة السوداء القصيرة ليروا جمال ساقيك!
فقالت نور باعتراض: ما الذي تقوليه يا أمي؟! بالطبع لن أفعل، إني أستحيي.
- يا لكِ من حمقاء! لا يمكن أن تظلي بسذاجتك هذه، عليكِ أن تتغيري حتى لا يفر منك الرجل.
وإذا بصوت الباب يدق، فقالت عديلة: حسنًا حسنًا لقد وصلوا.
وضعت نور اللمسة الأخيرة من أحمر الخدود وأحمر الشفاه ثم نهضت خلف أمها بتباطؤ، فتحت عديلة الباب فوجدت حميدة فتعانقتا عناقًا شديدًا ثم دخل عبد المنعم يصافحها ثم عزيز وكان مهندم الهيئة، مرتديًّا بنطالًا قماشيًّا بني اللون، قميص صوفي من اللون البيج ذات ياقة كبيرة وفوقه سترة قطيفية من اللون البني، يحمل في يده عدة أكياس وررقية من البرتقال والموز وضعهم على المنضدة وباقة ورد ظل ممسكها بيده.
ثم طلت نور بطلعتها البهية فسلمت على عبد المنعم فقبلها من جبهتها، ثم عانقتها عديلة بحرارة وسعادة شديدة منهالة عليها بالقبلات الحارة وهي تمسك بها وتربت على ذراعيها وخصرها وتمسح على شعرها، ثم سلمت على عزيز فقدم لها باقة الورد.
جلس الجميع جلسةً حميمية يغمرها الضحك، النكات المسلية واسترجاع بعض الذكريات، ثم جلس الجميع على مائدة الغداء واستمتعوا بمذاق الطعام وأشادوا به.
وبعد الغداء استكملوا جلستهم ثم فاتح عبد المنعم وحميدة عديلة في أمر خطبة عزيز لنور فرحبت عديلة بشدة بينما كانت نور أكثر خجلًا وقليلة الكلام لكنها أعربت عن موافقتها بإيماءة برأسها، و تحدثوا في بعض التفاصيل المألوفة ثم قرؤا الفاتحة.
كم كان الجميع سعيدًا!
وأكملوا جلستهم، وقبيل العشاء انصرفوا، وبينما هم يخرجون من الشارع كان جمال قد وصل ولمحهم فاشتعلت عيناه غضبًا وانطلق متجهًا إلى البيت....
Noonazad
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top