الفصل الرابع والعشرين : صديقٌ قديم
لا تنسوا الدعاء لإخواننا في غزة 🤍
لا تنسوهم 🤍
لطف الله بهم يارب
______________________
« إنّه عُميْر، هو.. في...حالةٍ حرجة »
انكمشت ملامحي وعضضت شفتي السفلي كابتًا حزني مجيبًا : « عميْر! لا حول ولا قوة إلْا بالله، شافاه الله وعافاه يارب، سأذهب معك يا براء، أودّ رؤيته والاطمئنان عليه »
هزّ رأسه نافيًا بينما يحادثني : « لا، تحتاج للراحة قليلا، مازلت مريضًا، سأطمئنُك عندما أصل إن شاء الله »
« لكن_»
« اسمعني يا عمير، عليك أن ترتاح، واعتني بحروقك جيدا حتى يذهب أثرها بقدر الإمكان، وحاول أن تدلّك ساقيك ببطء حتى تساهم في سرعة علاجها »
ألقيت بصري نحو الأرض بينما أخرج ما اعتمل في صدري من هواء بينما أجيبه : « إن شاء الله، لا تنسَ أن تطمئنني إذن »
« بإذن الله »
قال بينما يخطو نحو باب الخروج ثم ارتدى حذاءه قائلا : « السلام عليكم »
« في أمان الله »
أغلقت الباب فور أن تلاشت سيّارته من أمامي وران الصمت على المكان بعد ذلك، جلستُ على الأريكة وطالعت الساعة التي علّقت على الحائط فوجدت أنّها التاسعة ليلا، ربّاه! لقد مرّ الوقتُ سريعا.
حملت المصحف الذي أهدانيه براء وجلست أقلّب في صفحاته باستمتاع بالغ حتى وصلت لآواخر السور، وشرعت أحفظ ما تيسّر لي من قصار السور ريثما أنتظر اتصال براء.
بعد أن أسبل النوم إزاره على جفوني المرهقة أخذت أُأرجح رأسي يمنةً ويسرةً؛ علّني أطرد ذاك النوم الدخيل، الذي أتى في غير وقته. مدّدتُ ذراعاي في الهواء بينما استخلصت هواء الغرفة كلّه بتثاؤبي.
فجأةً طرقت أبوابَ عقلي فكرةٌ استحسنتها ونهضت من على الأريكة، وارتديت معطفًا ليمونيًّا خفيفًا بلا أكمام؛ فحينما يحلّ اللّيل تتفشّى في جوّه لسعةٌ خفيفةٌ من البرد تحزّ جسدي، فيكون اللّيل ذا جوّ باردٍ حتى في الصيف.
وقفت أمام المرآة التي علّقت على الباب أبصر انعكاس وجهي، وكم جرحًا رأيت فيه! وكم حزنًا أبصرت موؤودًا في قبوره! وكم خطًّا أسودًا تزاحم ليزيّن أسفل أجفاني! كلّما استرجعت ما حدث ينبض جرحٌ عميق في فؤادي وأشعر به يبثّ الألم ليسري في دمائي.
لا أودّ تذكّر تلك الذكرى!
كلّ شيء قد مضى وانتهى!
المهمّ أنّه انقضى، ورغم كلّ ذلك، كان وجهي يبدو مشرقًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كانت بشرتي ذات لون القمح قد زادت نضارتها رغم تلك الخطوط الغائرة التي اتخذت وجهي لها مسكنًا، يبدو أنّ آثار المعركة ستظلّ معي طوال عمري، لا ضيْر ! كلّ ندبةٍ منها تحمل بين جنباتها قصة مؤلمة ستكون لي وسام شرفٍ أفخر به مهما أحدثت فيّ من ألم.
قبل أن أخرج لمحت هاتف براء على المنضدة، لقد نسيه! كيف سيتصل عليّ إذن؟! حملته معي وكنت عازما على إيصاله له.
خرجتُ بعكّازٍ واحد حتى أمرّن قدمي على السير وحدها وتمتمت لها : « هيا، عليكِ أن تعتادي سريعا، كنتِ تسيرين وحدك قبلا »
ضحكت بينما دغدغت نسمات اللّيل الخفيفة خصل شعري الأدهم، فرفعت بصري للسماء فالتمعت نجوم الأديم في عيناي فكأنهما شابهتا سماء اللّيل بما انعكس عليهما من نجوم متوهّجة. وبعد هنيهةٍ تخلّت السحب عن كبريائها وأفسحت المجال للبدر المنير الذي أخذت خيوط سراجه تتخلّلُ السحب القاتمة بينما ينبثق من بينها القمرُ الوحيد.فكأنّما النجوم قد انطفأ سناها لشدّة التماع البدر بنوره الوضّاء الذي أنار شوارع المدينة.
لم يخرق هدوء ذلك الجوّ الجميل سوى نباحُ مجموعةٍ من الكلاب الضّالة التي ارتفع نباحها حتى صار يتردد في الأرجاء.
آهٍ كم أكره تلك الكلاب المزعجة التي تحوم في الشوارع ليل نهار!
كان الشارع أمام منزلي شبه خالي، بينما سيارتي ترتكن على إحدى جوانبه وقد عشعش في صميمها التراب حتى استحالت زرقتها للونٍ معكّرٍ كبركةٍ عفنة تطفو على سطحها الجيف!
عليّ أن أضع غسيلها وصيانتها ضمن جدول مهامّي، وإلّا فقدتها للأبد!
تحسّست أناملي موضع جيبي لأتأكّد أنّي لم أنسَ الهاتفين قبل أن أشرع في المسير بخطاي العرجة متحاملًا على ألم قدمي حتى أسرّع من شفائها، وبينا أنا أسير أخذت أدعو الله أن يشفي صديقي عُميْر الذي أسميتُ نفسي باسمه إعجابًا وفخرًا به، ربّاه! لابدّ أنّه يعاني!
كنتُ أنتوي المرور على العم ريمون رغم علمي بخطورة ذلك، لكن...لا أعتقد أنّ والدي أشاع الأمر، أم أنّه قد فعل؟!
لا يهمّ! لقد اشتقت له! أود الاستفسار عن أحواله، وربما أزاول العمل ثانية حين أُشفى؟!
و لم تكد قدماي تخطو بعض خطوات حتى انتبهتُ لإسمي الذي تردّد من خلفي فجأةً بصوتٍ جهور وقد استخرجني من عمق أفكاري.
حانت منّي التفاتةٌ لمصدر الصوت وإذ بي أرى شابًّا لم أتبيّن ملامحه من بعيد؛ لظلمة المكان، فساءلته بينما أقترب منه : « عذرًا؟ هل ناديتني أيّها الشاب؟ »
« مينا! إنّه أنت فعلا! أنت مينا نسيم! »
لم أكد أستوعب أو حتى أردّ حتى التهم ذاك الشاب المسافة التي تفصلنا بخطوتين حتى صار ماثلًا أمامي يحدّق في وجهي لكأنّي شبحٌ قد خرج من المقابر توًّا، وحينها أنار البدر المكان فأظهر شعره الأصهب وملامحه التي آلفها، تلك البشرة البيضاء التي تتوسطها ندفٌ برتقالية وزعت على وجنتيه مرورًا بأنفه، بينما التقت عيناه العميقتان ذات لون الكستناء بعينيّ، فأبصرتُ مياهها تموج في مقله.
« ألفريد! »
لم أكد أتمّ حروف اسمه حتى انقضّ عليّ يعانقني وهو يردّد بنبرةٍ متهدّجة : « مينا! لا أصدق أنّك نجوت! لقد نجوتَ! آسف! أنا حقًّا آسف! آسف يا مينا! لو اعتذرت لك طول الدهر فهل تقبل اعتذاراتي الواهية؟!»
ألجمني نحيبه العالي عن الحديث، فما وجدت ما أقوله له وأنا أنتظر تفسيرا لتلك الدموع التي سكبها فور رؤيتي بينما يردّد شتّى عبارات الأسف.
« ألفريد! ألفريد! هدّئ من روعك! لا شيء يسترعي البكاء! أنا بخير كما ترى، ثم توقف عن ترديد عبارات الأسف، علامَ تأسف؟ أنا من عليه أن يفكّر كيف يردّ جميلك، لقد أنقذت حياتي! وفديتني بنفسك! ألا تذكرُ ذلك؟! »
ابتعد عنّي وأخذ يحملق فيّ وسرعان ما غضّ طرفه وأخفضه ليجاور الأرض وهو يجيبني : « لا أستحقّ شكرك، لقد كان والدي السبب الأول في معاناتك هناك، سامحني، لم أكن أعلم بما يفعله والدي، لم أعلم ذاك الجانب الوحشيّ منه! لم أكتشف أمرك سوى صدفةً، وحينما علمت أنّه أنت تعجّبت وثرتُ وحاولت تحريرك ومساعدتك على الهرب لكنك كنتَ تهذي ولم تكن في وعيك الكامل، سألت والدي عنك، وعن سبب ما يفعله بك، وانفعلت في وجهه فأجابني أن هذا جزاءُ من يخالفنا ويفكّر في اعتزالنا وعلمت أنّك اعتنقت الإسلام، لكنّي لم أجد أيّ مبرر لفعل ذلك، وما الضير إن اعتنقت الإسلام؟فتأجّج غضبي ومن يومها عزمت على تحريرك بأيّ طريقة، حمدًا للربّ أنّي استطعت الوصول لك قبل أن يقتلك ذلك الحقير! مينا لا أعلم حقًّا لم كانوا يفعلون بك ذلك! أولئك الأنجاس كنت أودّ سحق جماجمهم لكن لم يسعفني الوقت! أنا __»
ارتفع حاجباي بدهشةٍ فقاطعته مسرعًا : « تريّث قليلا! أنا لست غاضبا منك! أخبرتك قبلًا أنّي كنت أرجو أن تكون حيًّا حتى أستطيع شكرك على صنيعك، ممتنٌّ لك ملئ السماء يا ألفريد، أشكرك على إنقاذك لحياتي، لا تهمّني التفاصيل، ولا أودّ أن أعود بالذكرى لتلك الأيام؛ فقد ولّت وأدبرت، ولا أبتغي أوبتها ثانيةً ولو بتخيّلها مجدّدًا »
بحلق فيّ بناظريه ثم عاود النظر في الأرض مجدّدا وهو يعقّب قولي : « مازلت أشعر بالأسف عليك، آسف لتلك الذكريات والجروح المؤلمة التي أحدثها أولئك الأوغاد فيك، كيف أسمّيه والدًا بعد ما رأيته يفعل؟! كيف؟ »
تسلّقت شفتاي ابتسامةٌ متهكّمة وأنا أجيبه بينما رميت بنظري في الأفق : « قد يطلق عليهم ذلك، وقد يوصفون بذلك في حياتهم، لكّنهم لا هم آباءُ ولا هم بشرٌ من الأساس، تأصّل الشرّ في أعماقهم حتى تلبّس بهم وصاروا شرورًا تسير على الأرض، يبتسمون، يضحكون، يأكلون، يستمتعون بظلم الناس، وبخس حقوقهم، والاقتيتات على ذلّهم، لكنّهم في النهاية غافلون أنّ للكون ربًّا سيجمعهم جميعًا ولن يذرَ منهم فردًا، وسيحاسبون على كلّ حركةٍ وكلّ نفس تنفّسوه ها هنا في الفانية! وكلّ ذي حقٍّ سيأخذ حقّه؛ فالله لا ينسى ولا يظلم حاشاه ! »
حانت منّي التفاتةٌ له فوجدته مطرقًا يحدّق في السماء ثم تحدّث قائلًا : « صدقتَ! صدقتَ يا مينا ! لعنهم الله! أنا سعيدٌ بنجاتك! حمدًا للربّ على سلامتك! »
تبسّمت في وجهه وحطّت كفّي على كتفه بينما أحادثه : « لن أنسى لك ذلك ألفريد! ممتنٌّ لك ما حييت! »
« لست أستحق شكرك، آسف بشأن قدمك، أنا__»
« توقف عن لوم نفسك! لا دخل لك فيما حدث أنا واثق! لقد مضى كلّ شيء وانتهى على خير الحمدلله، دعك منّي أنا بخير حال! أخبرني كيف هي أحوالك؟ لم نتحادث منذ زمن! أعتقد أن جلّ حديثنا كان مشاجرةً؟! »
قاطعته واختتمت كلامي بضحكةً تسلقت عنان السماء وتردد صداها هناك بين النجوم بينما أسترجع ذكرياتي معه في طفولتنا. لم تكن كثيرة ولكن كنت غالبًا ما ألقاه عند ذهابي مع والدي للكنسية في صغري، وكانت كلّ لقآتنا عبارة عن مشاجرات وتلاسن.لم أكن أستسيغ شخصيّته قطّ! كم الأمر مضحك!
اتّسع شدقاه لتبرز بسمته التي انعكس عليها بريق النجوم بينما دسّ أنامله في جيبه وهو يجيبني : « لا أعلم كيف لم نكن على انسجام في ما مضى؟! كيف فوّت صداقتك؟ لا أدري! كنت غبيّا!
لا تقلق أمسيتُ بخير بعد رؤيتك بخير،
لقد كان القلق يفتُّ في عضدي
يومًا بعد يوم.
كلّما أشرقت شمسُ يومٍ جديد كنت آتي لمنزلك هنا وأربض في المكان علّي أرقبُ عودتك يومًا، كان هناك خيطٌ رفيع من الأمل ينبض في فؤادي كلّما بزغت خيوط فجر جديد. كنت آتي هنا كلّ ليلة علّي أبصر طيفك فيهدأ سياط اللّوم الذي يجلد خافقي. وأتيت اللّيلة وقد انمحى خيط الأمل في قلبي وبات منعدما، ساقتني قدماي غصبا؛ لعلّها كانت تفقه أنّي بلقياك اللّيلة فائزٌ! »
وكم صدمت!
لم أكن لأصدّق أنّ تلك المشاعر قد يكنّها لي ألفريد بشخصه، كان هذا من المستحيلات العشرْ أن يصدر من ألفريد بحدّ ذاته، لكن سبحان مؤلّف القلوب!
أردفتُ وقد ازدادت ابتسامتي اتساعا حتى كادت تندلق خارج فمي : « يعجز لساني عن الردّ يا ألفريد! قد أحرجتني! »
« لست بحاجة للردّ يا مينا، أنا أخبرك بمكنونات مشاعري، ربما لن تظهر ثانيةً! فمن النادر أن أفصح لأحدهم عن دواخلي، ولكنّك استحقّيت ذلك، أوتدري؟! لقد أعجبت بك كثيرا، حين أبصرت كم كنت صابرا، وكم تحمّلت، وكم من آلام وجروح غائرة أُثقل فؤادك بها وكنت تبدو لي شامخًا كالأسد رابضٌ حيث هو بينما تتهافت لقتله
الكلاب »
« الحمدلله، أرجو أن أكون عند حسن ظنّك دومًا يا ألفريد، لكن...كيف نجوت؟! »
« لا تقلق، لدي طرقي الخاصة، استطعت النجاة من الحريق بأعجوبة! »
« المهم إنك بخير الآن »
عقّبتُ في حين مددت كفّي له فتبسّم ملتقفًا يدي وصافحني بحرارةٍ بينما يشدّ على كفّي بمودّة قائلًا :
« سررت بمصادقتك، وأرجو أن تعفو عمّا بدر منّي سابقًا؛ فلقد كنتُ طائشًا »
« لا_____»
« حاذِر »
دفعني ألفريد بقوّة فسقطتُ على الأرض متعجّبًا، ولكن ما هي إلا ثويناتٌ حتى تلبّسني الخوف، وخُطف لون وجهي لما رأيت.
« ابتعد عنّي! سحقًا لك! مينا! مينا! أقسم لن تهرب هذه المرّة! انتظرتك طويلًا ! لن تعيش لحظةً أخرى بعدما قتلت أخي! ابتعد! »
سحقًا ! إنّه كاظم !
ألا زال يتذكر أمري؟
كان يسبّ ويهتف بذلك بينما يحاول ألفريد ردعه عن الاقتراب منّي متعاركًا معه ولكن في نهاية كلامه علا صوته وهو يحاول باستمامتة إيذاء ألفريد. كان ألفريد يسدّد له اللكمات والركلات لكنّه لم يكن ليكفّ ولمحته يرفع سلاحًا أبيضًا لمع نصله تحت أضواء النجوم وانعكست عليه نظراته الشرسة التي بدا فيها قد فقد عقله تماما وكان عازمًا على أمرٍ بشع روتهُ لي عيناهُ التي تأجّجت بها نيران الغضب.
« ألفريد! »
صحتُ وأنا أجاهد للوقوف علّي أستطيع قتاله والدفاع عن ألفريد.
« ساعدونا! فليساعدنا أحد! النجدة! يا أهل الحيّ! »
حاولتُ الاستنجاد بأحدٍ حاولت وحاولتُ ولكن صوتي تاه في الفضاء وابتعله الصمت المخيف، كما أنّ اللّيل قد جنّ ولم يكُ هناك إنسيّ في الشارع.
ربّاه !
الطف بنا !
يتبع.....
مفاجأة صحيح؟ 🙃
كيف كان الفصل؟ 🤍
توقعاتكم؟
وإلى لقائنا القادم دمت في رعاية الله وحفظه ♡✨
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top