العذاب كالعسل
كانت أشعة الشمس الصفراء ترقط زرقة حوض السباحة التوركوازية وتتألق بزهو على جوانبه ، الوقت عصراً ودفء النهار في عزه ، وسوريل مسرورة بالضل الذي تزودها به الشمسية وهي تستلقي على الكرسي الطويل وترشف عصيراً مثلجاً . كانت هي و مونيكا تسترخيان بعد وصلة من التمارين العلاجية في المياه الرائقة و القابلة للعوم . و سألتها مونيكا بصوت متفائل :
-ما رأيك يا سوريل ؟ ألم أتحسن كثيراً ؟
-بل كثيراً جداً.
لقد استغربت سوريل بالفعل التقدم الحثيث الذي حصلت عليه مونيكا منذ يوم الاربعاء . فموقف المرأة كله تجاه تعلم المشي قد تغير وصارت تظهر لهفة بدل التردد السابق وهي تتأمل المياة مفكرة:
-أنا واثقة تماما من ان تقلقي الماضي على علاقتي مع رامون كانت تعيقتني عن السير. لابد اني كنت اشعر في اعماقي انه لن يتركني مادمت مشلولة، ولذا لم ابذل اي مجهود يذكر. هل من الجائز ان يكون هذا التفاعل قد حدث بين اعراضي الجسدية والنفسية؟
-ربما.
اجابتها سوريل وهي تحدق شاردة الى سعف شجيرات متهدلة تشبة السرخس وتشكل سياجا حول موقع البركة ليحجبها عن البيت وسائر ارجاء الحديقة.
اليوم الجمعة والساعة الثالثة بعد الظهر . لقد مر على رجوعها الى هنا حوالي اثنتين وخمسين ساعة، اي اكثر من يومين! كم زحف الوقت بطيئا، او ربما بدا لها كذلك لان اليومين اللذين سبقا عودتها كانا مشحونين بالاحداث المتلاحقة ، او ربما لأنها في حالة توقع دائمة ، اذ كلما رنّ التفون تتوقع ان تكون المخابرة من خوان وكلمات رنّ جرس الباب تحسب ان خوان قد جاء يسأل عنها . لكن ما الذي سيحدوه الى المجيء ؟ لقد طلبت اليه الا يلحق بها ، وهو في أي حال ، لم يركض ابداً خلف النساء . تنهدت بدون ان تعي . انها تحس ارهاقاً بالغاً من جراء الارق الذي كابدته في الليلتين الماضيتين وحيث عذبها الندم وجعلها تتقلب على فراشها و تتمنى لو انها لم تفه بكل تلك الاشياء التي قالتها لخوان حول علاقته العابرة و البريئة بمونيكا و تتمنى كذلك لو انها وثقت به بدل ان تصدق مزاعم ايزابيلا الحاقدة .
-انت لا تتوقفين عن التفكير في خوان ، أليس كذلك ؟
فنظرت اليها سوريل متأملة ... شعرها الرطب يتجعد حول وجهها المستدير ، فمها استعاد رونقه بعد تصالحها مع زوجها وماعاد متهدلا حزيناً كما في السابق ، و الخط العميق بين حاجبيها قد إمحى تقريباً . من السهل ان يتصور المرء مدى جاذبيتها عندما كانت في الثامنة عشرة و التقت رامون لأول مرة . تهربت من جواب مباشر وردت بصوت مرح:
-وما ادراك بأني لم أكن اخطط لبعض التمارين الجديدة المفيدة لك ؟
-وهل تتنهدين وتحدقين في الفضاء لو كنت حقاً تفكرين في تلك التمارين؟ لا أظن ذلك يا عزيزتي .
التوت شفتاها المليئتان ببسمة حزينة وأردفت :
-لاتنسي انني انجذبت الى خوان لفترة من الزمن ، ولذا استطيع ان اقدر شعورك الى حد ما .
فتمتمت سوريل بانفعال :
-اني اكرهه في هذه اللحظة .
-اذن هذا دليل على وقوعك في حبه ، فهو جرحك في الصميم ، ولو لم تكوني عاشقة لما آلمك جرحه لك .
-لكنني بالكاد اعرفه ، وما عرفته عنه لا يشجعني كثيراً على حبه . فكيف استطيع ان أغرم برجل التقيته لأول مرة ، منذ اقل من اسبوع ؟
-لقد تزوجته .
وفجأة اجتاحت ذهنها ذكريات الحب القصير مع خوان فقالت بصوت مرتجف خفيض :
-تزوجته لأنه حشرني في خانة الزواج .
هذه المرة نظرت اليها سوريل بارتياب فتابعت مونيكا على عجل :
-ألا يؤكد لك هذا اكثر من أي وقت مضى ، ان ايزابيلا كذبت عليك حين اخبرتك انه ما تزوجك الا ليذر رماداً في عيني رامون ؟
-ماكان يجب ان اصغي اليها ابدا.
-وانا أخطأت جدا في تسليمها اسراري، لكنها ذات دهاء وتجعلك تشعرين انها تفعل كل ماتفعله من اجلك وحدك، وانها لا تهتم الا لمصالحك،فيما تكون طوال الوقت تسعى لمصالحها الخاصة.
-اعرف ماتقصدين،لكن ذلك لايبدل حقيقة ان خوان اعترف صبيحة زواجنا بأنه تزوجني عمدا،لكي يضع حدا للاشاعة التي تتناول اسمك واسمه.لقد خدعني وهذا مايؤلمني.
-أحقا؟هل انت متأكدة؟ الاتظنين انك انجرحت لانه لم يخبرك ما وددت سماعه منه في تلك اللحظة؟ سوريل ،يمكنني ان اتصور بالضبط ما حدث!لابد انك سارعت الى اتهامه بصراحتك المنتاهية، وهاجمته كثور هائج من دون ان تحسبي حسابا لمشاعره الخاصة. انه رجل كسائر الرجال وله كرامته التي يعتز بها . ماذا قال لك؟
-في البداية،طلب الي ان انسى معرفته بك وقال ان تصرفاته الماضية لاتعنيني، ثم اتهمني بالغيرة من شيء لم يحدث شرط ان اخلص له واثق به.
-هذا ماتصورته،لم يخبرك ما اردت سماعه. كيف كان رد فعلك انذاك؟
-سألته كيف يمكنني ان اثق به وهو ماتصرف معي الا بطرق خداعية، فاستشاط غضبا، واستطيع الان ادراك السبب، فلقد ثار لانفضاح امره.
فسألتها مونيكا:
-هل انت متأكدة من هذا السبب؟
-لايمكن ان يكون هناك اي سبب اخر لانه اعترف بعذ ذلك بأنه فكر في الزواج ليوقف الاشاعة.
وهنا تذكر سوريل العبارة الاخيرة التي قذفها بها،فغمغمت بصوت مرتجف:
-لا ارغب في متابعة الحديث.
-حسناً لا تفعلي ... ظننت ان الحديث قد يساعدك على بلورة الامور. انما عليك ان تسارعي الى حل المشكلة بطريقة ما ، الا تعتقدين ذلك ؟
هل تلمح مونيكا الى انها سوف تستغني قريباً عن خدماتها حالما تستطيع المشي ؟ ان كان الأمر كذلك ، فعليها ان تفكر من الآن في خطوتها التالية . يمكنها ان ترجع الى وطنها او ... اوه ، كيف تتصرف المرأة حين تترك رجلا لم يدم زواجها منه اكثر من اثنتي عشرة ساعة ؟ يمكنها ان تبقى حيث هي ، وتأمل ان يأتي ساعياً وراءها . لكن اذا لم يأت افتراضاً ، ماذا ستفعل ؟ هل تذهب هي اليه و تناشده استرجاعها ؟
كانت مونيكا قد أنزلت ظهر مقعدها الطويل واستلقت عليه لتأخذ حمام شمس . رشفت سوريل من شرابها المثلج و حاولت عبثاً ان تتصور نفسها تعود الى خوان لتلتمس صفحه . قالت مونيكا انه رجل موفور الكرامة ، لكن هي ايضا لها كرامتها التي لن تسمح لها بالذهاب اليه ذليلة متوسلة .
من جهة اخرى ، هي لا تعرفه جيداً لتستطيع التكهن برد فعله ، و تخشى بالتالي ان يرفضها ويزدريها و لاسيما ان السبب الأساسي الذي دفعه
الى الزواج منها قد زال الآن تماماً ، فهي لا تعتقد ان ايزابيلا ستستمر في نشر الاشاعات حول علاقة حب وهمية بين زوجة رجل اعمال بارز و مصارع ثيران مشهور .
لو ان خوان يحبها حقيقة لما تأخر لغاية الآن في اللحاق بها . لقد جرى وراءها مرتين من قبل . استفاقت من افكارها التعيسة على جلبة اصوات ، فرفعت رأسها ورأت لورا و غابرييلا في لباسهما المدرسي ، مقبلتين لرؤية امهما . و كالعادة ، راحت غابرييلا تثرثر وتظهر عواطفها لأمها بالجلوس على حافة مقعدها واحاطة عنقها بذراعها . و حالما صمتت غابرييلا لحظة لتلتقط انفاسها ، اغتنمت لورا هذه الفرصة ، فقالت بعفوية وهي تسترق النظر الى سوريل :
-علمت اليوم من فتاة في المدرسة ان خوان رينالدا قد أصيب عصر الأربعاء في احدى المصارعات في كوبايا . قالت صديقتي ان الخبر نشر امس في الجريدة .
بدت الصدمة على غابرييلا فهتفت بأسى :
-اوه ! أتظنين اننا ما نزال نحتفظ بجريدة يوم امس .
فردت لورا :
-لم لا تسألين مانويلا ؟
و هنا حثتها امها قائلة :
-اجل ، اذهبي واسأليها يا غابرييلا ، وأجلبي الجريدة معك اذا وجدتها . لورا ، هل اصيب اصابة بالغة على حد علمك ؟
-ذكرت صديقتي انه في حالة حرجة ، ماذا يعني ذلك ؟
لم تسمع سوريل جواب مونيكا اذ كانت تستعين بكل قواها لتخفي شعورها الشديد بالغثيان و لتبقى جالسة في مكانها ريثما ترجع غابرييلا بالجريدة . راحت تقول في نفسها : لا يعقل ان يكون الخبر صحيحاً ، فهو ادى مصارعته الأخيرة يو الثلثاء . لابد انها غلطة مطبعية . لابد ان الجريدة اخطأت في الاسم . اوه ، ماذا تراني فاعلة اذا توفي ؟ ضغطت على فمها بظاهر يدها و استلقت على مقعدها فالتقى بصرها بنظرات مونيكا القلقة . ثم أقبلت غابرييلا تعدو حول الشجيرات ، وتصرخ ملوحة بالجريدة :
-الخبر هنا ! هنا ! منشور في الزاوية الرياضية !
فأخذت لورا الجريدة منها و قالت :
-دعيني أراه .
لكن مونيكا أمرتها بقولها :
-اقرأيه بصوت مرتفع.
قرأته لورا على مهل ، فشعرت سوريل ان كل كلمة كانت خنجراً يغمد في قلبها ...
-الشجاع يصاب في مصارعة مذهلة .
كان هذا العنوان و تلاه نص الخبر ...
" بعد ان اصيب خوان رينالدا في بداية المصارعة بقي في الحلبة حتى النهاية مما جعل عشاقه المتحمسين يهبون واقفين و يهتفون له محيين بطولته حين ذبح الثور . ثم خر صريعاً من جراء نزيف حاد فحمل على جناح السرعة الى المستشفى في كوبايا ، وحيث أعلن في وقت لاحق انه في حالة حرجة . كان رينالدا قد عاد الى الحلبة قبل يومين فقط بعد غياب دام عامين تقريباً ."
توقفت لورا عن القراءة و قالت :
-سائر الموضوع يتكلم عن حاجة المصارعة الى مصارعين في مستواه الفني وحسه الدرامي .
فتمتمت سوريل وعي تقفز من مقعدها :
-عن اذنكن .
وضعت يدها على فمها و غادرت المكان وهي تركض حول سياج الشجيرات الى البيت . دخلت غرفتها و استلقت على الفراش ... لقد اصيب خوان بسببها ... بسبب هروبها الذي آلمه و شتت افكاره . لكنها لم تكن تدري انه سيصارع ثانية . لماذا لم يخبرها ؟ هل كان سيخبرها لو انهما لم يتخاصما ؟ تلاطمت الاسئلة في ذهنها ثم قفزت فجأة من السرير و هرعت الى الخزانة لتخرج حقيبة السفر . يجب ان تذهب الى كوبايا لتراه اذ لا جدوى من بقائها هنا ومن تعذيب نفسها بأسئلة عميقة ستظل بلا اجوبة .
الأهم من كل ذلك انه ، في حالته الراهنة ، يحتاج الى كل الحب الذي تستطيع اغداقه عليه .
لاحظت سوريل ارتجاف يديها وهي تطلب رقم المطار و فكرت في نفسها ، لم اعد هكذا منذ التقيت خوان ، فلقد استطاع ان يجرحني في عمق اعماقي ، وهيهات ان اعود الى سابق عهدي ... علمت ان هناك طائرة ستقلع الى كوبايا في خلالنصف ساعة ، فأوصلها بيدرو بالسيارة الى المطار . وعندما غادروا ميدلين كانت الشمس الغاربة تبدو كلهب قرمزي و ذهبي ، لكن عندما حطت الطائرة في كوبايا و صارلون
السماء أرجوانياً داكناً ، وبدت مدثرة بنجوم ذهبية متوهجة ، تلتمع انعكاساتها كمصابيح صينية على صفحة النهر الداكنة .
كان المستشفى قديماً مبنياً على الطراز الاسباني له برج عال على أحد جانبيه ، وفي الداخل كان كل شيء هادئاً يوحي بالسكينة و عدم الاستعجال ، وبدا مختلفاً تماماً عن المستشفى الذي عملت فيه سوريل في انكلترا . عند مكتب صغير للاستعلامات ، اخبرتها ممرضة ، ان السنيور رينالدا غادر المستشفى ذلك الصباح . فهتفت سوريل :
-لكن ... أين ذهب ؟
أجابتها الممرضة بنبربة هادئة :
-لست ادري . حالته لم تكن جيدة تماماً غير انه اصر على مغادرتنا . هذا كل ما استطيع اعلامك اياه.
-شكراً.
ازداد قلقها أكثر من أي وقت مضى و خرجت على مهل لتقف بضع لحظات على رأس الدرج المؤدي الى بوابة المستشفى وهي تتساءل عما يجب ان تفعله . ثم رأت سيارة أجرة تتوقف عند البوابة و يترجل منها ركابها.
تحركت على الفور فهبطت الدرج ركضاً و طلبت من السائق ان يوصلها الى الشارع الذي يقطن فيه دييغو و اوهينيا ، وفي خلال عشر دقائق كانت تقف على العتبة تنتظر من يفتح لها الباب الحديدي.
غمرها الارتياح حين فتحته اوهينيا بنفسها ، ثم هتفت بحرارة وهي تعانقها وتجذبها الى البهو :
-وأخيراً ! كم انا مسرورة لعودتك . كنت اتناول العشاء مع دييغو ، تعالي و شاركينا الطعام .
ومشت خلفها وقطعتا البهو الى غرفة طعام انيقة و صغيرة حيث رأت دييغو يجلس الى الطاولة . فسألت بلهفة :
-هل خوان هنا ؟
اجابتها اوهينا :
-كلا . اعتقد انه ذهب الى المزرعة . دييغو ، ألم اقل لك انها ستأتي في أسرع وقت ؟
وقف دييغو يحيي سوريل بتهذيب ، وأزاحت لها اوهينيا كرسياً و تابعت:
-اجلسي يا سوريل و تناولي شيئاً من الطعام.
ومع ان سوريل كانت متابعة رحلتها الى المزرعة ، الا انها امتثلت لطلب اوهيبنيا ، سألتهما :
-كيف صحة خوان ؟
اجابها دييغو :
-انه في حالة جيدة نسبياً . فلحسن الحظ اصيب فقط في ذراعه اليسرى ، هل انهيت عملك في ميدلين بصورة مرضية ؟
-عملي ؟
قالت اوهينيا :
-اجل ، فقبل ظهر الاربعاء ، وحين تأخرت في النزول من غرفتك و بحثت عنك فلم اجدك ، سألت خوان عن مكانك ، لدى عودته من الحلبة ، فأخبرني انك عدت الى ميدلين لتقابلي السنيور و السنيورا انهل اللذين كنت تعملين عندهما ، وهكذا افترضت انك ذهبت لتأتي بحوائجك من بيتهما .
اذن ، خوان اخفى عنهما الحقيقة ، ولم يعترف لعمته بأن زوجته هجرته بعد ان قضت معه ليلة واحدة فقط.
وعادت اوهينيا تسألها بحيرة :
-اين حقائبك و اغراضك ؟ لم ارها معك حين وصلت .
وعت سوريل انها تأخرت عليها بالجواب ، فقالت بسرعة وبصوت جامد :
-سوف ترسل الي في ما بعد.
-حسناً . حسبتك ستعودين مساء الاربعاء او ربما صباح الخميس و لما تأخرت في العودة اردت ان ارسل لك خبراً لاعلمك باصابة خوان ، لكنه رفض ذلك رفضاً باتاً و قال انك ستطلعين على الخبر في الوقت المناسب و لا داعي لاقلاق بالك.
ثم رمقتها بنظرة فضولية ، واردفت :
-كيف تناهى اليك الخبر ؟
اجابتها سوريل بصوت خفيض :
-قرأته في الجريدة عصر هذا اليوم . اوه ، ارجوك الا تخفي عني الحقيقة . هل هو فعلاً بخير ؟ فقد ورد في الجريدة ان حالته خطرة.
فقال دييغو :
-كان ذلك مجرد مبالغة ، فأغلب الظن ان محرر الزاوية الرياضية بالغ في خطورة حالته ليضاعف اهتمام الناس بالخبر ، مع ان خوان فقد فعلاً كمية كبيرة من الدم . كان يجب ان يغادر الحلبة فور اصابته لكي يطهر الجرح و
يضمد لكن خوان يأبى على نفسه ذلك ، اذ اصر على ان يبدو اقوى من جراحه البدنية البسيطة واقوى من الثور الهائج ، و هكذا جن الناس اعجاباً ببطولته.
ابتسم دييغو برضى ، فكتمت سوريل رغبة ملحة في ان تعطيه رأيها الصريح في كل مايتعلق بمصارعة الثيران . وهنا قالت اوهينيا بهدوء :
-لكنه اصيب بالاغماء في النهاية ، وفي المستشفى اسعفوه بعمليات نقل دم. ومع ذلك ، قرر فجأة هذا الصباح انه لا يستطيع البقاء فيه مدة اطول واصر على وجوب عودته الى المزرعة . قال ان جوفيتا ستعتني به اكثر مما ستعتني به الممرضات ، واخشى ان كلامه هذا قد جرح مشاعر الممرضات.
همت سوريل بالنهوض من مقعدها و قالت بقلق :
-يجب ان اذهب اليه بسرعة .
فاجابتها اوهينيا بصوت حازم :
-ليس قبل ان تنهي طعامك وتشربي فنجاناً من القهوة الساخنة المنعشة . سوف يوصلك توماس الى المزرعة.
طوال الطريق الى المزرعة اخذت سوريل تتساءل عن السبب الذي حدا خوان الى حجب الحقيقة عن اوهينيا . لماذا ستر فعلتها ؟ ولو انه فعل العكس ، هل كانت ستلقى الترحيب الحار نفسه الذي لقيته الليلة من دييغو و اوهينيا ؟ وهل كانا سيلومانها على اصابة خوان في الحلبة ؟ لا ريب في ذلك .
وصلا ايبارا ورأت اضواء البيوت تتراقص من خلال النوافذ . في ساحتها الصغيرة ، كان الباص المهترئ اياه متوقفاً امام الفندق الرث ، ورأت بعض الأهالي يجلسون على درجات المنازل . ثم اصبحت البلدة خلفهما وراحت انوار السيارة القوية تشق الظلام مجدداً وتضيء الاشجار والاجمات وتتماوج على رؤوس الصخور . كانت السيارة السوداء الفارهة تنطلق بسرعة بالرغم من حالة الطريق السيئة ، وخمنت سوريل ان تصل المزرعة في غضون عشر دقائق.
احست ارتجافاً يسري في اعصابها . ماذا ستقول لخوان ؟ ماذا يمكنها ان تقول ؟ كلمة "آسفة " بدت واهية جداً ، وبالكاد تعبر عن شعور الندم الذي يمزق كيانها ... في اي حال ، هل سيصدقها بعد ان قرأ كلمات الرسالة القاسية التي تركتها له ؟ لا تستبعد ان يرفض رؤيتها وقد يطلب الى جوفيتا ان تبعدها عن البيت .
خشخشت الواليب فوق الحصى المبعثر حين انعطفت السيارة على الدرب الموصل الى البيت واخذت جذوع الاشجار على الجانبين تطير امامها كاشباح باهتة . ثم التمعت الجدران البيضاء المزينة بالمتسلقات في ظلام القنطرة ، وهنا خفف توماس سرعة السيارة وعبر المدخل المقنطر الى الفناء المظلل وتوقف عند النافورة.
دقت الباب الأمامي وتأخرت جوفيتا كثيراً في فتحه، وعندما فعلت ذلك اخيراً ، لم تفتحه على اتساعه ، بل نتعته الى الخلف شيئاً فشيئاً ، ثم سدت الفرجة الصغيرة بجسمها الضئيل وثوبها البني ، اما وجهها الذابل الشبيه بوجه قرد حزين ، فبدا كصفحة سوداء تغلف ماكان يجيش فيها من مشاعر او افكار .
قالت سوريل بعصبية :
-مساء الخير يا جويتا .
-ومساؤك يا سنيوريتا .
اعترت سوريل دهشة مستاءة حين سمعت المرأة تخاطبها بلقلب الفتاة العازبة ، وبدا لها ان خوان لم يطلع مربيته العجوز على نبأ زواجه . سألتها:
-هل لي ان ادخل يا جوفيتا ؟
فهزت المرأة رأسها قائلة :
-السنيور خوان مريض في السرير ويرفض ان يستقبل اية امرأة . عودي في يوم آخر يا سنيوريتا .
فبدأت سوريل تحتج بحرارة :
-لكنني لست مطلق امرأة ...
الا انها صمتت حين رأت الباب ينغلق قليلاً، فأضافت بسرعة :
-يجب ان اره يا جوفيتا . اسمحي لي بالدخول ، ارجوك ! لقد قطعت مسافة بعيدة و ليست لدي سيارة لترجعني. دعيني ابيت الليل في الغرفة التي نمت فيها سابقاًكي استطيع ان اراه في الصباح . ارجوك يا جوفيتا !
توقفت العجوز عن اغلاق الباب وتضاعفت التغضنات على جبينها الضيق وهي تحاول ان تواجه هذه المشكلة الجديدة ، ثم قالت :
-اتعلمين انه مصاب بجرح في ذراعه اليسرى ؟ هناك قطب عديدة في الجرح وهو يحتاج الى راحة تامة.
اقتربت سوريل قليلاً وقالت وهي تمسك بحافة الباب استعداداً لفتحه :
-اجل ، علمت ذلك من العمة اوهينيا في كوبايا ، وهي ارسلتني الى هنا لمساعدتك على الاعتناء به ، هل تذكرين يا جوفيتا كيف تصرف بغرابة حين جرح في المرة السابقة ؟ وكيف رغب في عزل نفسه عن سائر الناس؟ انه سيعود الى تلك الحالة ذاتها ان رفضت ان تسمحي لي بمساعدتك . سوف ترين بعينيك كيف سأريحه و اجعله سعيداً جداً.
بدا الاضطراب على وجه العجوز لبضع لحظات ثم تنفست سوريل الصعداء حين فتحة الباب واشارت لها تدعوها الى الدخول.
اغلقت الباب و قالت :
-لقد سمحت لك بالدخول يا سنيوريتا ، لاني اعرف جوهر قلبك ، ولأني اعرف ايضاً انه يفكر فيك باستمرار.
فسألتها سوريل مندهشة :
-كيف عرفت ذلك ؟
اجابتها المرأة الضئيلة :
-كان هذا العصر يستريح من عناء الرحلة من كوبايا ، وفي اثناء نومه سمعته يكلم نفسه عنك . انت تختلفين كثيراً عن المرأة الاخرى التي جاءت لزيارته اثناء مرضه الماضي وحيث احدث مجيئها مشكلات كثيرة.
-اية امرأة تقصدين ؟
-تعالي معي الآن الى الغرفة التي ستنامين فيها وسأروي لك الحكاية على الطريق.
مشت العجوز امامها على الممر و قالت :
-كان اسمها تيريزا وقد جاءت من كالفورنيا . كان السنيور خوان قد تعرف اليها في مطلع شبابه ، فمال اليها لفترة ثم انتهت العلاقة تماماً بالنسبة اليه.
توقفت جوفيتا عن الكلام لتفتح الباب وتضيء النور في غرفة النوم الجميلة التي باتت سوريل فيها ليلة الاثنين ، ثم اردفت بصوت جاف :
-لكن العلاقة لم تنته بالنسبة اليها .
دخلت سوريل الغرفة ووضعت حقيبتها على السجادة الوثيرة ، لم تحس هذه المرة بأي انزعاج من جو الغرفة الانثوي المحض بل شعرت بأنها تدخل بيتها.
وسألتها جوفيتا وهي تدور حولها باهتمام :
-اترغبين في الاستحمام يا سنيوريتا ؟ الماء الساخن سيريحك من عناء السفر .
-لكنني اخشى ان يستيقظ السنيور خوان على صوت جريان الماء.
-لااظن ذلك ، فقد تناول حبوباً منومة و مسكنة لألم ذراعه وصفها له الطبيب في المستشفى . انه يغط في نوم ثقيل.
-اذن ، ارحب بحمام ساخن ، من فضلك.
-حالاً.
ابتسمت جوفيتا ابتسامة حقيقية اذ اسعدها ان تسمح لها الزائرة العزيزة بخدمتها . ثم سألتها وهي تشير الى الحقيبة :
-هل جئت بردائك الخاص هذه المرة ؟
فأومأت سوريل بالايجاب وما ان استقرت في المغطس الرخامي الأسود و احتوتها الرغوة العاجية الواصلة الى كتفيها حتى استسلمت للأمر الواقع وسمحت لجوفيتا بأن تغسل لها شعرها و تفرك ظهرها بالماء و الصابون . ثم تذكرت حديثهما السابق الذي انقطع ... صحيح ان خوان افهمها ان احداث حياته الماضية لا تعنيها بتاتاً لكن الفضول الح عليها لمعرفة المشكلات التي سببتها المرأة ، فسألت جوفيتا بقولها :
-كنت تتحدثين عن امرأة تدعى تيريزا . قلت ان السنيور خوان حين قطع علاقته بها انتهى الأمر بالنسبة اليه انما لم ينته بالنسبة اليها . ماذا قصدت بهذا القول ؟
اجابتها جوفيتا بطريقتها البسيطة :
-كانت ماتزال تريده ، وبما انها فشلت في الحصول عليه ، صارت صديقة لأخيه الاصغر . لقد اخبرتك ان له اخاً . اتذكرين ذلك ؟
-نعم ، اتذكر . ما اسمه ؟
-اندريه ، آه ، كان طفلاً هادئاً كملاك صغير ، اشقر الشعر مثل امه و يبتسم دائماً مثلها . كان الابن الأثير لديها و عندما قتلت حزن عليها كثيراً وكان عمره انذاك اربعة عشر عاماً فقط .
-هل اصبح مصارع ثيران في ما بعد ؟
-كلا ، لم يهتم ابداً بهذه الرياضة . كان لطيفاً و ذكياً جداً و لاينقطع عن مطالعة الكتب . تلقى علومه في جامعة بوغوتا ، وطالما قال بانه سوف يصبح كاتباً شهيراً في المستقبل . ثم جاءت تلك المدعوة تيريزا و سيطرت عليه .
اطلقت جوفيتا تنهداً حاراً ، و تابعت وهي تسكب الماء على ظهر سوريل لتزيل عنه رغوة الصابون :
-اغرم بها بجنون وجاء بها الى المزرعة لتعيش معنا ، وهذا ما كانت تبتغيه هي في الحقيقة ، ان تكون قريبة من خوان حين يأتي الى هنا . لم تكن تريد اندريه في الواقع . كانت تستعمله ليس الا . اتفهمين ما اقصد يا سنيوريتا ؟
-اظن ذلك . هل اعرض السنيور خوان على اقامتها في المزرعة ؟
-كلا . يجب ان تفهمي شيئاً يا سنيوريتا . ان سيدي رجل كريم جداً. له قلب طيب كبير . كان يحب اخته واخاه كثيراً ويسمح لهما بالمجيء و الذهاب على هواهما . كان يقول لهما ان البيت يخصهما مثلما يخصه ، ويشجعهما على دعوة كل اصدقائهما الى زيارته . وقبل ان تتزوج السنيورا انيز كانت الحفلات تقام هنا باستمرار حيث يرقص الناس و يغنون و يمرحون ، وكان خوان يشارك اخته حبها للحفلات و المرح . انهما يشبهان بعضهما بعضاً في نواح كثيرة.
احست سوريل ان جوفيتا بدأت تحيد عن الموضوع الأهم ، فسألتها لتعيدها اليه :
-وهل نجحت خطة تيريزا ؟ هل استطاعت ان تؤثر على خوان من خلال اخيه ؟
تناولت جوفيتا منشفة حمام من على الرف و اجابت وهي تهز كتفيها :
-حاولت ذلك . كانت تقتنص كل الفرص السانحة لتغازله . انه يحب المغازلة ايضاً ، لكن حين وجد ان تصرف تيريزا كان بثير اعصاب اندريه، بدأ يتجاهل تصرفاتها ، الأمر الذي اغضبها كثيراً.
اقتربت جوفيتا من المغطس و اردفت متسائلة :
-هل حدث و لاحظت يا سنيوريتا ، ان الناس يقدمون على تصرفات شاذة عندما يثورون غضباً؟
فغمغمت سوريل :
-اجل ، لاحظت ذلك . انا نفسي اثور احياناً ثم اندم كثيراً في ما بعد على مافعلته او قلته في لحظات الغضب . ماذا فعلت تيريزا ؟
-اخبرت اندريه انها ماعادت تحبه وانها تفضل خوان عليه . ظلت تهينه و تستفزه حتى صار يغار من خوان الى درجة الجنون ، ثم اتهم اخاه بأنه سرق منه تيريزا . في بادئ الأمر سخر خوان من كلامه وحاول افهامه ان تيريزا فتاة فاسدة لا تستأهل حبه . لكن اندريه رفض الاصغاء اليه وتصديق كلامه ، بل انه ذهب الى ابعد من ذلك وصفع خوان على وجهه . يجب ان تعرفه شيئاً يا سنيوريتا ، هو ان رجال هذا البلد يعتزون جداً بكرامتهم ، ولا يتوانون عن العراك من جراء اي شيء يعتبرونه مهيناً لشرفهم .
-سمعت ذلك قبلاً . هل تعارك خوان مع اخيه ؟
-نعم ، تقاتلا هناك ، في الساحة امام البيت . وبما ان خوان كان اقوى من اخيه و اكبر حجماً ، فقد تغلب عليه بسرعة ثم حمله من على الأرض و القاه في البركة ، كي تخف ثورة غضبه ، ثم تركه و مضى .
-وبعدئذ ، ماذا حصل ؟.
-السنيور خوان اعاد تيريزا بنفسه الى كالفورنيا و امرها بأن تترك اخاه وشأنه.
-واندريه ؟ ماذا فعل ؟
-ذهب ايضاً الى كالفورنيا ولم نسمع عنه شيئاً لوقت طويل . كان خوان يسافر كثيراً الى بلدان اخرى ليشترك في مصارعات ثيران تقام فيها ، وكانت اخته قد تزوجت و سافرت لتعيش في الولايات المتحدة . ثم ذات يوم ، وقبل عامين تقريباً ، كان السنيور خوان على وشك ان يدخل الحلبة في نهاية المصارعة التي جرت في مانيسالاس ،واذا بتلك المرأة تظهر فجأة ، لتخبره ان اندريه قد توفي ، او بالاحرى ، قتل نفسه .
فشهقت سوريل قائلة :
-تقصدين انه انتحر ؟
-اجل ، فتلك الفاسدة كانت قد اوصلته الى الادمان وحيث تناول كمية مضاعفة من بعض انواع المخدرات . اصيب السنيور خوان وقتها بصدمة عنيفة ووضع كل اللوم على نفسه لكونه لم يعتن بأخيه كما يجب . ثم دخل الحلبة و اصيب بذلك الجرح الخطير .
وهنا اظهرت جوفيتا عواطفها الكامنة بشكل لم تظهره من قبل وهي تتابع متأوهة :
-آخ ، آخ ... كان وقتاً رهيباً ذلك الذي مررنا فيه ، وقد جرؤت تلك المرأة على المجيء الى هنا اثناء نقاهة خوان من مرضه . لقد ساعده جداً وجود السنيورا انيز هنا آنذاك اذ انها طردت تيريزا بالنيابة عنه.
انتهت جوفيتا من تجفيفها فلفت سوريل المنشفة حول جسمها على طريقة السارونغ الذي يرتديه اهل الملايو ودخلت غرفة النوم تقول :
-اشكرك جوفيتا على اخباري هذه القصة اذ واضحت لي بعض الامور التي غمضت علي. والان،جاء دوري لأقول لك شيئا. انا لم اعد فتاة عازبة،فقد تم زواجي من السنيور خوان في كوبايا،ليلة الخميس . كان من المفروض ان احضر المصارعة حين جرح،لكني اضطررت الى العودة الي ميدلين ذلك النهار.
حدقت اليها جوفيتا بذهول ثم نظرت الى خاتم الزواج وهمست وعيناها تمتلئان بالدموع:
-سنيورا. سنيورا رينالدا.انا سعيدة جدا من اجلكما معا، انه ليس ابني لكنني احبه وكأنه كذلك. من الان فصاعدا لن اقلق عليه فانت ستعتنين به جيدا. من فضلك، سنيورا،البسي رداءك كي اجفف شعرك واسرحه.
ارتدت سوريل قميص النوم الذي احضرته معها وفوقه الروب الفضفاض المرافق له. جلست امام المرآة وتذكرت جلستها الاولى مساء الاثنين الماضي. كم يختلف شعورها انذاك! الان لا ترغب بتاتا في الهروب ولا
تريد الا ان تبقى مع خوان وتعيش في كنفه. لكن المشكلة انها غير متأكدة من استمرار رغبته فيها.
واخيرا انتهت جوفيتا من تسريح شعرها ثم تمنت لها نوما مريحا وغادرت الغرفة. جلست لفترة تفكر في قصة اندريه وتيريزا،قصة حب وعنف وموت مأساوي،دقت الساعة الاثرية مؤذنة حلول العاشرة ليلا، تماما حدث في الليلة الاخرى. يجب ان تنام لتعوض عن النوم الذي جافاها في الليلتين الماضيتين ولتنهض في الصباح منتعشة ومستعدة لمواجهة اي عقاب قد ينزله خوان بها.
مشت الى حيث السرير وازاحت غطاءه جانبا، وحين همت بنزع الروب قفزت الى ذهنها فكرة اخرى ستذهب لتقي نظرة على خوان ولتطمئن الى راحته... افلم توكل اليها جوفيتا مسؤولية العناية به؟
وفي الحال، عبرت الحمام الموصل بين غرفتيهما، ثم فتحت الباب بهدوء ووقفت على عتبته تنظر حولها. كان المصباح الى جانب السرير مضاء، تقدمت سوريل داخل الغرفة واغلقت الباب بغاية اللطف. وبالرغم من ذلك اصدر طقطقة بسيطة فتجمدت للحظة وتراقب خوان الا انه بدا في عالم اخر، فخطت الى الامام وقدماها الحافيتان تغوصان في ثنايا السجادة القرمزية الوثيرة. توقفت عند السرير ونظرت الى تحت . كان خوان مضطجعا على بطنه، وجهه مدار الى الجهة الاخرى فلم تقدر ان ترى منه الا جانب خده وحنكه البارز واهدابه الكثة التي تظلل عينا واحد مطبقة. غطاء السرير كان يدثره حتى خصره فيما صدره عاريا، والقسم الاعلى من ذراعه اليسرى ملفوفا بضمادات بدت شديدة البياض بالنسبة الى جلده الزيتوني اللون. تراجعت الى خلف ، تبحث بعينيها عن كرسي لتحمله الى جانب السرير وقد خطر لها ان تجلس لفترة قربه. وفجأة، سمعته يسأل بصوت خفيض وثقيل كما لو انه استيقظ من النوم لتوه:
-اهذه انت يا جوفيتا؟ الم اطلب اليك الا ترجعي؟
ثم قسا صوته واكتسى بنبرة متسلطة وهو يتابع:
-طالما انك جئت فيمكنك ان تقومي بعمل نافع. افركي ظهري من فضلك، فعضلاته كلها تؤلمني.
لم يكن قد ادار راسه ولا فتح عينه. جمدت سوريل في مكانها لاتدري كيف تتصرف. ثم تنبهت فجأة الى انه يطلب شيئا تستطيع هي ان تؤديه له بطريقة بارعة تعجز عنها جوفيتا لان التدليك مهنتها. انها تعرف بالضبط موقع الالم في ظهره وتعرف سببه. استيقظت في كيانها روح شيطنة هاجعة جعلتها تبتسم لنفسها.سوف تدلك ظهره و تتركه يحزر هوية المدلك ! انحنت ووضعت يديها على الجانبين السفليين لعموده الفقري وبدأت التدليك بضربات قوية عريضة . خيل اليها ان عضلاته تقلصت قليلاً ، فتوقعت ان يدير رأسه و يفتح عينيه ، لكنه لم يفعل . اطلق تنهداً بطيئاً وركز رأسه على ذراعه في وضع مريح . كانت سوريل تستمتع دائماً بعملها التدليكي و قد توصلت مع الوقت الى تأديته بانعزالية مهنية تامة مما جعل منها مدلكة ناجحة . لكن حين راحت تمسد ظهر خوان بدأت تفقد تلك الانعزالية بالتدريج . فهذا هو الرجل الذي احبت و الذي عاهدت نفسها امام الله ان تكون له بالروح و الجسم . فشعرت بالحب يسري فيها وتحول ملمس اصابعها الى ضغطات حارة وناعمة كالحرير .
وفجأة سمعته يسألها بالانكليزية ، وبصوت شرس اشعرها بامتعاضه :
-كم من الرجال دلكت لهم ظهورهم يا سوريل ؟
فتلاحقت انفاسها بفعل التعب و الحب معاً وسألته مبهورة ؟
-كيف عرفت انني انا التي تدلك ظهرك ؟
-لأن يدي جوفيتا كمخالب الطير اما يداك فهما ... لكنك لم تجيبي على سؤالي.
كان عملها في المستشفى البريطاني محصوراً في تدليك النساء فقط ، اما المرضى الرجال فكان يوكل امرهم الى مدلكين ذكور . ولذا اجابته وهي تجلس على حافة السرير :
-ولا رجل واحد.
فغمغم قائلا :
-عظيم . فوالله لو قلت غير هذا لكنت بحثت عن هؤلاء الرجال وقتلتهم واحداً واحداً لانهم نعموا بلمس يديك قبلي !
-هل عليك ان تكون عنيفاً الى هذا الحد ، او غيوراً ؟
-هكذا اذن ! اصبحت الان عنيفاً و غيوراً اضافة الى كوني عديم المبادئ ، مخادعاً ، منحط الاخلاق ومنحرفاً ، باختصار ، من النوع الذي لا يروق لك بتاتاً.
ثم استدار اليها و تابع وهو يساعد نفسه على الجلوس :
-لماذا جئت اذن ؟
بدا وجهه شاحباً فوق لحيته النامية حديثاً ، وعظمتا خديه بارزتين جداً لكن عينيه كانتا تتألقان بنار باهتة تحت جفنين ثقيلين ، وهو يصوب اليها نظرة جارفة . وسألها بسخرية لاذعة :
-هل استدعتك اوهينيا و افهمتك ان واجباتك الزوجية تحتم عليك المجيء الي ؟
-كلا ، لم تفعل . انا جئت لكي ...
توقفت وما استطاعت النظر اليه اذ اجتاحتها رغبة في ان تمد اليه ذراعيها وتلصق رأسه بصدرها لتخفف عنه ما يكابد من آلام . لكنها ابتلعت ريقها الجاف وقالت بصوت جامد :
-لماذا لم تخبرني انك كنت تنوي الاشتراك في المصارعة يوم الاربعاء ؟
-لانني لم اعرف ذلك حتى صباح ذلك اليوم . فالمصارع المكسيكي لم يحضر بسبب مرض مفاجئ الم به ، وهكذا طلب الي دييغو ان انوب عنه . رجعت الى البيت لاخبرك لكني لم اجدك هناك.
رمقها بنظرة مزدرية اشعرتها بخجل كامش و تابع بجفاف :
-اشكرك على الرسالة . كانت في منتهى الوضوح ! لهذا انا مندهش من عودتك . حسبتك قد هجرتني.
ادركت لحظتها ان تلك الرسالة المجرمة السبب الحقيقي لاستلقائه هنا شبه مخدر بتأثير الحبوب المسكنة للألم . احست العذاب يمزقها قطعاً فهتفت متأوهة :
-ليتني عرفت ! لو اني عرفت انك ستشترك في المصارعة لما ذهبت الى ميدلين . الذنب ذنبي لانك جرحت.
-ذنبك؟من اين جئت بهذه الفكرة بحق الجحيم؟
-اخبرني دييغو انك يجب ان لا تضطرب بأي شكل قبل دخولك الحلبة. قال ان هدا ما حدث في مانيسالاس.
-اقال لك ذلك؟
اطلق ضحكة قصيرة متهكمة جعلتها تنظر اليه باستغراب. رأته يستلقي على الوسائد مراقبا اياها بحدة ، وتابع يقول:
-هكذا افترضت ان رسالتك عكرت مزاجي! ها! ان دييغو يعرف كيف يؤلف قصة مقنعة عندما يرغب في ذلك.
عادت ترتجف الما من سخريته اللاذعة وسألته :
-ماذا تقصد؟
-طلبت اليه يبذل جهده ليقنعك بالبقاء وحضور المصارعة يوم الثلاثاء وهكذا ابتدع تلك القصة ليضرب على وتر ضميرك. انه طبيب نفسي جيد، اليس كذلك؟ فأنت حضرت المصارعة كي لا تحملي ضميرك وزرا وليس لتبعدي عني الاذى.
-لكنك كنت مضطربا قبل دخولك الحلبة في مانيسالاس. جوفيتا اخبرتني انك اضطربت جدا حين سمعت ان اخاك قد انتحر.
اقسم بالله انك امضيت وقتا ممتعا في التجسس علي من وراء ظهري! والان جئت راكضة الى فراش مرضي بتأثير ضميرك المعذب. لماذا؟ هل خفت ان موت قبل ان اغفر لك فعلتك؟ اذن دعيني اريح ضميرك بالنيابة عنك. كان الذنب ذنبي. كنت اعرض بطولتي كالعادة وازود الناس ببعض المشاهد المثير لقاء ثمن البطاقات، سواء في المصارعة مانيسالاس اومصارعة كوبايا الاخيرة. لقد اتحت للثيران ان تقترب مني اكثر من اللزوم ولم اقفز من طريقها بالسرعة المطلوبة. في منيسالاس، كان الثور كبيرا وما يزال يحتفظ بتصميم كبير على القتال، وفي كوبايا كان ثورا صغير الحجم والسن ربما خجولا. كانت مجرد مصادفة ان يحدث ذلك في اليوم نفسه الذي قررت ان تهجريني فيه. الحادثة الاولى مجرد صدفة ايضا.
توقف صوته الهازئ الخفيض ففكرت سوريل في نفسها:"لو انه لسع جلدي بسوط لما استطاع ان يجرح احاسيسي الى هذا الحد..." وتابع يقول:
-ثقي انك لست الملومة . والان، اخرجي من هنا، وعودي الى انكلترا او ميدلين او الى اي مكان يحلو لك. لا اريدك ان تحومي حوالي لمجرد ان ضميرك يلسعك.
اشاح وجهه عنها كي لا تقدر ان تراه، فقالت:
-لست هنا بدافع من ضميري المعذب. لقد رجعت لاني... اظن انني واقعة في حبك.
فرد بسخرية:
-تظنين انك واقعة في حبي؟ اين الجدوى من ذلك بالنسبة الى رجل حار الدماء مثلي؟
-انا لا اكذب!
-امضي عني. اتركيني وشأني لا ستكمل موتي على انفراد.
-كلا!كلا!
تملكها الذعر فلم تدر ماذا تفعل او تقول لتقنعه. وفي غمرة يأسها،
ازاحت الغطاء واستقلت الى جواره على السرير. احاطته بذراعها وهمست متوسلة:
-خوان، انت لن تموت ، لن ادعك تموت ،لن ادعك تموت لاني احبك واريدك ان تعيش كي استطيع مشاركتك حياتك. لقد اخبرتني مرة انك تريد هذا ، وها انا الان اطلب الشيء نفسه بعدما اكتشفت انني احبك... احبك، هل تسمعني؟
تفجرت الدموع من عينيها واردفت:
-اوه يا خوان، ماذا افعل لاقنعك؟ اخبرني ، ارجوك! استدار اليها على مهل وقال برقة:
-حاولي عناقي. لا داعي لان تخجلي مني. اريدك سوريل، اريدك الان. بكل جارحة من جوارحي.
-الرغبة تختلف عن الحب.
-في الاسبانية معناهما واحد"تي كييرو"تعني اريدك."تي كييرو" تعني احبك ."تي كييرو موتشو" تعني احبك كثيرا. يبدو ان امك لم تعلمك الاسبانية جيدا... انا دائما احب بهذه اللغة، وما انفكيت اردد على مسمعك منذ عصر الاثنين انني احبك احبك. لكنك لم تفهمي.
وهنا ابتعدت عنه قليلا لخوفها من ان ينفتح جرح ذراعه اذا مام بحركة عنيفة، وقالت:
-جئت غرفتك بقصد الاطمئنان عليك. بوسعي ان انام في الغرفة الاخرى.
ضمها اليه واجاب
-بل ستبقين هنا. سوف ننام الليلة معا وفي كل ليلة اخرى. هذا عقابك على تركك اياي صبيحة يوم زواجنا.
-العقاب االعذب . لكني مسرورة الى حد ما لانني تركتك، فلو لم افعل، لما قدرت ربما ان اكتشف حبي لك. هل احببتني فعلا منذ لقائنا الاول؟
-اجل ، لكن في بادئ الامر احببتك بعيني، اذا وجدت فيك كل ما كنت ابحث عنه من جمال انثوي. اتذكرين كيف استمريت احدق فيك؟
-اجل، اتذكر. وقد حسبت.... حسبت...
-حسبتني سيء النية، وانا بدأت وقتها اكتشف بأنك تختلفين عن كل امرأة اخرى عرفتها . فبالرغم من المك انذاك وضياعك، اظهرت شجاعة فائقة، فأعجبت بنزعتك الاستقلالية. كنت تكيلين لي الكيل كيلين فشكلت لي تحديا لم اجده في امرأة غيرك من قبل، وبدأت افكر كم ستكون الحياة مسلية ومفرحة اذا عشت معك لفترة . غير انني فشلت في اختراق ذلك الحاجز الدفاعي الذي شيدته حول نفسك في ذلك الوقت القصير الذي قضيناه معا. ثم عجزت عن ايجاد طريقة تمكنني من لقائك ثانية، ولذا القيت اليك بذلك الطعم وطلبت اليك ان تقصديني اذا احتجت الى مساعدة.
ضحك برقة وبلهجة منتصرة ثم تابع:
-نجح الطعم اكثر بكثير مما توقعت! جئت الي بنفسك وكانت الخطوة التالية ان اقنعك بالبقاء. وفي خلال ذلكاكتشفت كم انت برئية وقابلة للعطب ،فغمرتني رغبة قوية في ان احميك واحتفظ بك لنفسي. الامر الذي جعلني ادرك اني اريدك ان تكوني اكثر من حبيبة عابرة الهو بها، اردتك ان تكوني زوجتي، ليس لمجرد ان اقنع رامون انهل بانني لم اهتم قط بزوجته، مع انه خطر لي ان زواجي منك قد يكون طريقه افضل لاقناعة من الطريقة التي اقترحتها انت.
فادركت في تلك اللحظة قصد خوان الحقيقي من قوله السابق انه تزوجها على امل ان تتوقف الاشاعة حول علاقته بمونيكا، واحست بخجل كبير من نفسها فقالت متعلثمة:
-اوه...انا...لم افهم...قصدك . خوان، كم يؤسفني تصرفي الوضيع ذلك الصباح.
اجابها بصدقة المعهود.
-انه يؤسفني ايضا. لقد جرحتني في الصميم، كنت اول امرأة تجرحني بكلامها وبالتالي وجدت نفسي اواجه تجربة جديده مخيفة جعلتني اعي مدى تورطي العاطفي معك، وهذا الاكتشاف اثار غضبي ودفعني الى اسماعك عبارات مهينة ندمت عليها وما زال نادما عليها. لذا لم استغرب هروبك وما اعتقدت انك سترجعين.
-هل كنت ستلحق بي لو لم تصب في الحلبة؟
اجابها مستفزا:
-ربما نعم، وربما لا.
فردت تتهمه بلطف:
-بدافع الكرامة؟
قال بسخرية:
-نعم يمكنك ان تضيفي الكرامة الى لائحة الموبقات التي الصقتها بي لكن اخبريني يا حبيبتي، ل كنت ستدوسين على كرامتك وتعودين الي بعد اصابتي؟
همست وهي تحاول ان تجاريه في صدقه:
-لست ادري. لكني ارجح ذلك.
-اذن دعينا نقفل هذا الموضوع نهائيا.
ثم ضمها فرب قلبه واردف:
-دعينا الان نستمتعع بوجودنا معا. دعينا تنبادل الغزل ياجمليتي سوريل.
فقالت تعترض بلهفة:
-لكنك ضعيف من جراء النزيف .
-اتظنين ذلك؟ اذن عليك ان تساعديني في استرداد قوتي
**تمت**
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top