(12)
بقلم : نهال عبدالواحد
كان يسمع أصوات عصافير وطيور بعيدة تدل أنه في الصباح، لكنه لازال مغلقًا لعينيه لا يقطع ذلك الإيقاع الواحد شيء... إلا فجأة كأنه صوت رجل يتحدث لآخر وأحد الصوتين يقترب والآخر يبعد ويبعد لدرجة أن الكلام غير واضح.
بدأ عزيز يفتح عينيه شاعرًا بألمٍ يغزو رأسه محاولًا مقاومة النوم ورؤية النور، لكنه يشعر بأنه ينام على فراش ربما يكون صلبًا بعض الشيء ومغطى بآخر.
لازالت أفكاره تذهب به في كل اتجاه فحينًا يتخيل أنه نائم في معسكر الكتيبة أو أنه في بيت أمه، وكأنه سافر بوعيه للحظات فسقط في سنةٍ من نوم للحيظاتٍ ثم يعاود مجاهدته ليفتح عينيه.
وأخيرًا قد استطاع فتحهما!
هو مكان لا يعرفه بل لم يراه من قبل، كأنها حجرة فارغة من أي أثاث، لكن تبدو جدرانها غريبة بعض الشيء ومعلّقًا بعض المعلقات المزرخشة المصنوعة من الصوف الملون بالنول اليدوي، وينام على وسادة وفراش أرضًا.
لكن مهلًا! جواره رجلٍ لا يعرفه هو شيخٌ في الستين من عمره وجهه ودود، يبدو شيخٌ بدوي من هيئته ولباسه، فالجلباب و ذلك الصديري الداكن اللون المرتديه فوقه والوشاح الأبيض المغطي رأسه ومن فوقه العقال الأسود، وتلك اللحية البيضاء الخفيفة، وجهه المائل للسمرة مع انتشار بعض التجاعيد، عيناه الغائرتين وتلك العبسة المحفورة بين حاجبيه.
ورغم أن ملامح الشيخ لا تدل على خبثٍ ولا فيها ريبة لكن عزيز انتفض فجأة محاولًا النهوض من مكانه لكنه فجأة بدأ يشعر ببعض الألم فتوقف عن الحركة متفاجئًا بذلك الألم وليس من قوته البالغة.
فنظر لوجه الرجل وأسرع قائلًا: من أنت؟
كان يسأله وعقله لازال يفكر ويسترجع سريعًا حول ما يمكن أن يكون قد حدث!
فقال الشيخ بلهجة بدوية سيناوية: حمدًا لله على سلامتك يا ولدي! أنا عمك الشيخ بدر!
فوجم فجأة وجحظت عيناه فقد تذكر كل شيء، تذكر صديقه عوض الذي كان ينتظر مولد ابنه هلال، لكن.....
ثم عاد عزيز بنظره نحو الشيخ وقال: إذن قد كانت الحرب حقيقة!
فأغمض الشيخ عينيه مومئًا برأسه بمرارة أن نعم.
فأغمض عزيز عينيه متذكرًا يومي الحرب اللذان عاشها، تذكر كل لحظة مرت عليه وكل شعورٍ به بين خوفٍ، حزنٍ وغضب، تذكر أبشع مشهد رآه و رأى عليه صديقه.....
وتذكر بعدها كيف كان يجري هربًا من تلك الدبابة التي تسرع خلفه وتقذف بداناتها نحوه ولا يدري كيف لم تصبه!
هل قائدها أحمق لتلك الدرجة ويقذف بلا وعي؟!
أم هي عناية الله له التي تبعده عن الموت وهو قريبٌ منه لتلك الدرجة فلم يصيبه إلا شظاياها التي لازال يشعر بها؟
وكأن شيء يدفع عنه ذلك ربما تكون دعوة شخصٍ يدعو له بإخلاص؛ فالدعاء كما نعلم يدفع البلاء و يسبق القدر.
لازال يجري ويجري وذلك الأبله مُصِرًا على قتله ولا يدري أين عقله!
ففجأة تذكر أن معه آخر قنبلة يدوية، وبدون تفكير أخرجها، شد فتيلها ورماها عليه فانفجرت الدبابة بالفعل وانتهى أمر من بداخلها، وانتهت أيضًا قواه وخارت تمامًا، وفجأة بدأ يشعر بآلام متفرقة تمزق جسده بالكامل لم يكن يشعر بأيها من قبل فلم يشعر بكم الشظايا المخترق جسده، وسقط وغاب عن وعيه تمامًا، ولم يتذكر كيف نجا ولا منذ متى وهو فاقدًا وعيه؟!
فأسرع عزيز وتسآل باندفاع: ماذا حدث لي؟ وكيف نجوت؟ وأين أشيائي ومتعلقاتي؟ ومنذ متى وأنا هنا؟ وماذا حدث في الحرب؟
سكت الشيخ قليلًا ثم ابتلع ريقه بمرارة وقال: مهلًا عليّ يا ولدي! لقد وجدتك ملقيًا في الصحراء فاقدًا الوعي وغارقًا في دمائك ويبدو عليك أنك ضابط مصري، اقتربت منك، فحصت نبضك ونَفَسك لأتأكد إن كنت على قيد الحياة أم لا، فوجدتك لازلت حيًّا فحملتك إلى هنا، كان جسدك ممتلئًا بكمٍ من الشظايا عجزت عن عده، ثم قمت بتمريضك ورعايتك.
فإبتلع عزيز ريقه وتسآل بخوف: والحرب! هل انتهت؟
فأومأ برأسه أن نعم لكن ملامحه غير مفهومة أو ربما تكون مفهومة لكن يُرفض تصديقها!
ظل عزيز ناظرًا نحو الشيخ منتظرًا منه إجابة تريحه ويخشى أن يسأله بل لا يجرؤ أن يسأله مثلًا «هل حققنا نصرًا؟»
كم هو صعبٌ هذا السؤال!
رغم أنه بالضبط ما كان يرجوه ويتمناه، لكن كما نقول نحن المصريون «ربنا عرفوه بالعقل!»
والعقل يقول كيف يمكن أن يكون هناك أي نصر بعد تلك المهزلة؟! لكن كونه يتقبل العكس و يتجرأ ويسأل عنه فهذا أيضًا أصعب وأصعب!
فزفر أنفاسه ببطء وتسآل بمرارة: إذن أين أشيائي يا شيخ بدر؟
فقال الشيخ: لقد قمت بإحراقها.
فصاح عزيز بتوجع: ماذا؟!
لماذا فعلت هذا يا شيخ؟!
- إن علم أحد كونك ضابطًا مصريًّا ولازلت على قيد الحياة فلن يطلع عليك نهار آخر...
- رجاءً فهّمني! وقص عليّ ما حدث فأنا لا أفهمك..
- الكلاب الصهاينة دنّسوا أراضينا وأخذوا سيناء بأكملها حتى شواطئ القناة..!
صاح عزيز بصدمة حبست الكلمات في حلقه وشلت لسانه: ما ذا- ت -قول؟!
فتابع الشيخ مستطردًا: إنها الحقيقة المُرّة يا بُني، ولم يدعوا ضابطًا ولا مجنّدًا إلا قبضوا عليه وقيدوهم جميعًا وسحبوهم أو وضعوهم في سيارات نقل كالأغنام، حتى من قام بمساعدة أحد المصابين بإخفاءه أو تمريضه قاموا بقتلهم جميعًا بلا تمييز بين شيخٍ كبير ولا أطفال ولا نساء..
- و لأين أخذوا الضباط والمجندين الذين سقطوا في الأسر وأين احتبسوهم؟
- لم يذهبوا بهم في أي مكان، لقد بخلوا عليهم حتى أن يحتبسوهم، عليهم اللعنة الكلاب! عليهم اللعنة!
وأجهش الشيخ ببكاءٍ شديد ثم أكمل وسط شهقاته المقهورة: رموهم مقيدين على وجوههم أرضًا ودهسوهم بالدبابات، سووهم بالأرض......
وأكمل الشيخ بكاءه وارتفع نحيب عزيز هو الآخر، وبعد فترة...
قال الشيخ: المهم الآن، لا يجب أن يعلم أحد بهويتك الحقيقية سوى أنا وابني مسعد، ولا يجب لأي فرد آخر معرفة هويتك ولا من تكون! أنت مجرد أحد أقاربي جاء للاطمئنان علينا بعد ما حدث، إن الكلاب منتشرون في كل مكان وناشرين معهم الخائنين من يبيعون أي شيء مقابل المال، لقد قاموا بالتبليغ عن بعض الأسر التي قد أخفت بعض المصابين من المجندين والضباط فدكوا بيوتهم فوق رؤسهم بلا شفقة ولا رحمة.
- وما العمل؟
تسآل عزيز بيأس.
- يمكنك الانتظار بضعة أيام حتى تستعيد صحتك كاملة وأكون قد دبّرت لك ركوبة مناسبة ويكون ابني مسعد قد أعد الأوراق والتصاريح.
فتسآل عزيز: أوراق و تصاريح!
هل عليّ أن آخذ منهم الإذن وأنا أسير بداخل بلدي؟! أم أنكم تشجعوهم على ذلك!
- سامحك الله يا بني!
لن ألومك على قولك هذا فأنا مقدر حالتك، لكن عليك أن تعلم أننا نكرههم جميعًا، هو ثأر قديم فقد استشهد أخي في حرب ٤٨ وابني مسعود كان معكم في هذه الحرب و قد دهسوه أمام عينيّ....
وارتفع نحيب مجددًا الشيخ بالبكاء لفترة فسكت عزيز تمامًا ثم قال: أعتذر منك يا شيخ، جيدًا أن حرقت كل ما يثبت هويتي، فعليّ أن أختفي ليس فقط من اليهود بل حتى من أهلي وناسي، من كل مصري، ترى بأي وجهٍ سأقابلهم وبأي عينٍ أنظر إليهم!
- إياك يا ولدي!
إياك واليأس!
لقد غُدر بكم.
- أجل! قد غُدر بنا، ثم قالوا انسحبوا! اهربوا! فروا! وهانحن قد فررنا.....
- أجل فررتم!
لكن لتستعيدوا قوتكم وتتقدموا من جديد وتأخذوهم أخذة رجلٍ واحد، قلبي يحدثني أنها ستكون ملحمة رائعة، أعطني يدك يا ولدي! أبسط كفك إليّ...
فمد عزيز يده، فصافحه الشيخ بيده المجعدة تلك ثم قال: وحق هذه العَشَرة! عدني أن تقف وتجئ إليّ من جديد وتقاومهم وتأخذ بثأر كل أولادنا الشهداء، هيا عدني بذلك!
فتنهد عزيز وقال بتثاقل: لماذا يا شيخ بدر؟!
ما أثقل هذا الوعد!
أخشى ألا أستطيع أن أفي به.
فهزه الشيخ بقوة وصاح فيه: إنهض! إستيقظ! ستعدني وستجئ يومًا ما رافعًا رأسك منتصرًا مع رجالك وزملائك، رافعًا علم البلاد وسأنتظرك إن كنت لاأزال على قيد الحياة وستقول لي لقد فعلناها يا شيخ بدر! لقد أخذنا بثأر كل أولادنا! لقد انتصرنا واسترددنا أرضنا!
فسكت عزيز لبرهة دون رد ثم صافح الشيخ وقال له: أعدك يا شيخ بدر!
ورغم نبرة اليأس المسيطرة على عزيز بشكلٍ واضح لدرجة جعلته يقول الوعد باستحياءٍ وشك في أن يحققه.
ونهض عزيز مع الشيخ و كان مرتديًا جلبابًا أبيضًا وخرجا معًا إلى حجرة خارجية لم تختلف كثيرًا عن الأولى في بساطة فرشها إلا أن الأرض كانت مغطاة ببعض الأرائك المنجدة للجلوس عليها.
ثم جاء الشيخ بصينية كبيرة بها براد صغير وأكواب زجاجية صغيرة، صب له من الشاي البدوي وكان معه طبق من التمر العجوة المصنوع بطريقة خاصة وآخر به قطع من الخبز .
نظر عزيز لما أمامه فترة ثم أخذ كوب الشاي الصغير و بدأ يشربه ويأكل بعض اللقيمات بتلك العجوة، ورغم أن الطعام شهي المذاق لكنه لا يشعر بأي مذاق! فتلك اللقيمات تقف في حلقه وتأبى أن تبتلع إلا بعد معاناة فترك الأكل سريعًا وقد ذهبت شهيته.
ورغم محاولات الشيخ معه ليزيد من الأكل لكنه رفض فقدّر الشيخ حالته ولم يضغط عليه.
ومر بعض الوقت و فجأة!
صوت طرقٍ شديد.....
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top