الفصل السادس والعشرون : نداءٌ بلا استجابة!
لا تنسوا إخواننا في غـ8ـزة من دعائكم 🤍
______________
« أنا...بخير..لا..تقلق »
تقطّعت كلمات براء بينما تخرج بشقّ الأنفس من بين شفتيه الداميتين.
« توقّف عن قول تلك الكلمة! أنت تسعل منذ أسبوعين! هل تنزف هذا الدم مؤخّرا من فمك؟! »
عاتبته بقلق وقد تسلّلت الراحة لفؤادي رويدًا رويدًا إبّان هدوء نوبة سعاله.
تبسّم وهو يجفّف ما تبقّى من دماءٍ دبِقة تبقّت متشبّثة بشفتيه ثم أجابني بصوت خفيض : « نعم، كلامك صحيح، على الأرجح قد جُرِح حلقي،
ربما نزلة بردٍ لا أكثر »
« وعلامَ تبتسم ؟ »
تبسّم مجدّدا ثم أجابني : « لاشيء! »
« هل تأخذ دواءً لذاك السعال؟ لا أظنّ أنّها نزلة بردٍ عاديّة! هي لا تستمرّ لتلك المدّة »
التفت لي ولازالت هناك بقايًا قرمزيّة قاتمة تلطّخ شفتيه وأجابني : « نعم آخذ له دواءً، لا تقلق يا عُميْر، أنسيت أنّي طبيب؟ »
اختتم كلامه وهو يتحامل على نفسه بإرهاق ليخطو نحو شجيراتنا.
لحقته بينما عقّبت على جوابه : « طبيبٌ مهملٌ
لصحّته! »
أحنى جذعه وقرفص أمام زرْعنا وأخذ يُمرّر كفّه على الأوراق التي تلّونت بخضرةٍ ناصعة بينما تلألأت قطيرات الندى التي أخذت تنزلق على أسطحها.
رفع كفّيه وأخذ يفركهما ببعضٍ ثمّ تحدّث بينما يستنشق عبق النباتات العطريّة.
« رائحة الرّيحان أخّاذة! أتساءل لربّما يستخلصون بعض العطور من عبق تلك النباتات العطريّة، ما رأيك؟ »
انحنيت بجانبه وأجبته : « ربما؟ لمَ لا؟! »
زفر زفرةً من أعماقه وهو يقول : « سبحان الله!»
ثم أردف بينما يداعب أوراق شجرة اللّيمون بخفّة :
« وكذلك اللّيمون له رائحةٌ نفّاذة، أتوق لقطف ثمره حين تكبر الشجرة! »
« صحيح، يتملّكني الحماس لذلك! »
« براء، عدني ألّا تُهمل صحّتك»
انفلتت ضحكةٌ قصيرةٌ من بين شفتيه بينما يردف :
« عُميْر! لا تقلق! أتناول الدواء صدقًا! »
« فقط عدني »
تنهّد وأرسل زفيره لتلك الشجيرات فتمايلت بفعل هبوب الرّيح، ثم قال : « أعدك »
نهض من مجلسه وتطلّع في ساعته ثم قال مسرعًا :
« اقترب العصر، هلمَّ لنصلّ في المسجد »
اعتدلت واقفًا ونفضتُ ذرّات التراب من بين يديّ ثم جاورته في الخُطى قائلا : « هيا »
انتهينا من صلاة للعصر، جاورت براء في مجلسه بينما أحمل بين يديّ مصحفًا أخذت أناملي تتنقّل بين صفحاته ثم رميته بنظرةٍ متفاخرة بينما أتلاعب بحاجبيّ قائلًا :
« أين وصلت؟ لقد وصلتُ في الحفظ لسورةِ النّبأ، سأختتم حفظها اليوم! أراهن أنّي قد سبقتك! »
حانت منه التفاتةٌ إليّ بينما تجلّت كلّ معالم التعجّب على أرض وجهه ثم عقّب : « تبارك الله! أحيّي همّتك وعزيمتك! ...لكن.....لا، لمْ تسبقني! أنا في سورة الملك! »
خبا بريق ملامحي المتّقدة بشعلة الحماس وعدت أطيل النّظر بمصحفي وأجبته : « سأسبقك لا تقلق، المسألة مسألة وقت لا أكثر »
« سنرى! »
بعد أن أمضيت نصف ساعةٍ مع براء نتذاكر ونتدارس بضع آيات من القرآن أوصلني لمنزلي وقاد سيارته عائدًا هو الآخر إلى مسكنه ليتجهّز للذهاب لعمله، وقبل أن ألِج من باب منزلي وقفت لبرهةٍ من الزمان أدّكِرُ ما حدث في الحديقة اليوم، وأخذت أنامل الشياطين تنسج في عقلي مخاوفًا ووساوس واهيةً تلاعبت بمشاعري وأرّقت تفكيري، ولم تقصّر ذاكرتي حيث صارت تُعيد عرض مشهد براء وهو يسعل والدماء الدّبقة القاتمة تثعب من فمه بلا توقّف، فحالت تلك الذكري بيني وبين النوم وحين قدّ اللّيل ثياب الصّبح وأوَت الشمس لمهجعها طويت تلك المخاوف وأفرغتها في سجدتين هدأ بهما فؤادي وخفتَ صوت مخاوفي وأويتُ لفراشي مرتاح البال مطمئنًّا.
___________________
حين أبلج الفجر وتوهّج البرتقاليّ في الأفق، نهضتُ وأسبغتُ الوضوء ثم خرجتُ حاملًا سجّادتي ذات الزرقة المبهجة وخطوت سيرًا على قدميّ للمسجد الذي يبعد مسافةً هيّنةً عن منزلي، صليّتُ الفجر هناك وأمّنا الشيخ خبّاب، حينما انتهيت من صلاتي لاحظتُ غياب براء، كنتُ متوقّعًا أن أراه، ولكنّه لم يأتِ، رجوت الله أن يكون بخير، سألني الشيخُ خبّابُ عنه فأخبرته أنّه متعبٌ قليلا، فلربّما لهذا لم يستطع المجيء للصلاة معنا فجر اليوم، ثمّ جلستُ أذكر الله قليلاً لنصف ساعةٍ تقريبًا حتى سمعتُ صوت نغمةٍ قصيرة تصدر من هاتفي لثانيةٍ فانتشلتُه من جيب بنطالي وفتحتُه وإذا بها رسالةٌ قد وصلتني من براء.
【 السلام عليكم، كيف الحال؟ أصلّيت الفجر؟ 】
فضغطت أناملي على الشاشة سريعًا بالتزامن مع تلك البسمة التي انعكس رسمها على الشاشة بينما أخطُّ بالحروف له جوابًا
【وعليكم السلام، بخير ولله الحمد، ماذا عنك؟ كيف هي صحّتك الآن؟ أفضل؟ نعم صليتُ الفجر، لم لم تأتي؟ قلقت عليك 】
【 دام حمدك، نعم، أشعر بالتحسن الآن، قد غلبني النوم للأسف، استيقظتُ منذ ربع ساعةٍ، انتهيتُ من صلاة الفجر منذ دقائق 】
فأجبته بكلماتي بينما خطّت كلماته الاطمئنان في قلبي
【 الحمدلله، لهذا إذًا لم تأتِ! لكن لمَ لا تذهب للمشفى كي تطمئنّ على صحّتك أكثر؟ 】
【 إن شاء الله خيرٌ، لا تشغل بالك، دعك من هذا الآن، بمناسبة ختمك للجزء الثلاثين من القرآن، لديّ مفاجأةٌ ستعجبك لا ريب! كلّما كان أبكر كان الأمر أكثر متعة؛ لذا تجهّز سريعًا، سآتيك خلال نصف ساعة 】
【 لكن...هذا ليس وقته حقا، تحتاج للراحة لا لإجهاد نفسك فيما لا يستحقّ!】
【 أشعر أنّي أستطيع تسلّق أعلى جبلٍ في العالم! أنا بخير صدّقني، هيا ! لا تضيّع الوقت ! لا مجال للرّفض! 】
ثم أصبح غيرَ متوفّرٍ، تبسّمت لا إراديًّا، لقد أغلق الإنترنت؛ كيلا أتمكّن من الرفض، ذكيّ!
نهضتُ وطويت السجادة ثم ودّعت شيخي وعدتُ بخطاي للمنزل ثم انتقيت قميصًا فيروزيًّا ذا أكمامٍ قصيرة وبنطالًا بلون رمال الصحراء، مشّطتُ شعري ذا الأمواج العاتية وخلتُ أنّي أصارع أمواجًا عنيدة في شعري كثيرَ التموّج ثم تعطّرتُ حتى دخل العطر ذو المذاق المرّ في فمي، فصرتُ أسعل وأخرج لساني للهواء علّ طعمه يذهب.
نزلتُ على الدرج للأسفل وولجتُ للمطبخ واتّجهتُ حيث كانت الثلاجة تقف بشموخ ففتحتها واستخرجت من أعماقها شطيرتيْ جبنٍ أزلت عنهما البرودة وأدفأتُ أعماقهما بوضعهما في جهاز الميكرويف.
جلستُ أتناولهما بعد برهةٍ على طاولتي الزرقاء المفضّلة في الصالة بعد أن ذاب الجبن وامتزج مع الخبز في منظرٍ مشهٍّ وملأت رائحةُ الشطائر ذات حشوة الجبن المكان، وداعبت أنفي حتى رغبت بالتهامها دفعةً واحدةً! آهٍ كم أعشق الجبن! لو قيل لي أن أعيش أبد الدهر لا آكل سواه لفعلتُ بكلّ سرور.
ضربت عُرض جبهتي بكفّي بينما ألوك لقمةً من الشطيرة ثم تمتمت بينما أقلّب اللّقمة بلساني في فمي لشدّة حرارتها.
« يا لغبائي! كان عليّ أن آكل قبل أن أرتدي وأتعطّر ! رائع! لابدّ أنّ ملابسي تعطّرت بالجبن! »
خرجتُ من منزلي وقد كانت الشمس تسدل إزارها ذا لون الذهب بحياء على الأفق بينما تزدجرُ قطعُ اللّيل بخفوت وتفسح المجال للملكة القرصيّة ذات لون الرملِ الملتهب لتحتلّ صفحة السماء. في حين كانت غمائم السّحب تغير على شمسها فتسترها بما تستطيع من بياضها الخفيف إلّا أن شعاع شمسها يتجلّى بوضوح من بين ثنايا السحب الثلجيّة لتنير أرجاء الكون بذاك النور الساطع.
وانتظرتُ لبضع ثويناتٍ قلائل حتى وجدت سيّارته تأخذ مكانًا لها أمام منزلي.
« كيف الأحوال؟ »
قلت بينما أركب في السيّارة ثم صافحته فأجابني بينما يضغط الفرامل
« وعليكم السلام »
التفتُّ له بابتسامةٍ صادقة معقّبًا على كلامه : « السلام عليكم، كيف الحال؟ »
تبسّم بينما يصوّب نظره على الطريق .
« الحمدلله »
جذبت انتباهي نبرة صوته الخفيضة والتي بدت لي مرهقةً بعض الشيء، كما كان وجهه واهنًا تفشّى التعب في أرجائه، بينما اصطفّت تلك الهالات السوداء أسفل عينيه ولم تترك مكانًا يخلو منها. وبدا لي في أشدّ تعبه وكان واضحًا أنّه يشكو من شيءٍ ما، لكن لم أرد أن أقلقه وأُأرّق يومه فتجاهلت ذلك؛ كي نستمتع بيومنا.
أرجعت بصري للطريق وصرت أحدّق في الشجر على جوانب الطريق الذي كان يبدو كما لو أنّه يسير بمحاذاتنا. رفعتُ كفّي أربّت على صدري وقد داخلني شعورٌ سيءٌ يومض في أعماقي ينبؤني بأنّي قد أندم على تجاهلي ذاك.
تلاشت الهواجس والوساوس من عقلي وطارت في الفضاء فور أن تسلّل سؤاله لمسمعي.
« ستتعرّف اليوم على صديقٍ جديد! »
افترّت شفتاي عن بسمةٍ ضعيفة أجبتُ بعدها :
« ويالسعدي بمن ألقى من أصدقائك! »
« هو شابٌّ يعمل معي في ذات المستشفى، يكبرني بعامين »
« ينتابني الشوق للُقياه! »
« إن شاء الله »
ترجّلنا من السيارة فور وصولنا للوجهة، وفور وقوع بصري عليها تبسّمت والتفتُّ لبراء قائلا : « كم ذوقك رائع! »
كان المكان عبارةً عن إحدى المزارع التي احتلّت من المسافة الكثير وتألق اخضرارها حتى بدا لكأنّه ينافس ضياء الشمس في شدة وهجه. كانت شتلات الأرزّ تتمايل على وقع هبوب النسيم وتنساب أشعة الشمس من بين ثناياها فتمدّها بالدفء وتكسبها تألقا فريدًا يرسم الصورة النموذجيّة لمزارع الأرزّ الأصيلة. كان المنظر خلّابًا يأسر القلوب خصوصًا بمنظر الخضرة الممتدّ على مدى الأفق بينما تتوزّع في السماء قطعٌ من السحب البيضاء تنافس الشمس في تألقها.
« اتبعني حيث أسير؛ حتى لا تدهس بقدمك على الشتلات »
حادثني براء في حين اتخذ خُطاه مندسّا بين الزّرع فكأنّه قد اندمج معها، ولم يميّزهُ سوى ذاك القميص الأبيض الذي كان يرتديه. تبعته بخطًى بطيئة متمهّلة، بينما يغرز حذائي في الطين الرطب مصدرًا صوت امتزاج الطين الدّبق بالمياه بينما انتشرت رائحة الوحل المندّى في المكان، لاحظت أنّ براء كان يسير بثقة، كان يبدو معتادًا على ذاك الطريق، كان يسير بين الفراغات التي تفصل المربّعات المزروعة بالزروع.
كنتُ مندمجًا بالتحديق في جمال المزرعة حدّ أنّي لم ألحظ توقف براء؛ فاصطدمت بظهره.
« سنجلس هنا »
قال براء بينما أخذ يفرش بساطًا أخضرًا كان يحمله وبسطه على منطقةٍ صغيرة مربّعة خلت من الزرع وتموقعت تمامًا وسطت تلك المروج الخضراء التي تبهج النفس.
جلستُ واتخذ براء مجلسًا بجانبي وناولني كتابًا كان يحمله بين يديه ثم حادثني : « لا شيء أجمل من القراءة بين حقول الأرز! جرّب ولن تندم! انتقيت لك هذا الكتاب، سيروق لك إن شاء الله »
ألقيتُ نظرةً خاطفةً عليه فإذا به قد عُنوِن بخطٍّ كبير جذبني رسمُه.
{ عوالمٌ في أعماقنا }
كان الغلاف جذّابًا ذا طابعٍ دمويٍّ قليلًا وقد رُسم على واجهة الغلاف قلبٌ توهّجت في أعماقه نجومٌ وكواكب عدّة تدور حوله بينما برزت شرايين القلب بشكلٍ ملفت دعاني لفتح الكتاب.
« أرى أنّه قد جذب انتباهك..»
« نعم، كثيرًا، سأستمتع به »
« قراءةٌ ماتعة »
نهض براء وأخبرني أنّه سيعود بعد دقائق وأخذ يسير بين الزرع حتى تلاشى وعدت لقراءة أوّل حروف من ذلك الكتاب الجذّاب.
مرّت دقائقٌ وأنا مندمجٌ في التهام حروف الكتاب وقد بدأ موضوعه يتضح لي رويدًا رويدًا.
فقد كان يتحدّث عن العوالم المعقّدة والمُعجزة التي تقبع في أجسادنا وكم كان الأسلوب في عرض الفكرة مذهلًا!
داعب مسمعي صوت حديثٍ آتٍ من بعيد وسرعان ما صار يعلو ويقترب؛ فرفعتُ رأسي فإذا هو براء يرافقه شابٌّ طويلُ القامة ذا بشرةً قمحيّةٍ وحاجبان كثّان بملامح بدت صارمةً بعض الشيء، زيّنت ذقنه لحيةٌ خفيفة مهذّبة وشعرٍ بلون البُنِّ اقتربا منّي ثم صاح ذاك الشاب : « أخيرًا التقيتُك يا عُميْر! »
اعتدلتُ واقفًا واتجهتُ له متعجّبًا فصافحني بحرارة فحادثته متبسّمًا : « يا أهلًا بك تشرّفتُ »
فانبثقت بسمةٌ صادقة على ثغره وهو يجيبني :
« الشرف لي يا عُميْر، حادثني براء كثيرًا عنك، أنا
ضياء »
« ضياء شرفٌ لي أن ألقاك حقّا »
« تفضّل، تفضّل لدينا جلسةٌ طويلة »
جلسنا سويّةً نحن الثلاثة وعلمتُ فيما بعد أنّ المزرعة هي ملكٌ لعائلة ضياء، أخذ ضياء يصبُّ لنا الشاي الذي قد أعدّه في منزله الذي جاور المزرعة.
ناولني كوب الشاي والذي تألقت على سطحه وريقات النعناع ذات العبق المميّز.
« تفضّل يا عميْر، تذوّق وادعُ لي! »
ضحكتُ وأنا أتناول منه الكوب في حين عقّب براء وهو يرتشف من كوبه : « نعم يا عميْر، ضياء ملك الشاي، هو يعيش على الشاي حرفيٍّا! »
« وأنت تعيش على الكتب! »
أجاب ضياء بينما يشرب الشاي بكلّ هدوء واسترخاء.
« ألا تحبّ القراءة يا ضياء؟! »
« لا، ليس كثيرًا، أقرأ لكنّها ليست من هواياتي »
قدّم لنا بعد ذلك طبقًا يحوي قطعًا من بسكويت الشاي، فكنّا نشرب الشاي ونتناول البسكويت بينما نتبادل أطراف الحديث. وكم كانت أجواءً رائعة!
كانت نسائم الرّيح تهبّ فتلفح وجوهنا وتتلاعب بخصل شعورنا، لم نكن نسمع سوى حفيف الزرع ونقيق الضفادع بالإضافة لصوت مرّشات الماء التي كان صوتها ينعشني وتشعرني كأنّي أسبح في عُرض البحر.
بعد مدّة من الزمن تمدّدنا على البساط وأخذنا نحدّق في السحب بينما تدافعها الرياح.
« أوتدري يا عُميْر؟! هذا هو مكاني المفضّل الذي دومًا ما أتردّد عليه إذا وددت الاسترخاء والانفصال عن العالم الخارجيّ قليلًا، كنتُ دومًا ما أزعج ضياء بقدومي »
اختتم براء كلِمه بينما التفت لضياء متبسّمًا.
« لم تكن تزعجني البتّة كنا نستذكر كتب الطب هنا سويّة، بعشرات الأكواب من الشاي، ذكرياتٌ لن تنسى! »
« مكانٌ جميل حقًّا! يبدو أنّك تعرف براء من زمن يا ضياء أوليس كذلك؟ »
تساءلتُ بينما أحدّق في أديم السماء.
« نعم، نعرف بعضنا مُذ كنّا طلّابا في الجامعة »
مرّ الوقتُ بينما كان براء يقرأ كتابًا بين يديه ويقلّب صفحاته بهدوء شديد، وكنتُ أفعلُ المثلَ، كان ضياء يقرأ القرآن. شعرتُ أنّ هذه اللحظات اصطفّت مع قريناتها من الذكريات التي لا تنفكّ تفارق فؤادي. وكم كانت لحظاتٍ مبهجةٍ قبل أن ألاحظ أنّ براء قد تركت أنامله الكتاب وصار يقبض على صدره وبدا عليه أنّه يعاني في التنفس.
« براء! هل أنت بخير؟ »
صحتُ بقلق فانتبه ضياء وجاور براء بينما يحاول سؤاله عمّا يشكو، لم يستطع براء أن يجيب وظلّت ملامحه تنكمش بتوجّع بينما يقبض على صدره وكان صوت لهاثه يعلو تدريجيًّا.
« لا...أستطي..أستطيع...أن..آخذ نفسي »
أجاب براء قلقنا بكلمات لم تفعل شيئًا سوى أنّها زادت من خوفنا وحاول ضياء إعطاءه إرشاداتٍ بأن يستلقي ويحاول الإسترخاء.
فحاول براء فعل ذلك إلّا أنّ جسده انتفض بذاك السّعال الذي لشدّته شعرت أنّ حنجرته ستتمزّق لقوّته. صدح صدى صوت سعاله في المكان، وماعدتُ أسمع خفيف الشجر، ولا مرشّات المياه.
وصار صوت سعاله يترددّ في مسمعي مرارًا وتكرارًا. ناوله ضياء منديلين بينما أخذت أربّت على كتفه هامسًا له أن اهدأ واسترخي ولكنّ السعال أبى أن يقف.
وعادت الدماء تثعب من فمه ولطّخت قميصه الثّلجي، ولكن هذه المرّة كان النزيف بشكلٍ أكبر ولم تسعهُ المناديل، فانتفض ضياء راكضًا وهو يصيح بي :
« سأطلب الإسعاف! حاول
تهدأته »
أحضرت قنينة مياه وأخذت أصبّ على كفّي براء الداميتين وفؤادي يكاد يخرج من بين أضلعي قلقًا.
« اهدأ يا براء، سيكون كلّ شيء بخير »
لم يبدُ أن براء يسمعني، كان يسعل بشكلٍ فظيع حتى شعرتُ أن قواه قد خارت وكان شبه واعٍ حين ارتمى جسده على الأرض بينما يسعل بتقطّعٍ.
« براء، أفق! براء! »
« لا....تقلق، لا...تقلق...أنا..بخ..بخير »
كانت عيناه شبه مفتوحتين والعرق يغرقُ وجهه بينما يتدفّق الأحمرُ القاني من بين شفتيه، وانعقد حاجباه لشدّة ما يعتريه من ألم، رفع كفّه وأخذ يقبض على صدره بألمٍ تفشّى على مُحيّاه.
حينها عاد ضياء وتصلّب في موضعه لمّا رأى براء متمدّدًا بتلك الحالة فصاح بنبرةٍ متهدّجةٍ : « الإسعاف في الطريق ! براء ! أرجوك لقد تحمّلت الكثير! لا يمكنك أن تستمرّ في مداراتك ! »
التفتّ لضياء وتمتمتُ بتساؤل : « مداراة؟ ماذا تعني؟ »
وحينها انغلقت جفون براء برويّةٍ وغاب وعيه، ناديته مئات المرّات بصوتٍ هشّمه الخوف حتى بُحّ صوتي ولكنّه....
لم.....
يُجِب....
ندائي....
يتبع....
كيف كان الفصل؟ 💔
توقعاتكم؟ 🤍
وإلى لقائنا القادم دمتم في أمان الله 🤍
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top