مشوِيٌّ ومشوَيٌّ

أصوات زغاريد ودفوف تتعالى وسط عدد من المدعويين الخارجين من قاعة مناسبات ملحقة بأحد المساجد.

ظهرت العروس بطلتها المحتشمة وزينتها الهادئة متأبطة ذراع زوجها ثم ركبا أحد السيارات وبعدها تحركت وسط ضجة باقي السيارات.

جلست العروس في الخلف جوار عريسها ثم ربتت بحب على كتف أمه الجالسة على المقعد الأمامي والتي بدت أمها خاصةً وهي تهدر دعواتها بالبركة للعروسين من حينٍ لآخر.

أراحت العروس ظهرها على المقعد وشردت في الشارع الذي تتابعه عبر نافذة السيارة...

أُدعى فاتن، ليس لي في هذه الحياة سوى أمي؛ لا أعرف أبي إلا من صورته القديمة مع أمي ليلة عرسهما، عملت أمي بالخياطة لتنفق علينا حتى كبرتُ وكبرتْ هي الأخرى ولم تعد قادرة على العمل فخلفتها وعملتُ كخياطة في نفس المكان الذي تحول من مجرد مشغل إلى مصنع للملابس.

لكني كنتُ أعمل طوال اليوم وعندما أعود شبه منهكة أُفضل الجلوس مع أمي عن أي شيءٍ آخر، كنتُ أسترق بعض الوقت للقيام ببعض الأعمال المنزلية.

بمرور الأيام فُتح محلًا أمام بيتنا للمشويات، كان المحل صغيرًا بحق لكني كنتُ أتابعه وتأكدتُ من نظافته، وأكثر ما أعجبني ووافق هوايّ أنه يأخذ اللحوم والدجاج من الزبائن ويقوم هو بطهوها أو شويها، بالإضافة لعمل الطواجن، وبدأتُ أحضر دجاجة أنظفها وأقطعها ليقوم بشويها بتتبيلته الرائعة أو أحضر بعض الخضراوات المقطعة وأطلب تسويتها في طاجن.

بالإضافة لنظافة الطعام وروعة مذاقه، وفّر وقتي الذي أجالس فيه أمي بعد عودتي من عملي، شيءٌ واحد هو الذي يضيق به صدري ويثير غضبي بحق، هو أمر زواجي الذي تأخر وقد تجاوزت الثلاثين من عمري.

لكني أعي جيدًا لعمري وحالتنا الاجتماعية والمادية، بالرغم من أن راتبي يكفينا بالكاد لكن لا ينقصنا أي من الضروريات، بالإضافة لهيئتي فأنا فاتن لكنه مجرد اسم؛ فملامحي عادية جدًا ولا قدرة لي للذهاب إلى صالونات التجميل مثل الأخريات وارتداء العباءة المحتشمة قد أغناني عن البحث بين المحلات لاقتناء أحدث الثياب، ففي جميع الأحوال ليس بي ما يجذب خاطبًا، خاصةً وأنا لن أترك أمي نهائيًا، وهي من أفنت عمرها، صحتها وشبابها عليّ ورفضت التزوج بعد أبي من أجلي، وحان موعد الوفاء بالدَين الذي مهما فعلت لا أوفيها حقها.

مرت الأيام والحياة تمضي على وتيرة واحدة ولازلتُ أذهب إلى محل المشويات لشواء أو طهو الطعام ريثما أعود من عملي.

كان يعمل في هذا المحل الصغير شابين، أظن على الأغلب أنهما أَخوَان لتشابه ملامحهما، ويبدو أن لأحدهما ابنًا صغيرًا ألمحه من حينٍ لآخر حول المحل لكني لم أعلم هو ابن أيهما!

ورغم أني اعتدتُ التردد على المحل والتعامل معهما لكني أشعر بمبالغة لطف ما ينادونه هاني معي، وهو الأخ الأصغر وإن كان غير وسيمًا لكنه دائم التبسم وسمح الملامح، أجد الحفاوة في استقبالي، التملق في التعامل وانتقاء الكلمات، لكنه لم يتعدى الأدب واللياقة مما جعلني لا أكترث لكل هذا رغم تزايده، حتى أني أحيانًا لأقرأ وسط سمرة ملامحه حزنًا وقهرًا لا أعرف سببه!

لازالت تمر الأيام وكلما مرضت أمي أزداد ارتعابًا أن تصاب بمكروهٍ فأفارقها وأعيش وحيدة في هذه الحياة، وقتها لم تعد هناك أي حياة.

كنت ألمح الحزن المكتوم داخلها علي؛ وكوني لازلتُ دون زواج أو حتى خطبة، لكني كنتُ أهون الأمر عليها حتى ولو كل قريناتي تزوجن وأنجبن.

وذات يوم وكان بحقٍ لا يُنسى، بعد أن أنهيتُ أنا وأمي طعام الغداء وكان يومها من الدجاج المشوي وقد تبقّى منه قطعتين تكفيان غداءنا في الغد، وبدأت في جمع أثار الغداء ثم فككتُ لفافة الدجاج كي أحفظ القطعتين في علبة أصغر، لكني انتبهت عندما نزعت ورقة الطعام الفضي وجود ورقة مطوية وملفوفة بطبقة من النايلون!

في البداية ظننتها الإسم المرفق للطعام وبالفعل هممتُ برميها في القمامة مع باقي المخلفات، لكن فجأة حثني فضولي لتفقدها.

نزعتُ طبقة النايلون وفتحتُ الورقة والتي تفاجأت أنها رسالة مكتوبة، وجمتُ للحظاتٍ؛ فلم أتعرض لموقفٍ هكذا من قبل ولا حتى عندما كنتُ مراهقة!

جلستُ لأقرأ الرسالة ولازلتُ مشدوهة غير مصدقة!

«لن أبدأ بالتحية أو السلام الذي لم تجيبي عليه يومًا، ولن أسألكِ عن حالك حتى وأنا مشتاق لمعرفة الإجابة.
شهور عديدة أكتب رسائلًا عديمة الجدوى، في كل مرة أنوي أن تكون الرسالة الأخيرة، أصر أن أحافظ على كرامتي التي تهدريها بتجاهلك ولامبالاتك، لكن هذا القلب اللعين قد أسرني وتحكم بي فلا أجد نفسي إلا كاتبًا رسالة جديدة ثم أدسها وسط لفافة المشوي على أمل أن تعرفي حقيقة شعوري وتبادليني هذا الشعور، لكن لم أجد منكِ إلا الجفاء وعدم الاكتراث.
هل تعلمي أني وافقتُ رغبة أمي وذهبتُ معها لمقابلة عروس ما كي أريحها؟ لكني وجدتُ نفسي أبحث عنكِ فيها وحمدتُ ربي ألّم تتم الخطبة.
ورغم كل هذا أعاود مكاتبتك، أنتظر لحظة بزوغك كل صباح من أمامي ليشرق يومي، لحظة قدومك تطلبين شيئًا، اُمنّي نفسي بمشاعر وأمور لم تحدث بعد، ومن الواضح أنها لن تحدث أبدًا.
لو تعلمي قدر حبك المتأجج داخلي الذي فاق تأجج النار من الفحم، أنا أُشوى وأحترق من لوعة حبك مثل اللحم المشوي، بل أنا كذلك مشوي.
تعالي واسألي جدران هذا المحل، اسألي أفرانه وأنا أشد اشتعالًا منها... لكن ما فائدة كل هذا الحب مادمتِ تتحاهليه؟! ومادام من طرفٍ واحد؟
أراني قد كُتب عليّ أشوِي وأُشوَىٰ، لكني وبكل صراحة أحبك وسأظل أحبك.»

كأن هذه اللحظة مُسحت من ذاكرتي؛ أكاد لا أتذكر حالتي وقتها، على الأغلب أني طويتُ الورقة داخل جيب منامتي وتفقدتها من حينٍ لآخر أعيد قراءتها وأنا غير مصدقة، اجتمعت الكثير من المشاعر داخلي مابين سعادة وخجل؛ فلا أصدق أن يحبني أحدهم كل هذا الحب دون أن أنتبه، وخجل لأن الارتباك صادقني بمجرد لمحه عن بُعد، حتى أني توقفت عن إعداد الغداء في محله.

مكثتُ لفترة على هذه الحالة، مبتعدة ومنزوية على حالي وفي نفس الوقت أعاود قراءة رسالته المشوية بنار حبه ولهيب أشواقه، وكلما مال قلبي تذكرتُ أمي التي لا طاقة لي على تركها، إلى أن اشتهت أمي الدجاج المشوي وطلبته بنفسها فلم أجد إلا أن أُلبي طلبها.

في اليوم التالي اشتريتُ الدجاجة ونظّفتها وقطعتها كما اعتدت، خرجت أبكر من موعدي لا أدري السبب، اقتربتُ من المحل على استحياء بعد أن تفقدتُ هيئتي عشرات المرات على غير عادتي، وإن كان الأمر لا يحتاج؛ فأنا لا أخرج إلا بعباءة وحجاب فضفاضين ولا علاقة لي بأدوات الزينة ولا حتى الكحل، أراني أتعجب كيف أُعجبت بي يا هاني بل وأحببتني كل هذا الحب!

كان المحل هادئًا ولم يتوافد الزبائن بعد، والأهم أنه وحده، كان يقطع كميات من البصل، الفلفل، الطماطم والجزر، مندمجًا في عمله، تفقدته بدقة لأول مرة، بدا لي من وقفته وطريقة إمساكه بالسكين وتقطيعه كطباخٍ محترف، حتى إني قلتُ في نفسي ربما تخرج من كلية السياحة والفنادق أو شيء شابهها، لكن رغم هذا لم يخفى عليّ وقتها تنفيس غضبه أثناء التقطيع.

وفجأة رفع رأسه باستياءٍ فتجمدتُ في أرضي وكأنه أحدهم قذفني بدلو ماءٍ مثلّج، توقعته آنذاك سيحتد في كلامه أو ربما يصيح في وجهي، لكن فجأة تبدلت ملامحه المتشنجة لابتسامة عريضة احتلت كل إنشٍ في وجهه، ترك كل شيء واقترب مهرولًا وهتف بسعادة وحب لأول مرة أدركه منه: مرحبًا يا آنسة فاتن، لقد طالت غيبتك! أتمنى أن تكون أمورك وأمور والدتك بخير....

تلعثم قليلًا ثم أكمل: كيف حالك؟

أومأت برأسي دون أدنى تصور عن هيئة ملامحي، لكني أعتقد أني كنتُ وقتها كالبلهاء، أجبتُ: بخير.

سكتُّ هُنيهة ثم سألته: أراك تقطع الخضراوات مثل المحترفين!

- في الواقع لقد درست الفندقة في الجامعة وعملتُ في مطاعم وفنادق عديدة كطباخ تحت التدريب ثم مساعد طباخ، لكن العمل كان مرهقًا والمقابل غير مناسب، بالإضافة لسوء معاملة الطباخين الأقدم مني، اقترحتُ على أبي وأخي الأكبر فكرة هذا المحل فوافقاني وعملتُ كما ترين.

- موفق إن شاء الله، أمي دومًا تقول الرزق للشباب بقدر سعيهم.

- بارك الله فيها وأطال في عمرها!

- آمين! فهي كل من لي ولا طاقة لي على فراقها أبدًا.

باعد بين شفتيه كأنه سيقول شيئًا ثم تراجع، ازداد ارتباكي لكني تشجعتُ قائلة: كأنك تريد قول شيء.

فأسرع مجيبًا: أجل!
ثم تراجع مترددًا: أقصد...

سكت قليلًا ثم استرق النظر نحوي فوجدني مستعدة لسماعه وكلي أذانٌ صاغية، فتنهد واستطرد والشوق لامعًا بعينيه: كما تعلمين اسمي هاني وأخي الأكبر علي ولنا أختًا ثالثة، أبينا جزار ولديه محل كبير للجزارة في الشارع الرئيسي، تخرجتُ من المعهد العالي للفندقة والحاسبات، لكني كنتُ قسم السياحة والفنادق، أنهيتُ خدمتي بالجيش، عملتُ في عدة أماكن كما ذكرتُ لكِ، و... و...

سكت مجددًا ثم أكمل بتردد: أتمنى لو أتزوج بفتاة على خُلق و.... و....

فقاطعته: لقد قرأت رسالتك المشوية.

فوجم فجأة وكأنه ظنني أود توبيخه، لكنني ارتبكتُ أنا الأخرى ولم أستطع التحدث فسألني: كأنك تقرأين لأول مرة!

أومأت قائلة: أجل، هي أول مرة، وقد تفاجأت بشدة.

- أعتذر لو كنتُ أزعجتك، لكن أقسم لكِ كنتُ أود التعبير عن مشاعري منتظرًا جوابك.

- جوابي!

- أجل، لو توافقين علي زوجًا لكِ!

- لكن... لكن... أنا لا أستطيع مفارقة أمي، ثم ماذا جذبك في؟! أنا مجرد فتاة عادية وأقل من العادية.

- لا أقبل هذا التقليل منكِ لنفسك، بل أنتِ أغلى مما تتخيلين، أما عن والدتك فأعِي هذا الأمر وأقدره، حتى أني تحدثتُ مع صاحب البيت لأشتري شقة الزوجية في نفس البيت، لكن انتظرتُ جوابك أولًا، ظننتُ أن الرسائل ستصلك، لكن...

- المهم قد وصلت إحداها.

فأطال النظر إليّ ينتظر ردي وقد توترتُ كثيرًا ولم أدري بم أجيبه، فتذكرتُ أمر الدجاجة فمددتُ يدي بها قائلة: إذا سمحت أريد شواء هذه الدجاجة كما اعتدت...

تشنجت وقتها ملامحه بشدة فأكملتُ بهدوء: واضبط الملح لأن حماتك مريضة ضغط.

وجم قليلًا ثم قال: حماتي!

فابتسمتُ على استحياء مومئة برأسي، فتبدلت ملامحه في لحظة وكاد يرقص في مكانه وأهدر بسعادة: سأصنع أشهى وأروع دجاج وسأصعد به أوصله بنفسي طالبًا السماح والبركة من حماتي...

لازلتُ أذكر كم كنتُ سعيدة يومها، وأنه جاء بعدها بصحبة أهله خاطبًا، وكان خير الخاطب والحبيب لي وخير الابن لأمي، بل واشترى الشقة المقابلة لأكون أقرب ما يكون منها، كل الأمور جرت ببساطة وسلاسة وهانحن ذاهبين لعشنا الجديد لنحيا معًا تجمعنا المودة، الرحمة وأجمل المشاعر.

همس لي ممسكًا يدي: تنتظركِ أروع تشكيلة للمشويات لعشاء أجمل عروس.

- وهل سأجدُ رسالة مشوية يا ترى؟

- ستجدي رسالة مشوية لكن بمكوناتٍ خاصة جدًا.

ابتسمتُ ولم أعقب، فقط تشبثتُ بذراعه ناظرة للطريق، فلم يتبقى إلا القليل وسنصل لبيتنا ونحيا حياتنا الجديدة.

تمّت بحمد الله 💜
2020

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top