الفصل السابع عشر : اسمي هو عُميْر!


لا تنسوا إخواننا في غ.. زة من دعائكم، اللهم نصرا قريبا عاجلا يارب، اللهم زلزل الأعداء وانتقم منهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم لنصر غز.. ة وسدد رميهم وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين ياررب

________________

آلام فظيعة باتت تنهش جسدي وتستقي من قوته، يزداد حالي سوءًا يومًا بعد يوم، صارت حالتي بائسة، احتلّت الكدمات جسدي ولم تترك بقعةً إلا ولوّنتها، أصبحت أتألّم كلّ ساعة وكلّ دقيقة، صار الألم مُلازمًا لجسدي حتى بتّ غير قادرٍ على الإحساس به، لم أعد أعي بالوقت، قد مرّ وقتٌ ليس بقصير منذُ حُبست هنا.

أسبوع؟!

أسبوعان؟!

ربما ثلاثة؟!

حقًّا لا أدري، تُرى أين أنت يا برائي؟! هل أنت بخير يا عزيزي؟! فقط أودّ الاطمئنان عليك، أودّ سماع صوتك، رؤية ابتسامتك الهادئة، عناقك الدافئ، كلماتك الجميلة التي دومًا ما تخبرني أن كلّ شيء سيكون على ما يُرام، آهٍ يا براء! هل أنت بخير؟!

عيناي باتت تؤلمانني حدّ ذرف الدموع، تورّمت وانتفخت جرّاء تعرّضها الدائم لذاك الضوء الساطع الذي يخترق أجفاني. وذاك الصداع المُبرح الذي لا يكفُّ عن طرق رأسي، لم يعد يتوقّف أبدًا. أولئك الأوغاد باتوا يُكثّفون التعذيب ويزيدون من حدّته، الطعام الذي يُقدّمونه لي أشعر أنّه صُنع خصّيصًا لتسميم بدني حتى أنّ جسدي عافه ولم أعد أقربُه. ممّا زاد من سوء حالتي بالطبع، احتلّ الوهن كياني وأرّق منامي، لكن.. الحمدلله، كلّما أتذكّر أنّ هذا ابتلاءٌ من ربّي ليبتليني يزداد صبري ويقيني به، الأمرُ بات صعبـا بحقّ، تلك العُزلة عن العالم، وتلك الوحدة، التعذيب المستمر، الطعام الرديء، تفنُّنهم في قتلي بالبطيء؛ لإجباري على الرجوع للمسيحيّة... الأمر أشبه بالّسجن. مؤخّرًا علمت أنّي محتجزٌ في مكان ما في الكنيسة؛ إذ أنّي أسمع صوت رنين ذاك الجرس المُزعج من حينٍ لآخر.

ألفيتُ الباب الموصد يُفتح على مصراعيه بقوّة وقد ولج منه آخر شخصٍ أردتُ رؤيته في حالتي هذه.

والدي!

كان مُتّجهًا بسرعةٍ إلى حيثُ كنتُ ممدّدًا على الأرض بوهنٍ أُصارع آلامي. وفوجئت بركلته التي سدّدها لرأسي بعنفٍ، رفعتُ ذراعي أُحيط رأسي بألمٍ وقد تفلّتت من بين شفتاي صرخةٌ مُتألّمةٌ.

« ألن ننتهي من هذه المهزلة؟! ألن تتوقف عن تفاهاتك يا مينا؟! أفق! أفق من الوهم الذي تعيشُ فيه! »

أخذتُ أنظر له بعينين ذابلتين وأنا أُتمتم له :« أيُّ مهزلةً يا والدي؟! الأمر مفروغٌ منه، لكم دينكم ولي دين! »

استشاط والدي غضبًا وشعرتُ بالغضب يُشعّ من عينيه وهو ينحني جاذبًا إيّاي من خُصلات شعري وهو يضرب رأسي بقوّةٍ بالجدار صائحًا بي :« اسمعني يا مينا ! لا يُهمّني أمرك بتاتًا ! إن لم ترجع للمسيحيّة سوف أقتلك ولن أبالي ! سأقتلك بيديّ هاتين ! ولن يرفّ لي جفن ! أتسمعني؟! أنت لست ولدي ولا أعرفك بعد الآن! »

لكم آلمتني كلمات والدي التي كانت كالخناجر التي اخترقت فؤادي وتركته نازفًا جريحًا يُصارع الموت وحده، إنّه أبي! كيف يقول ذلك الكلام؟! والدي الذي ربّاني! والدي الذي كان السّبب في وجودي في الحياة بعد الله، والدي! سندي في الحياة! حصني!

حاولت إبعاد يد والدي المؤلمة عنّ رأسي ولكنّي لم أستطع. شدّ والدي على قبضته وأخذ يضرب برأسي في الجدار بعنفٍ بالغ، تفشّى الألم في جبيني، وتعالى ضجيج رأسي كلّ مرّة كانت تهوي فيه رأسي مصطدمة بذاك الجدار، اهتزّت أحبالي الصوتية ورجرجت المكان بصرخاتٍ تعالت لتقتل صمت المكان المُطبِق، ولكن حتى صرخاتي هوت في الفراغ وابتلعها الصمت وغلّف جسدي زمهرير الصيف، زاغ بصري وتقاطر الدمّ من رأسي وقد أغشى رؤيتي، ارتخى جسدي وخلتُ أنّي قد حلّقت لعالمٍ آخر لا أعي فيه شيئًا، لم تكن قسوة الضربات أقسى على قلبي من كون صاحبها هو والدي! وشعرتُ بألمٍ ساحق يجتاح نابضي.

فجأةً أرخى قبضته عن رأسي وتفاجأتُ به يقبض بأصابعه على عُنقي بقوّة مُحاولًا قطع الهواء عن رئتاي، أبي يُحاول قتلي!

أخذتُ أقاومه باستماتة بما بقي فيّ من قوى، ولكن دون جدوى، احتبس الهواء عن رئتاي ولم أعد أسمع في أُذنيّ سوى دقّات قلبي المُضطربة التي بدت كالعدّ التنازلي لهلاكي، وألفيتني أحرّك جسدي بعشوائيّةٍ وسرعةٍ وأضرب بقدمي الأرض علّني أستطيعُ التملُّص منه، أحسستُ بضيقٍ في النفس، لم أعد أستطيع التّنفس، نظرتُ لوالدي ببصرٍ زائغ فرأيت دعجاويّتيه تُشعّ غضبًا وحقدًا من بين قطرات دمي المُتحدّرة على قسمات وجهي الواهن، ظلّ يضغط بقوّة على عنقي، تشوّشت الرؤية واندفعت الدماء لوجهي وتراخى جسدي شيئًا فشيئًا، فحرّكتُ شفتاي بالشهادة وقد أيقنت أنّي هالكٌ لا محالة. ولكن فجأة انكمشت ملامح والدي وابتدأت قبضته ترتخي عن عنقي حتى أفلتتها، وبتلقائيّةٍ شديدة شهقتُ ودخلتُ في نوبةٍ عارمةٍ من السعال في مُحاولةٍ لالتقاط أنفاسي وأنا أتحسّس عُنقي بتوجّع، كانت أنفاسي متباطئة وغير منتظمة وشعرتُ بالدوار يعصف برأسي، نظرتُ لوالدي بتيهٍ فوجدتُه يقبض على موضع صدره بألمٍ بادٍ على مُحيّاه، طالعته بهدوء ولازلتُ أشعرُ بدوارٍ عظيم، وفجأة انهار والدي فاقدًا لوعيه أمام عيناي.

لم أستطع تقبّل ما حدث، رفعت كفّي أتحسّس عنقي بغير تصديق!

لقد

كان

أبي...

يحاول...

قتلي...!!

رفعت يدي أقبض على رأسي بقوة، أحسست بالألم، بالضعف، بالوهن الذي ينخر أعماقي بقسوة، تملّكني الحزن وأخذت دموعي تتجمّع في مقلتاي رغبةً في التحرّر، لا بأس... هناك من ابتلوا بأعظم ممّا أنا فيه بكثير... هناك من يتألّم كلّ ثانيةٍ، هناك من لا يجد قوت يومه ويبيت ويصبح جائعًا، هناك من ابتلوا بأعظم من ذلك بكثير....

لا...

بأس...

براء....

لم تغب عن فؤادي لحظةً واحدة، أتُراك حيٌّ ترزق؟! أم تُراك قد غادرتني يا برائي؟! أرجوك يا براء... كُن بخير.... أتتألّم؟! أتشكو من شيء يا صاحبي؟! ألازالت ابتسامتك في محلّها وضّاءة متوهّجة؟! أم قد انطفأ سناها يا برائي؟!

حرّكتُ عيناي بتعبٍ ونظرتُ لوالدي الذي استكان جسده على الأرض، يالسخرية! رغم كل ما فعله بي... كنتُ قلقًا عليه! كنتُ خائفًا عليه!

« أ.. أبي! » خرجت تلك الكلمة الخائفة والقلقة عنوةً من فمي بينما أحاول النهوض والتحرك جهته، ولكنّ رؤيتي باتت ضبابيّة وتداخلت الألوان في عينيّ وغلبني الظلام فأحاطني وجرّني معه لعالمه المُخيف والموحش، وكم كنتُ ممتنًّا لذلك العالم! حيثُ أنساني واقعي المؤلم الذي كنتُ أعيشُه....

أصواتٌ عدّة شعرت بها، صياح، صراخ، أحدهم يصرخ باسم والدي، وقع أقدامٍ كثيرة، وذاك الألم الذي أخذ يطرق جسدي. وتلك الكلمة الخافتة التي تردّدت في أذني ولم أعلم لها مصدرًا.

« تخلّص منه! »

لا أعلم كم ظللتُ غريقًا في السواد ولكنّي استيقظتُ مُتألّمًا أرتجف من البرد، رغم أنّ فصل الشتاء قد انتهى، كنتُ أشعرُ بالبرد وفي ذات الوقت أحسستُ أن جسدي يشتعل من الداخل. حاولتُ فتح عيناي، ولكنّي لم أقوى حتى على رفع أجفاني، تداخلت في أذني عدّةُ أصوات أرّقت راحتي وأزعجتني، عاودتُ محاولة فتح عيناي ونجحتُ حينما تسلّل ذاك الضوء المزعج لبؤبؤي عيناي، أغمضتُ عيني ثانيةً وأخذتُ أرمش عدّة مرّات لأعتاد ذاك الضوء، لم أكن أرى شيئًا بوضوح، جلُّ ما استطعتُ رؤيته هو وهجُ أضواء متداخلة أخذت تتلألأُ فوق أهدابي. وفجأةً تراءى لي شخصٌ طويل بوجهٍ أنور ومضيء يقترب منّي بهدوء.

مهلا !

إنّه...!

« ب... براء؟! » نطق فاهي بصوتٍ بالكاد خرج، وهممتُ بالتحرّك والاقتراب منه لكنّي لم أستطع... كنتُ أشعر بالثقل والخدر يسريان في جسدي... لم أستطع... الاقتراب منه.... لكنّه فعل!

« براء؟! أهذا... أنت؟! أهذا... أنت... حقًّا؟! » تساءلتُ بينما ألتقط أنفاسي بصعوبة.

شعرتُ بكفّه المتين الدافئة تمسح على رأسي برفق وخلتُني سمعت صوته الهادئ يُحادثني :« عُميْري، قاوم يا صاحبي! قاوم! لا تستسلم! لا تستسلم! اصبر! اصبر وسيكشف الله غمّتك عن قريب.... لا تستسلم! قاوم يا أخي! قاوم! »

« ب.. براء! ا.. انتظر! انت.. انتظرني! لا.. تذهب أرجوك... لا... تتركني... » تمتمتُ بوهنٍ وأنا أطالعه وهو يسير مُبتعدًا عنّي تتلاشى صورته رويدًا رويدًا حتى اضمحلّت ولم أعد أرى غير الأضواء الساطعة التي عادت تؤلم عيناي مُجدّدًا. رفعتُ ذراعي أخبّئ به وجهي، وقد غدا عقلي مُضطربًا مُشوّشًا، ولم أفهم تمامًا ما حدث... أكان ما رأيته حقيقة؟! أم أنّي قد بدأت أُهلوس ؟!

لا تخف يا برائي، لن أستسلم! سأقاوم حتى آخر نفس أودعه الله في روحي، لن أستسلم مُطلقًا ! لكن انتظرني حتى أعود! لا تذهب وحدك يا براء! انتظرني...

« ربّاه! أعنّي! ونجّني من بين براثنهم »

ومُجدّدًا اخترق هدوء الغرفة صوت ارتطام الباب بالجدار بعنف، حينها استعدّيت للأسوء وأنا أسمع وقع الأقدام المسرعة التي تتّجه صوبي. وفي أقلّ من ثانية أحسستُ بجسدي يرتفع عن الأرض ويهوي بقوّة بالغة مُرتطمًا بالأرض الصلبة. فتحتُ عيناي أُطالع من كان أمامي بغضبٍ بالغ وقد تملّكني القهر لعجزي.

« لقد مات نسيم! مات! مات مقهورًا على ولده الضائع! لقد مات! لقد عطّلت قلبه عن العمل للأبد! بسببك! أتعلم بمَ أوصاني قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؟! لقد قال لي : « تخلّص منه! تخلّص منه يا مكاريوس! ذاك العار! ذاك الحقير! الناكر للجميل! لا تتركه يعش دقيقة
أخرى! » لقد سبّبت الألم لوالدك وقتلت قلبه المقهور عليك، لكن لا بأس، سأًنفذ وصية صديقي حتى يرقد بسلام في قبره »

لم أستطع سماع أي شيءٍ لكأنّي قد أُصبت بالصمم بعد سماعي لقوله.

« مات نسيم! »


أبي!..

مات؟!


هل يكذب؟!

لكنه...

كان بخير!

لقد توفي والدي.....

توقف قلبه عن العمل!...

لم أستطع....

إنقاذ والدي....وإرشاده للطريق

لم أستطع.. انتشاله.. من الضياع..

لقد غادر والدي للأبد.... ولن يعود

لقد كان هناك الكثير مما أودّ قوله لك يا أبي...

لم تسنح... لي الفرصة....

ذهبت قبل أن... أستطيع فعل شيء...

ذهبت للأبد... واأسفاه عليك يا أبتاه!

واأسفاه!

لم أستطع استيعاب ما قيل لي، أو بالأحرى لم أستطع تصديقه! لم أفكّر يومًا في ذاك اليوم الذي كان والدي سيغادرني فيه للأبد، لم أتوقّع أيضًا أن يعتمل صدري كلّ ذاك الحزن لموت والدي الذي طالما كانت علاقتي معه متوترة، لكنّه في الأخير... هو...يظلُّ والدي..

« عُد يا مينا! عُد لرشدك! لقد سلبك الإسلام كلَّ شيء! انظر كيف بات حالك الآن! مازال هناك وقت لترجع وتكفّر عن ذنوبك يا بنيّ »

رفعتُ أعيُني الدامعة لأنظر في وجه ذاك الوغد، أبصرتُ اسودادًا وظلمةً حالكة تعلو وجهه الكَدِر، مثل أولئك الأشخاص يستمرّون بإقناع أنفسهم بالوهم، يعيشون على وهمٍ كاذب وأمل زائف ويسيرون في طريقٍ بعيدٌ كلّ البعد عن الطريق الصحيح. وحينما تحين الساعة التي تنتهي فيها رحلتهم في الحياة... يعضّون أصابعهم ندمًا ويتمنّون لو يعودوا وتعطى لهم الفرصة ليرجعوا ولكن.. هيهات! هيهات!

كفكفتُ مدامعي وأنا أُجيبه بصوتٍ خفيض حادّ :« أنت مخطئ! لم يسلبني الإسلام شيئًا! لقد وهبني الإسلام كلّ شيء جميل، لقد وهبني الإسلام الراحة والسعادة والرضى والهناء، وبالنسبة لحالي.. فأنا في أتمّ الرضى والفخر بحالي، فلتُكفّر أنت عن ذنوبك، فكّر جيّدًا وعاود حساب حساباتك من جديد، وستجد لا محالة أنّك تسير في الطريق الخاطئ! »

« لم يُخطئ والدك حين أوصاني، فلتبتهج يا فتى ستلحق بأمّك! »

وللمرّة ثانية تُذكر أمّي على ألسنتهم

لم أستطع فهم ما يرمي إليه

لم أستطع فهم شيء

وفجأةً أخرج مكاريوس مُسدّسًا من حيث لا أدري وصوّبه تجاهي وهو يقول مُبتسمًا باتساع :« أيُّ قولٍ أخير يا مينا؟ لن نبقي عارًا كشخصك لفترةٍ طويلة عالة علينا ! »

ودون أن أشعر تحرّكت عضلات وجهي لتُشكّل أكثر ابتسامةٍ واثقة وفخورة تُزيّن ثغري وأنا أُجيبه بينما أعتدل مُستندًا على الحائط :« بالمناسبة.. اسمي هو عُميْر ! و أشهدُ ألّا إلــٰه إلّا الله وأنّ محمدًا رسولُ الله » قلتُ وأغمضتُ عيناي مُرهقًا.

« سُحقًا لك توقف! »

ذاك الصوت الغريب كان آخر ما سمعت قبل أن يُدوّي صوت إطلاق النار وقد استسلمتُ مُستعدًّا للنهاية...

وداعًا يا براء!


يتبع.....

إذا.... كيف كان؟ أعجبكم؟

مساحة لتخبروني بكل ما شعرتم به في هذا الفصل...

ما الذي تتوقعون قد يكون حدث؟

آرائكم؟

وإلى لقائنا القادم دمتم بخير 🪻🍃

اللهم انصر إخواننا في غ.. زة اللهم نصرا عزيزا قادما يارب ❤️ اللهم زلزل الأعداء ودمرهم وأأخذهم أخذ عزيز مقتدر.. يارب

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top