p21
ما هو الشعور بالآمان؟ .. هو كلمة ذات شعورٍ صادق جدًا، حين يكون ذا مصدرٍ يحيطُ بنا ..هو الثقة التي نشعُر بقوتها تنبُع داخلنا نحو شخصٍ ما، و الفرحة الغامرة التي تغمُر قلوبنا حين الاهتداء بمصدرٍ آمِن .. هو الشعُور المُبهم الذي يُجبرنا على مُشاركة مشاعرنا مع ذاك الشخص .. هو الشئ الذي نلجأ إليه عندما نشعُر بالخطر، كما انه شعور غريب و مبهم و مريح للغاية نشعُر بذلك أثناء وجود الشخص الذي نشعُر بقُربهِ مِنَّا!
و كذلك كان يشعُر آش حين يجتمع جوار أبيه .. لعدة أيام مضت إختار آش الانعزال قليلًا .. لم يكن يتحدث مع أحد بل كان يلجأ للهرب في غرفته تاركًا شعور الخوف ينتصر عليه حتى ذلك اليوم .. لقد ترك نفسه حرة جواره .. فهو سيظل الركن الآمن له، يشعُر و كأن كل شئ يتلاشى بقربه من أبيه .. الخوف و الاكتئاب و الاضطراب .. لم يكن حذرًا أبدًا بالتعامل معه بل كان يشعُر بمدى هدوء قلبه إلى جوار مَن يُحب!
بعد ستة أشهر .. تلخصت تلك المشاعر داخله أخيرًا يُدرك أن قلبه المحروق هدأ قليلًا، و رغم ذلك كان يتجنب التحدث كثيرًا و يلجأ إلى هدوئه في زاوية ما من عالمه بنَى لنفسه شخصًا أخر ! .. والده و عمه اعتادا على ذلك بعدما عادت الحياه تهدأ من حولهم تجبرهم كذلك على الرضى بقدرهم و بفقدان ابنهم المفقود!
اليوم كان طقسِه شديد الاضطراب ، و لذا اعتمد وشاحًا صوفيًا حول رقبته مع كنزة ثقيلة شتوية، أنهم بصدد الدخول لفصل الشتاء بما أنهم بأواخر الخريف، متى مرت تلك الشهور؟ .. هو حتى لا يعلم! .. لم يشعر بمرورها حقًا، لازال متجهمًا منذ تلك الليلة، و كأن حياته توقفت هناك حيث تلك النقطة السوداء الحية!
بين كفيّه كوب من القهوة ، يشرد في لونها، الحركة الاهتزازية داخله جعلته يبتسم يرفعه أكثر ليرتشف منه، يشعر بعدها بمرارة حلوة ذات شعورٍ عميق، اللذة الغنية بالغُمق، و البُن البرازيلي كان له طعمًا لافتًا للحواس! .. حسنًا لقد أحب القهوة و أدمنها خلال تلك الشهور المارَّة ، الشئ الوحيد الذي استطاع إخراجه من حزنِه، و اندماجه بعالم أخر اختاره لنفسِه، و ذلك وحده أعاده ليكتب، أجل لقد تذكر حُلمه بأن يُصبح كاتبًا عظيمًا يُحكَى عنه، و يستشعِر الناس مشاعر كلماتِه !
الموسيقي الكلاسيكية التي انسابت إلى مسامعه جعلته يلتفت نحو مصدرها دافعًا خصلاته المتمردة لأعلى رأسه لكنها عادت لتحتل جبينه و تغطية جزء من مجال نظرِه!
نهض يترك القهوة جانبًا بعد أن أنهاها ، و اتجه نحو الصوت، ظل يقف يُحدق في آكيرا الذي كان يَجلس فوق الأريكة و بيده هاتفه الذي كان يصدر منه تلك الموسيقى، اقترب أكثر ليجلس جوارِه بينما ينطق:
" آكيرا، هل أبي في الشركة؟ "
رفع المعني بصرِه نحوه رافقًا مع اجابته ابتسامة:
" لا، لقد ذهب في مهمة تخُص عمله. "
-" إلى أين؟ "
" إنه خارج البلد حاليًا، سيأتي بالغد. "
عبس من ردِه، متى هو غادر؟ .. لكنه تنهد و نهض يترك المعني و يجذب هاتفه عن المنضدة و يهرع نحو باب الخروج بينما يُنبه الأكبر بشئ من المشاغبة:
" أراك لاحقًا عمي، سأغادر قليلًا."
" لحظة، إياك.."
و لم يُكمل تحذيره إذ بالباب يُغلق بقسوة خلف الأصغر، لذا اكتفى بالتنهد و ارجاع ظهره للخلف بتعب! .. هذا الصبي مزعج للغاية! بالنسبة له على الأقل!
.
.
.
كان يسير بالشارع بصمت، يُدفن كفَّيه في جيبي بنطالِه، يدع خصلاته الكثيفة الليلية بالتمرُد على جبهته كما يحلو لها ، يُفكر بأمرٍ ما .. خطواتِه توقفت أمام المكتبة ثم دلف إليها، ابتسم نحو الفتى الذي يقف أمامه يبتسم له بخفة كون أنَّ آش زبون دائم هنا خلال عدد من الأشهر التي مضت!
بادله التحية و تحرك كي يختار كتابًا ما ، وقع إختياره على أحد الكتب الخاصة بـ"دان براون" ابتسم لاختياره و رجع مرة أخرى للفتى معطيًا إياه المال الذي يخص الكتاب، ثم خرج بعدها يحتضن الكتاب بين يديه .. ظل يسير حتى جلس في أحد الحدائق ، يفتح كتابه و يبدأ في الاندماج في قراءته، المارَّة يمرون من حوله و الاطفال يلعبون، رغم ذلك كان اندماجه هي لحظة هدوئه! .. يبتسم تارة و يعبس بحيرة تارة أخرى .. و يدٍ ما حطت فجأة على كتفه فجفل يُدير عينيه نحو المعني، يُعطيه نظرة مستفهمة تعني، " ماذا تريد؟" .. ثم يبتعد خطوتين عنه ليترك مساحة خالية بينه و بين الرجل الغريب الذي لم يشعر بالارتياح من ناحيته!
بالمقابل ابتسم الأشقر يميل نحو الفتى دافعًا عدساته فوق عظمتي أنفه، لينطق ببشاشة:
" تُشبه أحدًا أعرفه، ما اسمك؟ "
_" آش .. من تكون؟ "
أجاب يسأل بجمود، و الأكبر ابتسم يهُز كتفيه بلا مبالاه قبل أن ينهض قائلًا:
" حسنًا يا فتى أراك لاحقًا. "
" متطفل! "
تمتم بعبوس و غرابة بينما يعود مرة أخرى للكتاب متجاهلًا الرجل الأحمق الذي كان جواره، لكنه فجأة شهق حين كادت كرةً ما تخُص الاطفال بأن تضرب وجهه!
عبس نحوهم، و الثلاثة أو أربعة الأطفال الذين هرعوا نحوه معتذرين جعلوه يزفر بضيق ثم يبتسم متقبلًا الاعتذار، ثم يهرع الأطفال بعد أخذهِم لكِنزهم الثمين!
ظل يُراقب ركْض الصغار بابتسامة حزينة يتذكر أخويه و مشاكستهم دومًا معه، و لجزء من الثانية قبل أن تقع عيناه على أحدًا جعله يقف عن مكانِه، عيناه المتوسعة بعدم تصديق ظلت ترمُق الخصلات الليلية و الملامح الطفولية العابسة قبل أن يلتفت ممسكًا بيد الرجل الذي اتضح أنه الشخص الذي كان يجلس جواره قبل دقائق!
قدميه تحركتا تركض اتجاه من يُغادران نحو تلك السيارة، دموعه تجمعت و هو يكاد يصل، لكنه ضُرب بأحدهم من المارَّة و سقط أرضًا بقوة! .. رغم ذلك لم يهتم بسقوطهِ و نهض دون أن يهتم بالذي يشتمه لعدم انتباهه! .. كاد يتحرك لكنه لمح الاثنان داخل السيارة و الأشقر يُرسل ابتسامة له مع نظرة ساخرة جعلته يتجمد يُحدق به بتوسع! .. لقد كان فخًا! .. كان...
.
.
فُتحت الشقة ثم دلف و أغلق الباب خلفه، عيناه حدقت بذبول نحو أركانها، يبحث عن أي أحد لكنه وجد نفسِه وحيدًا .. ظل لدقيقة يتذكر ما حدث ، أنه لا يتوهم! .. لقد كان " رين " الطفل الذي كان مع الأشقر! .. لقد كان أخاه المفقود!
تحررت قدميه من بُقعته، يتحرك نحو أقرب أريكة، استلقى فوقها يتكور حول نفسِه بينما يرمي الكتاب على الطاولة الزجاجية ، يؤنب نفسه كذلك على عدم انتباهه!
من ذلك الرجل؟ .. و كيف وصل رين عنده؟ .. هو يعلم أن رين لم يمت، لقد أخذوه من بين يديه ذلك اليوم!
و مرة أخرى تعود تلك الذكرى لتقتله بنيرانها، كل شئ تذكره دفعة واحدة جعله ينهض يدلف للحمام بعد نوبة غثيان هاجمته!
حينما خرج كان باهتًا، مصقولًا بشعور مؤلم! .. خطواتِه لم تكتمل إذ وقع أرضًا، تنهد بألم يترك نفسه يتسطح ظهريًا يُحدق في السقف الذي بدأ يدور، أغلق عيناه باستسلام، ماذا عليه أن يفعل؟ .. لماذا يخسر كل شئ هكذا؟! .. حتى مع مُحاولاته أن يكون بخير، كلها باءب بالفشل! .. هو ليس بخير .. ليس بخير و والدته قُتلت أمام عينيه .. ليس بخير و عائلته قتلت أمام عينيه و خُطف أخاه .. ليس بخير و هو يشهد صمتٌ مريع في حياته بعد ذلك الكم من الانهيارات و الدمار!
_" آش لما تنام أرضًا! "
صوت والده القلق مع خطوات تقترب منه، تلك اليدين التي رفعته عن الأرض جعلته يفتح عيناه ليجد أنَّ الصورة تشوشت أكثر، لا يعرف أهي انتكاسه صحية أخرى أم نفسية؟ .. لكنه عاد ليُغمض عينيه يحاوط رقبة والده دافنًا وجهه به هامسًا بتحشرج مؤلم:
" لنظل هكذا، دقيقة فحسب.. أبي"
و لم يجد آرين الا أن يحتضن طفله يُحاوطه بالأمان .. دون أن يُدرك أنَّ هناك أمورًا ستنفتح من جديد!
بعد ساعتين ..
كان يجلس على الطاولة يُحدق في الطعام بغير شهية، ثم فجأة يشعر بالتقزز، أبيه و عمه كانا يُحاولان تجاهل أمره كي لا ينتبه على نظراتهما، لكنهما تفاجئا به ينهض يدلف نحو غرفته بصمت، الا أنَّ صوت آرين ارتفع باستياء:
" آش تعال إلى هنا! "
توقفت خطواتِه و التفت يُحدق أرضًا دون الجرأة للنظر لأبيه الذي ترك مقعده يتقدم منه، انحنى قليلًا ليصل لطولِه ، أمسك ذقنه و رفع رأسه كي يتبادل الاثنان النظرات، و لحظة ما تلاقت الأعين حتى التمعت خاصة الأصغر بالدموع، ذلك جعل آرين يتقدم ليحتضنه، و لكنه كان ينتظر تلك اللحظة، أن ينفجر باكيًا ما رآه! لكل ذكرى! لكل قطرة دماء رآها! .. لكل تلك المشاعر المؤلمة التي تضيق سبيل تنفسه!
كف والده ربتت على خصلاتِه و بينما يحتويه بيده الأخرى كان الأصغر قد ترك نفسه يستسلم لشعور الضعف الذي يُلازمه، يترك نفسه المتألمة لتغرق بين ذراعي الأكبر، يتلقى منه الدعم اللازم لإكماله!
بعد ساعتين من الارهاق النفسي و السبب المجهول الذي يجعل نوعًا من الاكتئاب الحاد يُصيبه لدرجة عدم رغبته عن النهوض من جوار أبيه، هو نطق أخيرًا بصوتٍ بالكاد ظهر من شدة ما بكى:
" رين، لقد رأيته."
و كان التجمد الصادم من كليهما ردًا فعليًا على ما قاله، كفيّ والده أبعدته عنه قليلًا ، يترك حدقتيه تُحدق في زرقة العين الباهتة لإبنه، ثم ينعقد جبينه بصورة مستغربة يسأله بحذر:
" أين رأيته؟ "
" في الحديقة .. كان مع رجل غريب ..."
قاطعه بحيرة :
" ماذا يفعل مع رجل غريب؟ "
آش تلك اللحظة شهق نفسًا عميقًا لأجل الشعور المزعج الذي راوده، ثم عاد ليهمس بضيق:
" لا أعلم .. لقد كان ذلك الرجل يجلس جواري على أحد مقاعد الحديقة، و قد شبَّهني بشخص يعرفه .. حاولت تجاهله و الحذر منه حتى تركني ثم رأيت رين معه بينما ذلك الرجل ينظر لي و يبتسم ... لقد ركضت و حاولت الوصول لأخي قبل المغادرة لكنه غادر رغم ذلك! "
" هل تذكر شكل ذلك الرجل؟ "
هنا أمسك بجبهته يعبس قائلًا :
" لم أتبين ملامحه جيدًا، لكني إن رأيته قد أتذكره."
زفر آرين بغيظ .. لقد كاد يظن أنه اقترب من الحقيقة لكنه عاد لنقطة الصفر مجددًا .. التفت نحو أكيرا رادفًا:
" آكيرا هل يوجد كاميرات بالحدائق؟ "
فكر آكيرا قليلًا لينطق:
" أظن ذلك .. انتظر سأسأل أحد أصدقائي يعمل مع الشرطة. "
همهم آرين بينما ينهض جاذبًا ذراع ابنه معه كي ينهض، و رغم اعتراض آش الا أنه خاطبه:
" عليك بالراحة .. الساعة التاسعة مساءً بالفعل لذا حان وقت النوم. "
عبس آش و تحرك مع والده نحو غرفتِه، دلف نحو سريره ليستلقي عليه بملابسه دون الاهتمام بتغييرها، و التفت يُبعد عيناه عن والده و يُغلقها لكنه عاد ليفتحها و يعقد جبينه بخوف، لما يذكر الآن تلك الحادثة؟
شعر بجسد والده يهبط إلى جواره و ذراعيه جذبتا خصره ليحتضنه أكثر، و لوهلة ظل يفكر .. هل سامحه على تركه؟ .. هل سامح داڤيينا كذلك عما فعلته بأمه؟ .. و رغم ذلك كان أنانيًا أن يمتلك محبة والده لنفسِه، ترك فقدُ والدته! .. و فقدهِ لسنوات طفولته كذلك!
ثم وجد نفسِه يلتفت ليُعانق أبيه و يدفع جسده كي يحتويه الأكبر أكثر، و بكل أنانية كذلك! .. يحق له احتكار والده لنفسِه صحيح؟ .. هو فقد الكثير بالفعل، والدته، منزله، طفولته، أسرته و أخيه و صديقِه و كل شئ! ثم لم يبقى سواه! .. ألا يحق له بالانانية و لو لدقائق؟
*
*
*
يتبع..
من هنا و قد بدأ العد التنازلي لانتهاء الرواية رسميًا ✨
حسنًا بما أنني قررت باذن الله أن أنهي هذه الرواية لذا سأعدل بارت ببارت و أنشره برجاء التفاعل قبل عودة شغفي للصفر مجددًا 🙂
أخبروني رأيكم ؟
أفكار آش تجاه أبيه؟ و عدم رغبته بسؤاله عن سبب تركه؟
السرد؟
التقييم؟
التوقعات؟
الى اللقاء
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top