حب غير مشروط


    استيقظ ملهم على صوت المنبّه، كان يود أن يعودَ للنوم مجددًا، والجو في الخارج يخبره أن يفعل ذلك أيضًا، فالمطر كان غزيزًا جدًا يخبره بألا ينهض من فراشه اليوم. لكن هذا أول يوم له في النقد، نقد القصص المبتذلة، عندما تذكر هذا نهض من سريره بحماس رغم كل الإغراءات الّتي تحثه على العودة للنوم. كانت السّاعة لا زالت تشير إلى التّاسعة صباحًا، اتجه إلى المطبخ لكي يُحضّر قهوته الصباحية، صبّ لنفسه كوبًا منها واتجه إلى مكتبته.

«ياله من يوم جميل!»، قال ملهم وهو يمد ذراعيه الطويلتين في الهواء، بعد أن جلس على كرسيه الذي أمام مكتبه العريض.

«حسنًا إذن، من أين نبدأ؟ أوه،  لقد تذكرت عليّ أولًا أن أرمي النرد لأعرف بأي فئة من الفئات أبدأ.»

    كان ملهم يتكلم مع نفسه كالمجنون، وعلى كل حال لن يستطيع توجيه حديثه لأحد؛ لأنه جالسٌ وحده في المكتبة.

«أتذكر أنني وضعته هنا… أين أنت أيها النرد الجميل تعال إلى أبيك… أين سأجد هذا النرد اللعين الآن؟»

    وقف ملهم غاضبًا لأنه لم يجد النّرد، فالوقت يداهمه عليه أن يقرأ قصة عن الفئة التي سيقترحها عليه النرد وأن يقوم بنشر نقده عن القصة على شبكة الانترنت ليعي النّاس حقيقة تلك القصص المبتذلة، ناهيك عن النّقد الذي يجب عليه كتابته عن الأفكار المبتذلة في القصة.

    أخذ يبحث تحت الطاولة لعلّ النّرد سقط منه البارحة ولم يكن منتبهًا له، تذكر:

«تذكرت، لقد وضعته على الرّف.»

قام من جديد، لكن وبسبب طول ساقيه ارتطم رأسه بالرف وسقط النّرد، وكأنه كان يضحك على موقف ملهم ذاك.

«يالك من نردٍ مشاغب!»

    تمتم ملهم وهو يأخذ النّرد بين أصابعه ويمسحه من الغبار، وكان قد نسيّ تمامًا رأسه الذي يؤلمه من أثر ارتطامه بالرّف.

«هل تضحك على أبيك أيها النرد؟ حسنًا لقد جاء دوري لأضحك عليك الآن.»

قال ملهم ذلك وهو يخض النّرد في يديه لكي يرميه ويُحدد الرقم فئة القصة.

«الرقم اثنان! إنها الفئة العاطفية»

    كان صوت ملهم قد تبدل من الملل إلى الحماس عندما ذكر جملته الأخيرة، وكأن الفئة العاطفية تشكل له حزنًا كبيرًا. ياله من شابٍ حساس!

    قام وذهب متجهًا إلى الرّف الذي يضم القصص والرّوايات، وقع نظره على كتاب غلافه أزرق يحمل الرقم اثنين، سحبه فكان عنوانه (صاحب الظل الطويل)، تذكر يوم ذهابه لخطبة الفتاة التي رآها بالحديقة والتي أسرته من أول نظرة، فقرر إخبار والدها الذي رفض طلب ملهم ليد ابنته، ومن ذلك اليوم قرر ملهم ألا يقرأ رواياتٍ عاطفية وأن يبتعد عن الحبّ كله، بعد أول تجربة حبّ فاشلة، كما يراها هو.

     لكن هذه المرّة لديه عمل، عليه أن يقرأ الرّواية، تحدى نفسه ومشاعره. فلم تكن بالرّواية الطّويلة، يمكنه إنهائها هذا اليوم، نعم، سيفعل ذلك، يستطع فعلها، فتح الرّواية وشرع يقرأ.

    قرأ أول صفحة فتاة يتيمة تعمل في ميتم وكل أعمال الميتم اليومية واقعة على عاتقها، و فجأة بين ليلة وضحاها تغيّر كُل شيء…

    اندمج ملهم مع أحداث الرواية، روح جودي المرحة التي تسللت إلى سطور الرواية تسللت إلى روح ملهم أيضًا، حتى أنه نسي قصة حبه الأولى. كانت الرّواية عبارة عن رسائل تكتبها جودي إلى صاحب الظّل الطّويل، إلى ذلك الرّجل الذي تكفل بمصاريف دراستها في الجامعة، وطلب في المقابل أن تكتب له كُل يوم ما يحدث معها؛ لكي يتمكن هو من متابعة مستواها الدراسي وطلب منها ألا تطلب منه ردًا على أي من رسائلها فقط هي تكتب وهو يستلم ويقرأ.

    كان الجو لا يزال ماطرًا في الخارج، لم ينتبه ملهم إلى الوقت إلا عندما بدأت معدته تقرقر.

«ليس وقتك يا معدتي، أريد إكمال الرّواية فضلا.»

    أخذ يلوم معدته الّتي قطعت عليه متعة قراءة الرّواية. التف إلى الساعة التي على الحائط لقد مرّت ساعتان فقط وهو يقرأ، جميل، لديه المزيد من الوقت. نهض متجهًا إلى المطبخ ليأكل شيئًا ويسكت معدته التي لا تنفك تطلب الطعام. أخرج علبة البيتزا التي كانت قد بقيت من عشاء البارحة، وبدأ بالأكل.

     كان يأكل ويفكر، لقد وصل إلى الجزء الأكثر حماسًا، من هو السيد جيرفيس بندلتون؟ أيعقل أن يكون هو نفسه صاحب الظل الطويل؟ لماذا يكذب على نفسه؟  إنه هو، نعم، تلك الإشارات تؤكد أن السيد جيرفيس هو نفسه صاحب الظل الطويل مثلما كانت جودي آبوت تسميه.

    أكمل طعامه بسرعة، حتى أنه غص في لقمة وهو يأكل بسرعة، عاد إلى المكتبة من جديد. أراد هذه المرة أن يغير مكانه وأن يجلس قبالة النافذة حيث يستطيع رؤية المطر وهو يهطل.

رتب مكان جلوسه وعاد للقراءة.

«أوه، لقد نسيت أن أغلق الكتاب على الصفحة التي وصلت إليها.»

صاح ملهم وهو يضع يده على شعره الأسود الداكن.

«لكن لا بأس، سأكمل من الصفحة مائة وثلاثون، الرواية ممتعة حقًا!»

    قال ذلك وهو يفتح الكتاب ويقلب الصفحات لكي يصل إلى الصفحة التي يُريد. نظر إلى المطر من خلال النافذة الكبيرة، أخذ نفسًا عميقًا، ابتسم وعاد يقرأ.

    كان لا يزال مبتسمًا وهو يقرأ، كان يبتسم كالأحمق ولم يكن منتبهًا لنفسه وهو يبتسم، وسرعان ما عَلَت الدهشة وجهه كانت النهاية صادمة فعلًا، أغلق الكتاب، توقف المطر فجأة وكأن الجو كان متفقًا مع ملهم، إذا قرأت الرّواية سأوفر لك أجواءًا جميلة للقراءة.

     نظر من النافذة لبعض الوقت، كان الشارع مبللًا والأمطار تتساقط من أوراق الأشجار، ظلّ على ذلك الحال لخمس دقائق وسرعان ما انتبه لنفسه، نظر إلى السّاعة كانت تشير إلى الثانية والنصف لديه متسعٌ من الوقت ليعدل على الرّواية، وإذا ما بذل جهدًا إضافيًا سيتمكن من نشر النقد اليوم أيضًا.

     اتجه إلى مكتبه، جلس على الكرسي، أحضر دفتر ملاحظاته وقلمه، شغل حاسوبه المحمول، شابك أصابع يديه مع بعضها وفرقعها، فقد بدأ وقت الجدّ.
شرع يحدث نفسه:
«حسنًا، من أين أبدأ؟ سأكتب ملاحظاتي حول ما أريد تعديله، وكذلك النقاط التي أريد نقدها، حسنًا.»

    أمسك قلمه وأخذ يكتب في دفتر ملاحظاته:
«جودي آبوت: فتاة ذكية ومرحة توفي والداها عندما كانت طفلة صغيرة ونشأت في دار للأيتام حيث طورت موهبتها في الكتابة. أحد مقالاتها لفتت انتباه جون سميث (صاحب السيقان الطويلة) مما جعله يتكفل في مصاريف دراستها الجامعية؛ نظرًا لرؤيته المستقبلية لها ككاتبة. حيث تتعرف هناك على صديقتيها سالي ماكبرايد وجوليا بندلتون»

    فكر ملهم، سيأخذ منه كتابة كل هذه المعلومات وقتًا طويلًا لماذا لا يبدأ مباشرة في التعديل وكتابة النقد؟

لم يأخذ منه اتخاذ القرار وقتًا طويلًا أبعد دفتر ملاحظاته وقلمه جانبًا، فتح حاسوبه المحمول ودخل لرابط الرواية إلكترونيا، ثم اتّجه إلى نهاية الرّواية وقام بالتعديل.

«لن تكون النهاية جميلة أبدًا إذا ما تزوجت جودي من السيد جيرفيس، فالسيد يكبرها بأعوام كثيرة وهذا يجعل فارقًا كبيرًا في التفكير بينهما، ناهيك عن أنه هو من تكفل بمصاريف جامعتها ولربما يؤدي ذلك إلى شعور جودي بالنقص تجاه هذا الموضوع، وعلى الرغم من كُل ذلك كانت جودي قد وافقت على عرض الزواج!» تكلم ملهم محدثًا نفسه، تذكر فجأة كلام والدة تلك الفتاة التي تقدم لخطبتها ذات يوم، ونصيحته لملهم بأن يقرأ هذه الرواية، عرف مقصد الرجل الآن، إنه العمر، نعم، لقد كان ملهم يكبر تلك الفتاة بأعوام كثيرة، ربما اثني عشرة عامًا أو أكثر.

ضرب جبهته بيده وأخذ يقول:
«يالي من عاشق ساذج! كيف لي أن أحب فتاة تصغرني بسنين كثيرة، لقد كان والداها محقًا فعلًا. الرجل المسكين حاول نصحي كثيرًا لكن عاطفتي تغلبت عليّ في ذلك اليوم، لقد شعرت بالإهانة وقتها ولم أكن أعلم أن ذهابي إلى بيت تلك الفتاة كان خطأ من الأساس.»

    أخذ يفكر في كلام الرجل العجوز، والد الفتاة التي كان يعتقد نفسه يحبها، وهو لم يكن سوى معجب بجمالها وقد اكتشف هذا في هذه اللحظة.

«حمدًا لله، لقد أنجاني الله من الوقوع في زواجٍ نهايته كارثية، ذلك الوالد الطيب كم كان لطيفًا معي، حسنًا عليّ أن لا أضيع المزيد من الوقت في التفكير في غير أمور، عليّ أن أكمل القصة اليوم.»

     كان ملهم جادًا في كلامه، يريد أن يترك كل شيء ويكمل عمله هذا اليوم، لا يريد تأجيله ليوم غد.

     كانت الرواية كلها جميلة لكن نهايتها لم تكن كذلك، فقام ملهم بالتعديل عليها كاتبًا:
«عندما زارت جودي عائلة بندلتون، كانت والدة جوليا مترددة من زيارة جودي لها، فعادت جودي وأخبرت صاحب الظّل الطّويل بكل تفاصيل زيارتها كما اعتادت أن تفعل كل مرة، تحكي له تفاصيل يومها. استغرب السيد جيرفس بندلتون من تردد والدة جوليا، صديقة جودي، فأخذ يبحث في الأمر ليعرف في نهاية المطاف أن جودي هي ابنة أخت والدة جوليا، أي أن جوليا هي ابنة خالة جودي. وكانت والدة جوليا تخشى اكتشاف العائلة لهذا السر؛ لأن أختها كانت قد تزوجت من رجل فقير الحال رغم يسر حالها هي، كانت قد تعرفت عليه مرة عندما ذهبا لشراء بعض الأقمشة وأحبته ولم تتردد في الزواج به رغم الاعتراضات وأصبحت لهما طفلة صغيرة وكانت الظروف قد عصفت بالزوجين وأصبحا في ضائقة مالية لا يُحسدا عليها، وفي يوم من الأيام أصيب الوالدين بالحمى الشديد مما قد أدى إلى وفاتهما؛ لعدم قدرتهما على الذهاب للطبيب وكانا قد تركا جودي قريبًا من دار الأيتام، بدون أي معلومات عنها. كل هذا كانت والدة جوليا تعرفه وأخفت السر عن الجميع؛ بسبب الخوف من الفضيحة، وجعلت جودي المسكينة تعيش حياة البؤس والشقاء في ملجأ الأيتام. تردد السّيد جيرفس من إخبار جودي بهذه المعلومات، فلم يُرد أن يجرح مشاعرها ويعيدها إلى ماضيها المظلم الذي ورغم قسوته لا تزال متفائلة وتريد عيش حياتها، فماذا سيحصل لها إن علمت أنها من عائلة عريقة وثرية؟ قرر الاحتفاظ بالسر لنفسه. أما جودي فقد أعطاها مزرعته التي كانت جودي تقضي الصيف بها ليكون لديها سكن تذهب إليه عندما تكمل حياتها الجامعية.»

وضع نقطة في نهاية الرواية، شق ثغره عن ابتسامة عريضة، لقد أعجبته النهاية، لقد أحبها.

تنهد وقال:
«جودي المسكينة… رغم كل ذلك الألم الذي عايشتيه وتلك المعاناة، لا زلت متفائلة ترسمين حياتك الخاصة بعيدًا عن الميتم، فتاة قوية! أنتِ خيرُ مثال يُقتدى به في التفائل!»

     كان ملهم شارداً يفكر في جودي لقد كانت تقول للسيد جيرفس في رسائلها أنها تتعجب من الناس الذين لا يفرحون بما لديهم ولا يفرحون بإنجازاتهم رغم بساطتها، ويؤجلون فرحتهم إلى حين يحصلون على أعظم الإنجازات، ويكونوا قد تقدموا في العمر بالفعل، وكما قالت جودي، الاستمتاع بالرّحلة هو إنجاز بحد ذاته.

     كان ملهم يضع رأسه على يديه ويتكأ على كرسيه مادًا ساقيه الطويلتين على المكتب، كان قد أنهى مهمته ونشر نقده، نظر إلى ما نشره ليرى إن كان قد حصل على تعليق أو إعجاب ما، لم يجد شيئًا. حدث نفسه قائلًا:
«لم تمر ساعة واحدة على النشر لم يره أحد حتى الآن.»

     كان قد استمتع برواية صاحب الظّل الطّويل كما قد تعلم الكثير من جودي واستطاع أن يكمل مهمته كلها في هذا اليوم، لقد حقق إنجارًا عظيمًا اليوم، يستحق أن ينام لساعات متتالية من دون أي إزعاج.

     نظر إلى السّاعة إنها الواحدة صباحًا، لقد قضى الكثير من الوقت يفكر، ساعة أو ساعتين لا يعلم بالضبط، شعر أن جفونه ثقيلة، يريد النوم، وقف وترك الفوضى كما هي ليذهب إلى الغرفة ويرمي نفسه على السّرير فيغط في نومٍ عميق.

    غطّ صديقنا في النوم، وبقينا أنا وأنتم فقط، فأخبروني برأيكم حول الفصل، وبنظركم أعزائي أي فئة سنناقشها تاليًا؟ وهل أعجبتم بملهم، أم لا زال الوقت باكرًا لذلك؟

    انتظرونا بفصل جديد مع قصة جديدة ومشكلة أخرى.
-كانت معكم سومر.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top