الفصل السابع والعشرون : عهدٌ لن ينقطع
قبل القراءة لا تنسوا الدعاء لإخواننا في غـ8ـزة الحبيبة🤍🇵🇸
______________
دومًا ما كنتُ أسمع آلاف الحكم والمقولات التي تقول بأنّ الوقت يجري ويتسابق معنا حتى لكأنّه يكاد يسبق وميض البرق في أُدُم السماء، ولكنّي...لم أعي تلك المقولات سوى الآن!
كلّ شيءٍ حدث سريعًا حدّ أنّي لم أكد أفقه كُنهَ ما يحدث!
« عُميْر، براء...مصابٌ...بمرضِ السلّ الرئوي النّشِط »
تعابير وجهه وهو يفهُ ذاك الكلام لن تُمحَ من ذاكرتي ما حييت، كانت عيناه تكتنزُ دموعًا عجز هو أن يواريها، وجهه الذي كان باسمًا آنفًا تبدّل واستحال لصفرةٍ شديدة بغتةً. وبدا وجهه كلوحةٍ رسم فنّانٌ على سطحها جراحًا دامية بشتّى ألوان الألم والوجع.
وأنا لم أفهم ما يعنيه بقوله ذاك فكرّرتُ سؤالي الذي أظنّ أنّ ضياء قد حفظه عن ظهر قلب لكثرةِ ما أسمعته إيّاه : « هل براء بخير؟! لن يمكث في المستشفى...أوليس كذلك...يا ضياء؟! »
تفتّقت معالم وجهه الشّجيّة عن بسمةٍ متهالكةِ الهيئة وربّت بكفّه على عضدي يشدّ عليه بينما يحادثني : « كن قويًّا يا عُميْر، براء كان يبذل جهده -منذ علم بمرضه- على إخفاء الأمر عنك؛ كي لا يقلقك، لكنّه سيكون...بخير... إن شاء الله »
لم أحِرْ لقوله جوابًا وتاهت نظراتي في الفضاء بينما أتذكّر كم من مرّةٍ سعُل أمامي، وأنا لمْ أُعر لذلك اهتمامًا، كنتُ أحسبه سعالًا عارضًا نتج عن نزلة بردٍ أو ما شابه وسيزول بعد مدّة، لكن...
لكنّه كان يخفي الأمر عنّي...
لمَ؟
لمَ يا براء؟
أقلقي أهمّ من صحّتك؟!
أقلقي يدعوك لإهمال صحّتك؟!
« لا تحزن، هو بخيرٍ إن شاء الله، يمكنُك زيارتُه بعد أن يفيق، سيسعد بذلك.. لا ريب »
تهدّجت نبرة صوته وبدا دمعه جليّا يتلألأُ في مآقيه.
« جزاكَ الله خيرًا..يا ضياء »
تمتمتُ بصوتٍ خلتُه لم يجاوز شفتاي بينما أجرُّ خطاي نحو إحدى كراسي الانتظار؛ كي أنتظر إفاقة صاحبي.
جلستُ وامتعضت ملامحي جرّاء اختراق روائح المعقّمات والمنظّفات لأنفي؛ تلك الروائح ليس لها أيُّ ذكرى طيّبةٍ في عقلي.
أحنيتُ جذعي واستندتُ بمرفقيّ على ركبتيّ بينما أخلّل أصابعي بين خصل شعري المبعثرة متنهّدًا أستجلب الهواء لرئتيّ بصعوبة ويكأنّ الكون كلّه قد ضاق بغيابه...
سمعتُ أزيزًا خافتًا للكرسيّ بجانبي، فعلمتُ أنّ أحدهم قد جلس بجواري.
« لا تخفْ يا عُميْر، اهدأ »
همس ضياءُ في أذني بينما يربّت على ظهري المحنيّ.
عضضتُ على شفتي بقوّة؛ في محاولةٍ منّي لأتماسك، في محاولةٍ منّي ألّا أجهش بالبكاء، في محاولةٍ منّي أن أبقى قويًّا كما كان يوصيني براء دومًا.
تكاثفت الدّموع في عيناي وتزاحمت لتروي بلاط المشفى، وتقاطرت مياه عيناي قطرةً تلو الأخرى على الأرض في صمتٍ مهيب لم يعتده سمعي. كان قلبي يضجّ بالآلام، كان ينزف ويأنّ لتألّمِ رفيقه.
كلّما تذكّرتُ منظر براء وهو ينزف من فمه متوجّعًا كان نياط قلبي يتمزّق وأتجرّع الآلام من كوبٍ ملأته دمائي النازفة من جرحي العميق.
« تذكّر عليك أن ترضى وأن تنهض سريعًا وتُبحر بعيدًا عن بحر الأحزان الذي قد يُغرقك يا صديقي، اصبر فكلُّ مرٍّ سيمُرّ يا مينا »
قولُه لي ذات مرّة عاد صداهُ يطرق عقلي دون مقدّمات، فازداد دمعي غزارةً وأنا أحاول كفكفتَه بذراعي بقسوة بينما أتمتم : « لن أبكي! سيكون براء بخير إن شاء الله! سيكون بخير! »
« أجل يا عُميْر، سيكون...صديقنا...بخيرٍ بإذن الله »
« ياربّ! »
مرّ الوقت ثقيلًا كلٍّا على قلبي، كلّما طال انتظاري كان خوفي يعلو ويعلو حتى غطّى خفقان قلبي على سمعي وما عدت قادرا على سماع شيءٍ سواه.
بعد بضع سويعاتٍ تآكل فيها فؤادي دخل ضياء ليطمئنّ عليه بينما ظللتُ واقفًا أستقي الصبرَ من ذكر اللهِ تعالى.
خرج ضياء وأزال الكمامة عن وجهه وقد تألّقت بسمةٌ خافتة الوهج على ثغره كضياء شمسٍ خبا وهجها إثر قربها من الغروب؛ فاستبشرتُ بوجهه خيرًا وذرعتُ الأرض بخطًى سريعةٍ وساءلتُه عن حال براء فأجابني بذات الابتسامة- التي لم يزل أثرها عن محيّاه - وبأعينٍ طافت بها أبحر الدمع فصارت تصطخـب وتتلاطم كي تفيض، ولكنّ ضياء أبى! أبى فيضانها وأخبرني أنّ براء بخير حال.
هممتُ بالدخول لغرفته ذات الباب الحديديّ البارد ولكنّه استوقفني.
« مهلًا، لا يمكنك الدخول هكذا، تمهّل قليلا »
فتحتُ الباب وولجتُ للداخل بعد أن ارتديت كمامة للوجه وقفازاتٍ بلاستيكيّة ورداء بلاستيكيّا عازلا.
ولجتُ للداخل وفور ما حطّت عيناه عليّ تبسّم...
ترقرق الدمع في مآقيّ بُعيْد رؤيتي له. كان وهِنًا تحيط به الأجهزة من كلّ جانب حتى تكاد تلجمه، خصلات شعره البندقيّ التصقت بجبهته لكثرة تعرّق وجهه. بينما وصّلت بكفه محاليلٌ شتى علّقت بجواره.
جلستُ على كرسيٍّ مجاورٍ لسريره وحاولت التحدّث دون أن ينساب دمعي على وجهي.
« ب..براء، سلامتك من كلّ شرٍّ »
لم يستطع أن يجيبني، كان مرهقًا حدّ أن عجز عن الكلام.
« سأرافقك إلى أن تشفى، لن أبرح مكاني هذا حتى يمنّ الله عليك بالشفاء! »
رفع ذراعه الراجفة وبسط كفّه أمامي، ففهمتُ ما يرمي إليه وهرعتُ بكفّي أقبض على كفّه وأشدّ عليها قائلًا بنبرةٍ غلب الحزن عليها : « نعم، سأبقى قويًّا، وستشفى سريعًا، لكن يا براء ما كان عليك أن تخفي الأمر عنّي، أولسنا أصدقاء؟ »
ابتسم مجدّدًا وتحدّث بصوتٍ أقرب للهمس
« بـــلـى! لا...تحزن، الحمد....لله أنا...بخير...»
وكم أسعدني سماع صوته مجدّدا!
ارتوى سمعي بهمسه وشعرت أن أبحر الخوف التي كان فؤادي يموج في عُرضها قد هدأ اضطرابها ونامت فور تسلّل همس براء لأذنيّ.
« الحمدلله، نعم ستكون بخير إن شاء الله »
أسدلت جفونه أستارها على عينيه ذات لون اللـيل المظلم، وكم وددت أن يفتحهما دومًا.
لا تغلق عينيك يا براء...
إنّي أستأنس بنورها...
نهضتُ وخرجتُ من غرفته وأعلمتُ ضياء أنّي أودّ مرافقته حتى يُشفى، فأباح لي ذلك ببضعة شروطٍ توجّب عليّ مراعاتها فترة مرافقتي له، مكثت في سريرٍ مجاورٍ لسريره؛ علّي أؤنسه وأذهب وحشته ولكنّي في الحقيقة كنتُ أذيب الوحشة التي تتملّك روحي وتستقي من حزنها.
كنت أراقب ضياء وهو يقوم بتقديم الرّعاية الطبية له من حينٍ لآخر ويذرف دمعه بصمتٍ بالغ، لم يكن براء واعيًا معظم الأوقات.
كنتُ أفرش سجادتي ذات لون السما، التي أهدانيها وأصلّي عليها مفرغًا ما احتوت عيناي من دمعٍ علّ الله يجيب دعواي ويشفي صاحبي.
« براء، عليك أن تأكل؛ كي تشفى سريعًا، ألا تودّ أن نعود لحديقتنا سويّةً لنتسامر تحت أظلال الشجر؟! »
ساءلتُه في حين أُلحّ عليه بأن يضع في فاهه لقيمةً واحدة، واحدةً فقط حتى يزول الوصب الذي أصاب جسده ولكنّه في كلّ مرّة كان يجيبني بذات البسمة الفاترة التي أنهكها المرض وأخذ من ضيائها الكثير :
« كلْ أنت يا عُميْر، سأتعشّى معك حين يحلّ الظلام، لا شهيّة عندي الآن »
وحين يحلّ اللّيل بظلامه تأخذه سنةٌ من النوم ولا يفيق سوى مع بزوغ الفجر.
ورغم ما أصابه فكنت لا أزال ألمحه يصلّي بما يستطيع وهو مستلقٍ.
مرّت أيّامٌ فأسابيع ولم يتحسّن حاله..
ظلّ ينزف دِماه القانية عبر ذاك الأنبوب الذي وصّل بفمه...
ظلّ ينزف..
وينزف...وينزف...
غدا هزيلًا قد أنهك المرض روحه وذابت نضارة وجهه وفقدت عيناه بريقها وماعدتُ أسمع له رِكزًا.
كان دومًا ما يلفُّني التعجّبُ عندما أرى أهل المريض أحيانًا حينما يرون تألّمه وعذابه في خوض معاركٍ مع المرض أحيانًا قد يتمّنون له الراحة الأبديّة، وكنتُ دومًا ما أتعجّب هل يمكن أن يبلغ بهم الألم لتلك الدرجة حتى يتمنّوا لمريضهم مفارقة الحياة؟!
والآن أعاين ذاك الشعور المؤلم، ولكنّي أتمنّى له الشفاء، أتمنّي أن يريحه الله بأن يشفيه ممّا أصابه، فرؤيته يعاني كلّ يومٍ وكلّ ليلة بتلك الحالة يؤلم صدري ويؤجّج النيران المتّقدة في أعماقي حزنًا وحسرةً على عجزي عن فعل شيءٍ يخفّف عنه.
أعجز حتى أن أسعده؛ حتى أنسيه همّ ما أصابه من وصبٍ.
حين طوى الغسق ظلّ النهار في إحدى الليالي الهادئة، كنتُ جالسًا جوار براء أمزّق ثياب الصمت القاتل ببضعٍ آياتٍ أتلوها على مسامع صاحبي علّه يستأنس بذلك ويطمئنّ. وعلى حين غفلةٍ سمعتُ أنينه يشقّ فضاء الغرفة ويصل لمسمعي. التفتُّ له بأعينٍ غدت مكظمومة بماء الأسى.
ربّتُّ على رأسه برفق أجفّف عرق وجهه بمنديلٍ قماشيٍّ ناعم، ثم أمسكت كفّه وضممتها إلى كفّي وأنا أحادثه بصوتٍ لم أستطع إبانة حروفه رغمًا عنّي : « اصبر يا براء، كن قويًّا، سيزول ألمك وستشفى بإذن الله فق_»
توقّفتُ عندما لمحتُ رجفان جفونه وهو يفتح عينيه برويّةٍ باحثًا عن مصدر الصوت، وما إن وقعت عيناه عليّ حتى تحدّث بصوتٍ خفيضٍ جدًّا يكاد يكون أخفض من صوت دبيب النمل على صخرةٍ ملساء.
« صوتك...جميل في الترتيل...»
تبسّمتُ رغمًا عن دموعي التي أغشت عيناي وأجبته والدمع يسقط من عينيّ : « ليس شيئًا بجانب صوتك الشجيّ، سيشفيك الله وستعود لتأمَّني وتصلّي بي بصوتك النديّ ثانيةً »
زفر زفرةً كادت تتكسّر لها ضلوعه وانكمشت ملامحه في توجّعٍ ما لبثت ملامحه أن انبسطت مجدّدًا ثم رفع ذراعه وأشار لي على ندبةٍ عريضة احتلّت مساحةً صغيرةً من يده.
« ألا تزال...تتذكّر....تلك النّدبة؟! »
سأل بصوتٍ هامس من بين لهاثه المتقطّع بينما يتبسّم.
شقّت ضحكتي عباب الصمت المتلفّع بثياب اللّيل بينما أجيبه وأنا أستحضر تلك الذكرى القديمة...
ذكرى أوّل لقاءٍ لنا...
« كان لقاءً أسطوريًّا بحقّ! »
أجبتُ بينما أحدّق في وجه براء الشارد في الأفق القصيّ.
« أحمد...الله... أنّا...التقينا »
« الحمدلله دائمًا وأبدًا »
التفت برأسه صوب نافذة الغرفة وأشار لي أن أزيل الستار عنها، ففعلتُ ولم يكن النهار قد أبلج بعدُ ولكن ضياء الفجر كان قد هبّ بنسائمه العذبة منبئًا باقترابه.
« سرْ على..الدّرب يا عميْر ولا..ولا..تلتفت للخلف »
حانت منّي التفاتةٌ سريعةٌ له فوجدته باسم الوجه منيرًا لكأنّ غمامة المرض القاتمة قد انقشعت بغتةً وأشرقت بسمته التي اعتدتُها.
أخذ يستجلب أنفاسه التائهة ويكأنّ الهواء يأبى الانصياع له وهو يعاود الحديث
« لا تنسَ عهدنا يا عُميْر، كي نلتقي مجدّدا في نهاية الدّرب المضيء »
هرعتُ له وقد خفق قلبي لقوله المخيف ذاك وارتجفت شفتاي وأنا أعاتبه بنبرةٍ واجفة : « براء! لا تقل ذلك، سنكمل الطريق سويّةً، أوليس كذلك؟! »
راحت صنوف الألم ترتسم على محيّاه ولا زال مبسمُه باسمًا وهو يجيبني بكلِمٍ لم أتبيّنه كلّه ولكنّي سمعت بعضه
« تحلّى...بالصبر وتجلّد به فما خاب من صبر يومًا...يا صاحبي »
« براء! ستشفى! ستشفى إن شاء الله ! سنقطف اللّيمون سويّةً، سنتسابق في الحفظ مجدّدًا ! سوف نقرأ تحت ظلال الشجر معًا ! سنلعب كرة القد..القدم..و_»
« لا تنسَ العهد! وإن تعثّرت يومًا فقم وانهض وأكمل ليتجدّد لُقاؤنا إن شاء..الله »
« براء...يستحيل أن أنسى...يستحيل! سأنادي ضياء إن كنت تتألّم »
تمتمتُ وأنا أكفكفُ دمعي المنسكب على وجنتيّ، هممتُ بالتحدث لولا أن وجدت كفّه يرتقي بصعوبةٍ عن السرير واهتزّت أسلاك المحاليل جرّاء حركة كفّه.
حينها بكيتُ ولم أتمالك أدمعي، وما استطعت إلجامها عن الهطول بغزارة علّها تروي روحي العطشة.
قبضتُ بكفّي على كفّه برفق وقد غشّت دموعي على مرآي فغدوت غير قادرٍ على الرؤية بشكلٍ جيّد. كان كفّه باردًا كالثلج حين يهطل في الشتاء، ازداد حزني حتى شعرت به وهو يقبض على كفّي كأنّه يشدّ أزري ويقوّيني.
« لن أنسَ....عهدنا يا براء، ولكنك...ستتحسّن بإذن الله، ستبرأ ممّا أصابك، ستبرأ....»
عاد يمزّق فؤادي بتبسّمه الهادئ المطمئنّ والذي أضاء له وجهه وهو يعارك الألم الدفين الذي يقتات على جسده.
« سأنادي ضياء، اهدأ، كلّ شيءٍ سيكون بخير »
وتركتُ كفّه ذات البرودة القاسية فارتمت على السرير في لحظةٍ وركضتُ ركضًا لآتي بضياء.
وحينما أتيتُ به كانت الغرفة تردّد أصداء الرّنين وتنعي ذكرياتٍ تلاشت وطارت بين شوقٍ وحنين، وحينما هبّ النسيم سألته أن أجبني..أن أجبني أوحقًا قد أفل نجمٌ كان يبرقُ في الصميم؟!
يتبع......
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top