(25)
(بقلم : نهال عبدالواحد)
و بينما كانت نور تضع صينية الشاي على الطاولة المستديرة وإذا بأمها تخرج من الممر المؤدي لحجرتا النوم.
قالت عديلة: صباح الخير حبيبتي.
أجابت نور بهدوء: يسعد صباحك أمي، هيا فالإفطار جاهز سأصبُّ الشاي و...
وتفاجئتا بجمال يخرج من حجرته المقابلة لحجرة عديلة و نور مرتديًّا جلبابه الأبيض، فقال مبتسمًا وهو يجذب أحد الكراسي ليجلس: صباح الخير.
بينما كانت عديلة ونور واجمتين وفارغتين فاهما، فانتبه لهما قائلًا: ماذا بكما؟
فأجابت نور بنفس وجومها: أراك جئت لتتناول إفطارك معنا! و تتحدث بذوقٍ وأدبٍ جم! لا وتلقي الصباح أيضًا!
فابتسم جمال وتابع: عادي.
صاحت نور بدهشة: عادي! لا وأيضًا مرتديًّا جلبابك الأبيض !
فأجاب جمال بهدوء: اليوم يوم الجمعة ومرتدي جلبابي حتى أتناول إفطاري ثم أذهب للصلاة.
صاحت نور مجددًا بعدم تصديق: تذهب إلى أين؟
كنت أعد جلبابك هذه من صلاة العيد إلى صلاة العيد التي تليه، وحتى صلاة العيد منذ عيدين وأنت لا تجئ لصلاة العيد وتفضّل التسكع مع... مع أصدقاءك.
صاحت عديلة في ابنتها: انتظري قليلًا يا نور -ثم التفتت إلى ابنها وسألته بلطف- حقًا يا جمال هل ستذهب إلى المسجد اليوم لتصلي الجمعة؟
أومأ جمال بسعادة: أجل يا أمي.
ثم قال: أعلم أني كثيرًا ما أتعبتك وأغضبتك، وأنتِ يا نور معك كل الحق حتى تسخري مني فقد أغضبتك وأهانتك بما فاق الحد وطفح الكيل.
أهدرت عديلة بسعادة وقد ترقرقت عيناها بالدموع: يا الله سبحانك ما أكرمك! أحمدك وأشكر فضلك! أقسم لك يا بُنيّ أني لم أكف عند دعائي ليلًا ولا نهارًا، وكنت على يقين من الاستجابة وأن الله سيهديك ويراضيني فيكما.
فانحني جمال يقبل يد أمه، وقال: صدقيني يا أمي لقد انتهى كل شيء، جمال القديم انتهى وولّي، أما الآن فقد وُلد جمالٌ جديد، رجل بحق ولن أغضبكما بعد اليوم، وسأذاكر وأجتهد وأدخل الإمتحان وأجتاز الثانوية العامة إن شاء الله وأكمل تعليمي وأسعدك يا أمي.
- كم أتمنى ذلك يا ولدي العزيز! لقد علمت من أختك عندما ذهبت لتصرف معاش أبوك أنه يمكن لأبناء العاملين في الشركة العمل فيها، اجتهد أنت والتحق بالجامعة وتحصّل على شهادتك ويمكنك العمل هناك مثلما تفعل أختك الآن، خاصةً وأنت ذكرٌ وحيد أي لن تلتحق بالخدمة في الجيش.
هكذا تابعت عديلة بسعادة كبيرة.
جمال بأدبٍ جم: إن شاء الله يا أمي.
ثم اتجه ناحية أخته وقال: أعتذر منك يا نور أنا آسف بحق، لا تغضبي مني، فليس لي إلا أنتِ وليس لكِ إلا أنا، والظفر لا يخرج من اللحم.
فتعانقا ثم جلس جمال على مائدة الإفطار واتجهت نور، أحضرت كوبًا إضافيًّا لأخيها لتصب فيه الشاي، وجلسوا جميعًا لتناول الفطور قبل صلاة الجمعة.
تحسنّت أحوال جمال كثيرًا، ترك الفساد واللهو وصار أفضل حالًا، تحسنّت علاقته وتعاملاته بأمه وأخته لحدٍ كبير.
ومن يومها شعرت عديلة بالراحة والإطمئنان على ابنها خاصةً بعد مواظبته على الصلاة في المسجد وتعلم تلاوة القرآن بصورة جيدة والتزم بدروسه ومراجعته.
وصار الآن إهتمام عديلة وشغلها الشاغل هو سبب عدم مجئ الخطّاب إلى ابنتها حتى الآن رغم حسن أخلاقها، طباعها وجمالها.
كانت يذهب إدراكها حول أن ابنتها محسودة فكانت تجلسها جوارها، ترقيها وتقوم بقص ورقة على هيئة عروسة، توقد المبخرة ممسكة بإبرة خياطة وتثقّب تلك العروس الورقية قائلة: من عين فلانة، وعين فلان، وعين أم فلان...
وتسمّي بأسماء من تشك فيهم يحسدون ابنتها، وتكثر من إطلاق البخور بالبيت، هكذا كانت تعتقد!
كانت لا تدري أن نور هي من تغلق ذلك الباب وترفض اقتراب أي شخص وأي زميل، فليس الجميع متزوجين كما ادعت وذكرت لأمها.
كانت نور لا ترغب بمجرد خاطب وزوج تعيش معه حياة عادية كسائر الناس، بل تمنت قصة حب تعيشها ثم تُتوج بالزواج من ذلك الحبيب.
فلازالت تذكر والدها وحبه لأمها وكيف تعامل معها بحبٍ، رفق ولين؟ كيف تحمل العديد من تصرفاتها وردود أفعالها؟ كيف احتواها وصار لها كل شيء؟
فلازالت عديلة تتذكره وتذكره دائمًا وتحكي مواقف لهما معًا، لازال حيّّ بداخل قلبها، فكيف لها أن تعيش حياة بلا حب مع أنها تربت في بيتٍ لم يخلو منه؟!
كانت نور تحن للسويس وأيام طفولتها التي تتذكرها جيدًا.
أما عن عزيز فلم يعد يحتل تفكيرها طوال الوقت، لكنه لازال يقتحم ذكرياتها من حينٍ لآخر، فهي لم تراه منذ وفاة والدها ثم انقطعت الأخبار، فهي لا تدري إن كانوا لا يزالون في السويس أم تركوها!
هل عادوا إلى السويس بعد الحرب كما فعل الكثير؟
هل شارك في تلك العمليات العسكرية التي كانت تسمع عنها وشارك في الحرب؟
وهل لازال على قيد الحياة؟
لكنه قد صار صورة مشوشة تحاول أن تتذكر ملامحه بصعوبة، لكن لازالت غير قادرة على تقبل غيره يدخل حياتها، رغم أن كل ذلك في الأصل مجرد أفكار وخيالات بداخلها فقط لا مكان لها على أرض الواقع، فهو لم يتعامل معها يومًا من ذلك المنطلق على الإطلاق.
وبعد تحسن جمال معها صار لديها حالة من الإنتعاش قد ظهرت في اهتمامها بهيئتها وجمالها.
فرغم إلحاحات أمها أن ترتدي فوق الركبة مثل فتيات جيلها إلا أنها كانت تفضل ارتداء الملابس بطول تحت الركبة وأحيانًا البنطال (الشارلستون) وكان ضيقًا من الأعلى ومتسعًا جدًا من الأرجل، بل وصارت ترتدي الشعر المستعار بقصات وألوانٍ مختلفة، خاصةً وأن شعرها قد قلت كثافته منذ أن جاءت إلى الأسكندرية؛ فطقس الاسكندرية رطوبته عالية بعكس السويس الجاف فلم يناسب طبيعة شعرها فلم تتجرأ وتغير فيه أي شيء خوفًا عليه أن يتضرر.
وكانت نور ذات طبيعة متحفظة لا تكثر الحديث ولا المزاح مع الآخرين خاصةً مع الشباب والرجال.
لكن كان من يحتل مكانًا من وقتها و تظل معه طوال الوقت هو صوت العندليب عبد الحليم حافظ الذي كان ملازمًا طوال الوقت في البيت وحتى خارج البيت يكون معها جهاز (كاسيت) صغير يعمل بالبطارية دائمًا في حقيبة يدها.
لتجئ وفاته هذا العام حيث صرنا في عام 1977، كانت وفاته وجع وصدمة للكثيرين خاصةً الفتيات وبلغ الحزن من بعضهن أن انتحرن عندما علمن بالخبر.
أما نور فما كادت أن تنتعش قليلًا حتى عادت لعزلتها من جديد، وهاهي قد ارتدت السواد.
أحبت الجلوس بمفردها وصارت تميل لقلة الكلام مجددًا، تجلس على شاطئ البحر فوق صدادات الموج تناجي البحر وترمي بهمومها فيه.
تشكوه أن كلما تعلقت بأحد رحل عن حياتها وتركها؛ تعلقت بوالدها كثيرًا فمات، تعلقت بعزيز فتفرقا وصار مجهولًا لها، حتى عندما تعلقت بعبد الحليم فمات هو الآخر، إذن فالأفضل ألا تتعلق بأي فرد لأنه في النهاية سيفارقها و يرحل من حياتها.
و جاء العام التالي 1978 ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والجميع يشاهد السادات يصافح (مناحم بيجن) بعد توقيع المعاهدة.
وصارت (كامب ديفيد) بين معارضين وقابلين، وقد بدأت شرارات العداء للسادات من داخل وخارج مصر ومقاطعة الدول العربية وحتى التشكيك بالإنتصار في حرب أكتوبر.
لكن نور لم تكن تشغلها كثيرًا مثل تلك الأخبار، كانت تشاهد، تقرأ وتسمع لكن لا تستوقفها كثيرًا مثلها مثل الكثير.
ومر عام بعد عام والحياة في بيت نور هادئة ولا جديد فيها، فقد اجتاز جمال أخيرًا مرحلة الثانوية العامة ونجح و هو في العشرين من عمره وقد قدّم أوراقه للالتحاق بكلية العلوم.
أما نور وقد قاربت من الرابعة والعشرين من عمرها فقد اجتازت هي الأخرى مرحلة الثانوية العامة على نظام المنازل وقد قدمت أوراقها بكلية الآداب وستذاكر وهي تعمل حتى تحصل على شهادة الليسانس ومنها ترتقي في عملها أو ربما تحصل على فرصة أفضل.
Noonazad
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top