(15)
بقلم : نهال عبدالواحد
ومع بدايات الصباح الجديد وصلت المركب إلى بورسعيد فهبط عزيز منها وشكر قائدها.
سار عزيز وسط الطرق في الصباح الباكر لم يكن هناك الكثير من المارة، لكن هناك أثر لحطام بعض المنشآت والمباني، حتى وصل لمحطة القطار وكان منهكًا من شدة الإعياء، وقد علم أن القطارات المتجهة والآتية من السويس قطارات مجانية لنقل سكان السويس وغيرهم من سكان مدن القناة من الأماكن المتضررة بفعل الحرب لأي مدينة أخرى (التهجير).
ولما وصل عزيز جلس أرضًا مثله مثل غيره ينتظرون القطار، ربما كان منهك الجسد للغاية، لكن من الممكن تحمل إنهاك الجسد لكن إنهاك الروح لا يطاق حتى لو كان بسيطًا فما بال حجم النكبة؟!
فكلماتٍ جارحة بوسعها عمل آلام وفجوات عميقة بداخل النفوس والقلوب.
أما عزيز لن أتحدث عن المجهود البدني الشاق الذي قد تعرض له، ولا عن وجع الحرب وهزيمتها، مقتل أقرب صديق له ببشاعة وأمام عينيه، أم وجع الهروب و الفرار؛ فكل تلك الأوجاع قد جاءت من العدو، لكن ماذا عن الوجع القادم من أهل القُطر الواحد؟!
جلس عزيز مستمعًا لثرثرات من حوله سواء الجالسين المنتظرين القطار أو حتى عندما ركب القطار...
- لعن الله الحرب على من أوقدها.
= تعلم، لو كان لدينا رجالًا ما كان حدث لنا كل هذا.
* لا تذكرني، ما أحمقهم! كيف لهؤلاء الكلاب أن يهزموهم ويفعلوا بهم الأفاعيل؟!
▫ أجل! لقد رأيت أشكال وألوان من الحماقات والخيبات لكني لم أرى بخيبة وفشل ذريع كهؤلاء؛ أيتركون مواقعهم للأعداء ويفروا منهم مثل الفئران؟!
▪ ليتني أرى أو أقابل أحد هؤلاء الجنود لألقنه درسًا لن ينساه، وسأفعل به الأفاعيل وأريه كيف تكون الرجولة!
كان عزيز بينهم يكاد يكتم أنفاسه من صدمته! فقد شعر بالخزي من تلك الهزيمة وبكسرة من داخله لكن لم يتصور للحظة أن يجد كل ذلك الهجوم من أهل بلده الذي مهنته الأولى والأخيرة حماية أراضيهم بصورة أو بأخرى.
كم تمنى أن يصيح فيهم أنه يتوجع أكثر منهم! فجراحه لازالت تنزف و لم تندمل بعد!
هل رأيتم الموت مثلما رآه هو وزملاءه؟!
هل رأيتم أشد أنواع الذل والمهانة على يد الأعداء؟!
هل رأيتم الغرباء وهم يدنّسون الأرض، يذهبون ويروحون كأنها حقٌ مكتسب؟!
بل ويأمرون وينهون، يحكمون وينفذون!
كاد أن يهجم عليهم ويبطش بهم جميعًا، لكنه تماسك ولسان حاله يقول المثل الشعبي: «أتترك الحمار لتمسك بالبردعة؟»
وصل أخيرًا إلى السويس متخيلًا حال الجميع وكيف فعل بهم فراقه لهم طوال تلك الفترة؟ وكيف حال أمه، اخوته وسائر معارفه؟
وما أن سار بشوراع السويس حتى رأى كم الدمار الذي لحق بها، فالشوارع مليئة بهدم المباني والمنشآت، سواء بقطع الأحجار المستخدمة في البناء أم بقطع الأثاث المحطمة، الفرش، الملابس الممزقة وملقى بأجزاءٍ منها، حتى إنه يمكن أن ترى فِرَدًا من الأحذية والقباقيب.
وإن لم تكن المباني محطمة تمامًا وقد انهارت معانقة الأرض، فيجدها مثقّبةً ومحطّمًا منها أجزاء بفعل القذف.
سار عزيز متألمًا وكل الأوجاع ملأت قلبه واحتلته مثلما احتل العدو أرضه، ملأه الخوف أيضًا إن كان قد أُصيب أسرته بمكروه خلال الحرب.
ظل عزيز سائرًا مطأطئًا رأسه، مبعثر الهيئة، متسخ الملابس وأشعث اللحية.
وما أن وصل حتى وجد بيتهم كما هو لم يصاب بمكروه فلم يُهدم ولا حتى به ثقب، فحمد الله في نفسه وأسرع في خطاه.
لكنه لمح مأتمًا منصوبًا فانخلع فؤاده تُرى فقط من يكون؟!
فأسرع نحو البيت، لكن بمجرد أن وصل لأسفل البيت وما كاد أن يدخل من عتبة البيت حتى سمع أصوات الجيران المحيطين، ينادون على أهله.
- يا أم عزيز! يا أم عزيز! لقد عاد عزيز! عزيز لازال على قيد الحياة!
= يا أم عزيز! لا عزاء اليوم! إخرجي واستقبلي ابنك وخذيه بين أحضانك!
* يا أستاذ عبد المنعم! لقد عاد عزيز! ابنك على وجه الدنيا هاهو حيٌ يُرزق!
ثم توقف وتجمد مكانه، إذن هذا العزاء كان لروحه هو! ثم استمع إلى أصوات تعليقاتٍ أخرى:
▪ لماذا عاد؟! ألم يخبرونا بخبر قتله، لقد قالوا أن الجميع قد قُتل ومن نجا أُسر ثم قتل، لماذا عاد؟! ليته ما عاد ؛ كان الموت أفضل وأشرف له، ربما قد نال الشهادة أفضل من عودته ملطّخًا بالعار.
▫ وكان يتصنع الوطنية من طفولته! أرأيت ماذا فعلتم بنا؟! ليته يشعر بحجم الجرم الذي ارتكبوه فينا! أين هذا التدريب الذي تتدربوه ليلًا نهارًا ومنذ زمن؟! أم كنتم تدربون كيف تتزحلقون على الزلاجة وتركبون الأرجوحة؟!
فقهقه آخر بطريقة مبتذلة قائلًا: لا! بل كانوا يلعبون لعبة العسكر والحرامية وكلما جاءهم عدو بدلًا أن يحاربوه كالرجال تراهم يجرون فارِّين منهم، فارِّين كالفئران!
و أكملوا قهقهاتهم، سخريتهم، همزهم ولمزهم، فلم يلتفت نحوهم ولم يرد عليهم، لكن تلك الكلمات كانت كافية لتحطيم ما تبقّى منه، هل عليه أن يشرح لكلٍ منهم ملابسات الأحداث وأنه غُدر بهم وأنهم قد تحملوا ظروفًا شاقة؟
لا، لو كان فيهم من الخير لقدّروا الظروف من البداية، ولما ظنوا فيهم ظن السوء، ولسان حاله يقول لهم كيف لأمثالكم الساخرة أن تتذوق مذاق الانتصار؟
كيف لأمثالكم المتهكمة أن تعيش في رغد، حرية واستقرار؟!
كنتم تأكلون ملئ بطونكم وتنامون ملئ عيونكم و نحن وسط النار، حتى لم تشعروا بنا أو تشفقوا علينا!
أتحمّلونا نحن الجنود والضباط هَم الهزيمة؟ ألا ترون الأسباب الحقيقية؟ ألا ترون إلى أين وصلنا؟!
بل هي العدالة الإلهية بحق، فلا تنتظروا إلا مزيدًا من الهوان والذل...
وما أشبه اليوم بالبارحة!
وفجأة وجد أمامه أبويه يهبطان من أعلى ليتأكدوا من صحة ما سمعوه، لقد كانت حميدة مرتدية الأسود و قد قيل أن الجميع قد قُتل في الحرب أو أُسر وقتل في الآخر مع الأسرى...
فقد قُتل حوالي مئة وخمسين ألف جندي وأكثر من أربعة آلاف أسيرًا قد قُتلوا هم الآخرين، إذن فكم عدد الناجون؟
وماذا يفيد الناجين إن كان قد ضاع أكثر من واحد وستين ألف كيلومترات من أرض الوطن، لقد ضاعت سيناء بالكامل واستحلّها المغتصبون وكأنها أرضهم بحق!
كان والديه يعانقاه بينما هو متجمّدًا مكانه في أرضه وكل الأفكار تدور وتدور دون توقف...
Noonazad
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top