الفصل الرابع عشر : لوحةٌ مُحمّلةٌ بالذكريات

« لم أكن كما أنا الآن منذ سنواتٍ يا عُميْري، كنتُ شابًّا طائشُا وجاهلًا لا يفقه شيئًا، وللأسف... لم أُدرك ذلك إلّا بعدما كان أوانُ الإدراك قد فات، وعلى ما يبدو أنّ أوان الإفصاح قد آن يا عُميْر، كانت لديّ أسرةٌ مُحبّة وجميلة تُمدّني بالدفئ والسعادة والأمان، والدي ووالدتي كانا وحيدين؛ لم يكن لديّ أخوالٌ أو أعمام، وأخي الأكبر كان يكبرني بخمسة عشر سنة، كان دائمًا ما يهتمُّ بي ويرعاني ويحاول إسعادي وإبهاجي دائمًا، كنتُ حينها أحبّ الرسم كثيرًا، كنتُ أرسم مع أخي دائمًا، كنّا نقضي غالب أوقاتنا نلهو معًا ونلعب ثم نعود للمنزل ليستقبلَنا حضنان دافئان لوالدين مُحبّين يوفّران لنا كلّ ما نريد ونتمنى، اعتاد والدي أن يصحبنا يوميًّا لنصلّي فروضنا في المسجد معه وكم كانت أجواءً جميلة !..تلك التي كانت تغمرنا جميعا حينها ! ووالدتي... ذاك الحضن الدافئ... ذاك الوجه الأنور الحنون... تلك التي كانت تسهر دومًا على راحتي أنا وأخي مُعاذ... لم تكن ترتاح حتى تطمئن علينا، كانت تعمل بجدٍّ دون كللٍ أو ملل لأجل راحتنا.....ولكن....

في...أحد الأيّام بينما كنتُ ألهو مع أخي وكان أبي يُزاول عمله كالمعتاد، إذ بغتةً دون مُقدّمات سقطت أمي على الأرض وقد أعياها التّعب والإجهاد، هرع مُعاذ لها وحاول أن يُساعدها على النُّهوض ولكنّها كانت مُتعبةً جدًّا حتى فقدت وعيها، كنتُ صغيرًا وقتها؛ إذ كنت قد بلغت عامي الحادي عشر، فحينما أبصرتُ أمي القويّة، حصني القويم، حضني الدافئ يهوى ويتهالك أمام ناظري، ذرفت عيناي دموعها واهتزّت حبالي الصوتية؛ لتصدر صوتًا عاليًا ومزعجًا صدر عن بكائي، هرعت لحضنها وأنا أهزّها وأبكي.. ولكنّي لم أكن على علمٍ أنّي كنت أُعرقل أخي ببكائي والتصاقي بأمّي عن عمله في إفاقة والدتي.

« براء! ابتعد قليلًا! توقف عن البكاء! وساعدني بإحضار كوب ماء لأمّي! » صاح بي معاذ لأوّل مرة وهو ينهرني ويأمرني بالتوقف عن الصياح والبكاء. تجمّدت في مكاني أُحدّق به وهو يتفحّص نبض والدتي بأصابع مُرتجفةٍ وسمعتُه يتمتم :« نبضُها! نبضُها ضعيف! »

حينها ازداد بكائي وطفقت الدموع تنهمر انهمارًا من مقلتاي وأنا أنادي أمي، لم يلتفت معاذ لي وهرع لهاتفه مُتّصلًا بالإسعاف ثم عاد وصار يضغطُ على صدر والدتي بسرعةٍ ولعدّة مرات متتالية دون توقف وهو ينهج بتعب وقد برزت قطيرات العرق على جبينه وهو يُنادي قرب أُذن والدتنا :« أمي! أمي أتسمعينني؟! أُمّي أرجوكي أجيبيني! » لحظاتٌ مرّت كالدهر على كلينا حتى وصل الإسعاف وحاولوا إنعاش قلب أمّي لكنّهم.... كانوا قد تأخّروا كثيرًا.... غادرتنا أمي و غادرنا دفؤها، حنانها، بسمتها، حضنها، قُبلتها الحنونة... غادرتنا روح أمي المُبهجة في ذاك اليوم فجأةً بسبب نوبةٍ قلبية مُفاجئة....

بكيتُ وبكيتُ وبكيتُ كثيرًا حتى لم أعد قادرًا على ذرف الدموع، بكى والدي كثيرًا لكنّه كان صابرًا مُتجلّدًا راضيًا بقضاء الله، كذا كان معاذ.. أخي الحبيب... كان يتألّم ورغم ذلك كان يُحاول تعويضي عنها، إسعادي، جعلي أنسى ما حدث أمام عيناي، لكن... كيف لي أن أنسى أمّي؟!

والدي الحبيب كذلك صار يبذل قصارى جُهده حتى يُعوّضنا عن فقدان أحد أركان منزلنا وأسرتنا السعيدة، كان دائمًا ما يخرج معنا في رحلات للصيد، كنا نصطاد الحمام والطُّيور معًا، كان دومًا ما يخرج معنا في رحلاتٍ لحدائق غنّاء ويزرع معنا شتّى أنواع النبات والشّجر وفي كلّ مرة كان يُعلمّنا شيئًا جديدًا ومختلفًا ولكنّي لم أكن مُستشعرًا تلك النعم الكثيرة التي كانت حولي، منذ وفاة والدتي تغيّر شيءٌ بداخلي، لم أعد مُبتهجًا كما كنتُ، لم أعد أقضي أوقاتي مع أخي، بتُّ أبتعد عنه رُويدًا رويدًا حتى صارت المسافة بيننا بعيدة، رغم ذلك كان معاذ يُحاول أن يُبهجني... يتقرّب منّي... يزيل تلك الحواجز التي بنيتُها بغبائي ولكن هيهات ! هيهات فقد كان عقلي أصلب من الصخرة وكنتُ مُتعنّتًا برأيي لا أتزحزحُ عنه، لاحظ والدي ذلك وفاتحني في الموضوع وسألني عن السبب ولكنّي صمتُّ وأخبرته أن كلّ شيءٍ على ما يرام، لم يُرد والدي أن يُحزنني لذا لم يضغط عليّ ولكنّه أخذ ينصح لي ويوصيني على أخي الأكبر ويُذكّرني بفضله ولكنّي لم أستمع لكلامه.. وياليتني استمعتُ له !

رغم ما مررتُ به من ظروف إلّا أنّي لم أتخلّى عن موهبتي في الرسم وصرت أصقلها وأنمّيها ودائمًا ما كان والدي ينضمُّ لي ويُساعدني على الرّسم، وحينما كان ينضمُّ لنا معاذ كنتُ أُفسد اللّوحة و أُلملم أغراض الرّسم وأجلسُ بجانب والدي بهدوء أتمسّك بيده وأغرس رأسي في حضنه الدافئ متجاهلًا عتاب والدي لي على تصرّفي مع أخي الأكبر...

مرّت السنين وكبرتُ وكبر أخي، وبمرور السّنين توقّف أخي عن المُحاولة وصار يحترم رغبتي بالابتعاد عنه ولكنّه كان يهتمّ بي دومًا وإذا ما مرضت فإنّه كان يجلس بجانبي ولا يبرح مكانه يعتني بي ويسهر حتى أتعافى ثم يبتعد عنّي كأنّه لم يفعل شيئًا، وبدأ حالي يتدهور أكثر حينما بلغتُ عامي العشرين تصادقت على مجموعة شبابٍ سيّئين وصرتُ أرتاد الجامعة معهم يوميًّا، وبالطّبع كانت أخلاقي تتأثّرُ وتسوء يومًا بعد يوم، لاحظ والدي ومعاذ اختلاف تصرّفاتي فحادثني والدي في ذلك الأمر وطلب منّي أن يُقابل أصدقائي الذين أرافقهم، استنكرتُ ذلك وبدأت أُجادله وحينها دار بيننا أوّل نقاشٍ حادّ وعققت والدي ورفعتُ صوتي عليه...

«أبي! لمَ تُريد مقابلتهم؟! إنّهم شباب جيّدون أؤكّد لك! و_»

« براء! أخبرتك أود مقابلتهم! تصرّفاتك مختلفة! أخلاقك أصبحت سيئة! انظر لنفسك بتَّ بالكاد تُصلّي فروضك ولم تعد تُصلّي في المسجد، حتى أنّك صرت تُجادلني! »

« أبي! إنّهم أصدقائي! وأنا أدرى بمن أُصادق! معاذ هو من عليك مقابلة أصدقائه!» صحتُ بغضبٍ وبالطبع كنتُ أكذب وكنتُ أظلم أخي معاذ.

« أخفض صوتك حين تتكلّم معي! ثم ما دخل معاذ بالموضوع؟! ليتك تتعلّم منه يا براء! ليتك »

« معاذ! معاذ! معاذ! أتمنى أن يختفي معاذ من حياتي! »
صحتُ بعلوّ صوتي وقد تعمّدت ذلك حتى يصل صوتي لمعاذ الذي كان جالسًا بجانبنا، ركضتُ خارج الغرفة وتجاهلتُ نداء والدي لي ونداء أخي ولم آبه بشيءٍ.

صارت سلوكيّاتي تنحدر للأسوأ حتى عدتُ في أحد الأيام ورائحة السجائر تنبعث من فمي ومن ملابسي وحينها صفعني والدي بقوّة وهو يصيح بي :« براء! ألم أخبرك أن تبتعد عن تلك المجموعة الفاسدة! السّجائر يا براء! سجائر؟! الظاهر أنّك تحتاج لإعادة تربيتك من جديد! »

عندها تقدّم مُعاذ منّي وهو يُسائلني بنبرةٍ معاتبة وهادئة :« لمَ يا براء؟! لمَ؟! لمَ صرتَ ترسُم لوحاتٍ سوداء وفاسدة؟! لمَ تلطّخت روحك وفرشاتك بالسّواد؟ لمَ توقّفت عن رسمك الجميل والمُبهج يا برائي؟! » ورأيتُ نظرة الخيبة في عينيه. حينها لم أستطع حتى أن أنظر في عينيه، لم تُواتني الشجاعة للنّظر في عيني أحدهما؛ إذ أنّي قد خذلتهما وخنتُ أُسرتي الحبيبة.

غضب منّي والدي كثيرًا وصار يوصلني ويُرجعني يوميًّا لجامعتي بنفسه علّه يُحدّ من اختلاطي معهم ولكنّي بدأتُ أبتعدُ عنهم وحدي وابتدأت أشعرُ بخطأي وخيانتي للأمانة التي عهد بها والدي إليّ، ومدى المُصيبة التي أوقعتُ نفسي فيها، صرتُ أبتعد عنهم حتى تخرّجت في عامي الرابع والعشرين ولكنّي لم أعد كما كنتُ، شعرتُ بخواء روحي وفراغها وشعرتُ حينها بالضّياع. كان والدي مُعرضًا عنّي وكذا مُعاذ، كنتُ أودُّ الاعتذار منهم ولكنّي كنتُ أشعر بالخزي والعار ممّا فعلتُ. وفي أحد الأيّام استجمعتُ شجاعتي واعتذرتُ لوالدي... لم تلِن تعابير وجهه المُتجهّمة وهو يُجيبني :« لقد نصحتك يا براء وفعلتُ ما عليّ، أيُّ طريقٍ ستسلك... هذا
خيارك! »

اعتذرتُ كذلك من معاذ وأجابني بهدوء :« اعتذارك مقبولٌ يا براء، ولكن...عليك أن تعلم أنّ هناك جروحٌ لا تلتئم بالاعتذار.. يا أخي! » وما أخبرني به كان كالصّفعة التي أفاقتني من غفلتي حقًّا! ما الذي كنتُ أفعله؟ إلى أيّ حدٍّ خدعني الشيطان حتى وصلت لهذه المرحلة؟! ما الذي فعلته بنفسي وبعائلتي الجميلة؟!

مرّت الأيّام وصرت أحاول أن أُصحّح أخطائي التي ارتكبتها ولكن.... قبل أن أستطيع فعل أيّ شيء جاء ذاك اليوم الذي قلب حياتي رأسًا على عقب....

في ذلك اليوم كنتُ أقف بجانب أخي في المطبخ أُساعده في طهي الطعام رغم أنّه لم يكن يحتاجني. حدث كلُّ شيءٍ بسرعةٍ حدّ أنّي لم أستطع الاستيعاب، حدث تسريبٌ في الغاز وشبّ حريقٌ هائلٌ في المنزل، لا أتذكّر ما حدث بعد ذلك سوى سماعي لمعاذ ووالدي وهما يناديان باسمي ثمّ شعوري بأحدهم يجرُّني من ذراعي بينما أنا بالكاد كنتُ أتنفس ولم أكن بكامل وعيي حينها، توقّف جسدي عن الحركة ولم أعد أشعر بتلك اليد التي كانت تجرُّني. ما أذكُره تاليًا مشهد النيران التي كانت تُحاوطنا المُستعرة المتوهّجة التي كانت تُحيط بنا من كلّ جانب، الحرارة الفظيعة التي كانت تلفح جسدي، سعالي المُستمرّ وسعال معاذ ووالدي، ولكنّي لم أكن أراهم. أخذتُ أنادي عليهم بأعلى صوتٍ والذي بدا كهمسٍ حينها وبغتةً شعرتُ بكفٍّ تًمسك كفّي وتشدُّ عليها، التفتُّ سريعًا وإذ به مُعاذ وهو يزحف ليكون بجانبي، صرخت باسمه وأنا أسأله عن حاله وعن والدي ولكنّه ابتسم لي وقال بصوتٍ بالكاد ظهر :« براء! أنقذ نفسك! ازحف هناك نحو الخارج! هيا أسرع! »

« ما الذي تقوله؟! لن أتركك هنا! أين أبي؟ أين هو؟ »

« فقط اذهب يا براء! انجُ بنفسك! »

استجمعتُ قواي وبدأت أسحب أخي زاحفًا وأنا أتّجه لتلك الجهة التي لم تطلها النّيران بعد ولكن جسدي صار يثقل ويثقل وبدأتُ أشعرُ بضيقٍ في صدري وبات تنفسي يصعب شيئًا فشيئًا، التفتُّ لأخي والذي لم يكن في حالٍ أفضل منّي ولكنّه قاوم واقترب منّي وقال متوسّلًا :
« براء! هيا استمع لكلامي! ليس هناك وقت! » ثم نهض بكل ما أوتي من قوة وصار يسحبني من ذراعي مبتعدًا عن النيران، حاولتُ النهوض ولكنّي لم أستطع وبات معاذ يسحبني بكل طاقته حتى وصل لمنطقةٍ خلت من النيران وانهار ساقطًا وبدأتُ أسمع أصواتًا عالية لأشخاصٍ كُثر.

« معاذ! أنا آسف يا أخي! أعتذر لك من كلّ قلبي! آسف آسف على كلّ ما فعلتُه! لن أُكرّر ذلك ثانيةً ولكن لا تتركني يا أخي! اصمد قليلًا سننجوا معًا »

« لا بأس، لقد... سامحتُك منذ زمن.... مُتأكدٌ أنّك لن تكرّر ذلك ثانيةً.... لكن... عدني... عدني يا برائي... عدني أنّك لن تُلطّخ فرشاتك بالسواد ثانيةً وستُبقيها مُلطّخةً بشتى الألوان المُبهجة... عدني أنّك ستسير على الدرب.... عدني أنّك لن... تنسى وعدك لأخيك الأكبر.... عدني يا برائي... »

قال معاذ بصوت هامسٍ خفيض، تساقطت الدموع من عيناي وتشوّشت الرؤية لديّ وأحسست أنّ رئتاي لم تعد تجد هواءً نقيًّا تتنفّسُه ولكنّي تمتمتُ بآخر ما تبقى لي من نَفَسٍ :« أ.. أعدك يا أخي... أعدُك »

لم أبصر سوى ابتسامته التي شقّت وجهه وانعكس عليها وهج لهيب النيران وآخر ما أحسستُ به هو كفُّه التي لامست شعري وأخذت تداعبه بلطفٍ وحنوّ أعاد لي طفولتي وشعور الدفء الذي كان يغمرني حينها.......

استيقظتُ مُتألّمًا وحيدًا تائهًا لا علم لي بمكاني ولا بكياني، كاد الأمل يموت بقلبي ولكنّه نمى وأزهر حين أعلمني الطبيب أنّ أحدُهم ينتظرني، فرحتُ كثيرًا وتوقعت أنّ أسرتي الغالية بخير، ولكنّي كنتُ مُخطئًا فحينما تعافيتُ قليلًا انهالت عليّ الأخبار المؤلمة كأنّما هي خناجرٌ قد غُرزت في نابضي بقسوة حتى بات نزيفه يغرقني، لم ينجُ أخي من الحريق، نجى والدي ولكن حاله حرجةٌ للغاية؛ فقد أُصيب بحروقٍ بالغة الخطورة. ولكنّهم أخبروني أنّه بإمكاني زيارته، ولكم كانت زيارةً مؤلمةً بحق!

كان والدي مُمدّدًا على السرير تُحيط به الأجهزة المُتصلة بجسده من كلّ جانبٍ، ولم أرَ منه سوى عينيه؛ فقد لُفّ جسده كلّه بالضمادات؛ لشدّة الحروق التي كانت على جسده. رغم أنّ ألسنة النيران قد طالت وجهه وشوّهت تفاصيله المنيرة إلّا أنّها لم تستطع مسّ عينيه الجميلة بشيء، فقد كانت مُنيرةً وعلمت من شكلها أنّه يبتسم وبدا لي مُرتاحًا كثيرًا، حينما أحسّ بوجودي أشار لي بالاقتراب منه مناديًا :« برائي... الجميل... تعالَ، اقترب من والدك بنيّ، ألم تشتق له؟! » هرعتُ له والدموع تنهمر من عيني كما الشّلال ودفنت رأسي في حضنه الدافئ كما اعتدتُ في صغري، ألفيتُ كفّه المتين تتخلّل خصلات شعري وتداعبها بلينٍ ورفق؛ لتبثّ في جسدي دفئًا وحنانًا اشتقت لهما. ضممتُ والدي وتمسّكت به كأنّما أخشى بُعده وفراقه، كأنّما أخشى فقدانه كما فقدت أخي، تعالت شهقاتي وازداد انهمار عيناي بالدموع حتى خلتُ أنّ ماء عيناي قد جفّ.

« براء، لا تبكِ يا صغيري، والدك بجانبك، لا تبكِ، قدّر الله وما شاء فعل، عليك أن ترضى يا بنيّ، عليك أن ترضى»

ابتعدت عن حضنه وأنا أُجفف دمعي بكفي أطالعه بهدوء وحزن لم يسع قلبي ففاض منه وأرّق مدمعي. نظر لي والدي بعينيه الدامعتين وهو يحادثني :« برائي، مهما ابتعدت تذكّر أن الله دائمًا أبوابه لا تُغلق، مهما كان عدد المرات التي حدت فيها عن الطريق فتذكّر أن الله دائمًا في انتظارك، في كلّ مرة تبتعد فيها أو تضلّ عن الطريق فتذكّر ذلك دائمًا، إنّ الله لا يملُّ يا بني حتى تملّوا، سارع لربّك فمن سارع لربّه فاز بخيري الدنيا والآخرة يا برائي، كلّ ابن آدم خطّاء ولكن أفضلهم من يُسارع بالتوبة ويدرك خطأه سريعًا ويرجع لرّبه؛ فأبوابه دائمًا مفتوحةٌ لعباده يا بُنيّ»

« أبي... أنا آسف... »

تبسم والدي وهو يجيبني :« لا بأس براء، أثق أنّك ستصبح شخصًا ناضجًا وصالحًا، لن تُخيّب ظنّ والدك فيك، أثق بالخير الذي يحتويه فؤادك يا صغيري، اعتني به حتى يُزهر وينمو بشتى الزهور الجميلة، سِر على الدرب يا برائي لنلتقي هناك حيث السعادة الأبدية يا بنيّ، فهذه الدنيا مهما طالت ستمضي وتنقضي، فسِر ولا تلتفت للخلف، تُب إلى الله وعاهده بالاستقامة، وكن في جهادٍ مع نفسك دومًا حتى تلقاه، افعل الخير دائمًا ولا تنتظر جزاءه من أحدٍ سوى من الرحمن، أخلص وعش حياتك مع الله وتمسّك بحبله لتنجو يا براء، سِر على الدرب؛ لنلتقي هناك يا بنيّ، تذكّرني ولا تنسانا من دعائك، لا تنسى أُسرتك من دعائك، ولا تنسى والدك من دعائك...فقد تعلّمت الرسم وصيد الحمام معي أليس كذلك؟ » اختتم والدي كلامه وهو يضحك بخفوت ممّا أجبرني على الابتسام من بين عَبَراتي وأنا أردف بنبرةٍ ملأها الخوف :« لا تقل ذلك يا والدي، سأفعل ذلك إن شاء الله وستكون موجودًا معي بجانبي »

« ستكون بخير يا براء، لا تقلق طالما أنت مع الله فلن يضيرك شيء »

ارتميت في حضنه وظللت أبكي وأنا أتمسك به بقوة علّني لا أفقده، علّني أبقى في حضنه على الدّوام، علّني أستشعر دفئه وحنانه للأبد، ولكن ما هي إلّا أيامٌ معدودة حتى فاضت روحه الطاهرة لبارئها وصرتُ وحيدًا تمامًا، ولكنّي سرعان ما استرجعت كلام والدي واستجمعت شتات نفسي وعدت لطريق ربي وعاهدته على أن أصحّح أخطائي وأن أحاول أن أكفّر عنها وأن أصير شابا صالحا كما ربّاني والدي وكأخي الحبيب معاذ، صرتُ أزور قبر والدي ووالدتي ومعاذ يوميًّا وبتًّ أخرج لهم الصّدقات وأدعو لهم دومًا وأستغفر ربّي علّه يغفر لي ذنبي ويتوب عليّ، ولعلّ والدي ومعاذ يسامحانني على ما اقترفت في حقّهما.

كان والدي ميسور الحال وترك لي الكثير بعد مماته فاستأجرتُ هذه الشّقة الصغيرة وصرت أقطن بها من يومها، منذ وفاة والدي توقّفتُ عن الرسم؛ ذلك أنّي كنتُ كلّما أرسم أتذكّره.. أتذكّرُ كيف كان يمسك بيدي ويضرب بها بالفرشاة سطح اللّوحة ويعلّمني كيف أرسم، فأذرف دمعي بحرارة ألمًا وندمًا وحسرةً على ما فعلته مع والدي، كما كنتُ أتذكّر معاذي وكيف كنت أبتعد عنه فينهش فؤادي الندم ويتقطّع ألمًا وشوقًا للُقياه، ولكن... لا ينفع الندم على اللّبن المسكوب....

ظللت أسير مع الله وبدأت أشعر بتلك الراحة التي كنت قد افتقدتها واشتقت لها كثيرًا، تلك الراحة وذلك الأمان اللّذان يغمران فؤادي فور شروعي في الصّلاة، فور قراءتي للقرآن، فور بوحي لربّي بفحوى الفؤاد، استشعرتُ نعم الله عليّ وحمدت الله أن ردّني إليه قبل فوات الأوان وحمدتُ الله أنّي قد عدت أسير في دربه ثانيةً بعد أن كان الشيطان قد خدعني وأبعدني عن طريق ربّي....»

أقبلتُ إلى براء أُعانقه وأضمُّه لصدري مُطبطبًا على ظهره وقد انخرط في بكاءٍ مرير، آلمني فؤادي لرؤية دموعه التي لم أتخيّل أن أراها يومًا، آهٍ لكم تحمّلت يا براء! آهٍ لكم صبرت يا براء! كيف كنت تبدو لي صامدًا قويًّا؟! كنت أظنّ أنّ حياتك مليئةٌ بالأفراح، لا حزن فيها ولا ألم ولكن... آهٍ يا براء آه لكم آلم ماضيك فؤادي ولكم تشابهت آلامنا يا صديقي! فكلانا فقد وكلانا افتقد وكلانا عثر على الطريق بعد أن ضلّ عنه وابتعد، آهٍ يا براء لكم كنتُ أحمقًا! كنتُ أرمي بثقلي ومصائبي عليك ويكأنّ مصائبك لا تكفيك! لم أكن أدري أنّك عانيت كل ذلك في حياتك يا براء! لم أكن أدري بذلك يا عزيزي، اعذرني يا براء، كنتُ غبيًّا أن لم ألحظ ذاك الحزن الدفين في عينيك، اعذرني يا براء، كم أودّ أن أردّ لك جزءًا بسيطًا مما قدّمته إليّ! اعذرني... اعذرني.... فلم أكن أدري بحزنك وماضيك المرير.

ظللتُ أُربّت على ظهر براء وأنا أواسيه بقولي :« لا تحزن يا برائي، أنا متأكد أن أسرتك فخورة بك! متأكد أن معاذ سعيد لأنّك وفّيت بوعدك له، متأكّدٌ أن والدك فخور بحصوله على ابنٍ مثلك، كما أنّي أعتزّ بحصولي على صديق مثلك يا براء، ولابّد أن الله سيوفّقك في حياتك دومًا فأنت تسير على دربه، كما لا تنسى أنّك قد أرشدتني لأسير في الدرب معك، أنسيت؟! »

ابتعد عنّي براء وهو يبتسم ابتسامةً حزينة وقد طالعني في عيناي وهو يحادثني :« أتدري يا مينا؟! حين التقيتُك لأوّل مرّة شعرتُ بتشابهٍ كبيرٍ بيننا، كلّما نظرتُ إليك كنت أتذكّر نفسي الضائعة والمُشتّتة، كنتُ أرى نفسي فيك يا مينا.. أقصد يا عُمير، ولم أُرد لأحدٍ أن يمرّ بما مررتُ به، أحببتك منذ أوّل لقاء لنا؛ رغم أنّك كدت تقتلني! » قال براء وضحك من بين دموعه وقهقهتُ فور تذكّري لذلك اللّقاء.

« ولكنّي لامست خيرًا دفينًا في قلبك يحتاج من يسقيه ليزهر وينمو ويغدو بستانًا مزهوًّا بالألوان، وبالفعل لم يخب ظنّي فيك، ووفّقني الله ووفّقك أن منّ عليك بالهداية، وشعرتُ حينها فعلاً أنّي قد أنقذت روحك من الضياع والتشتت وأرشدتك للطريق الصحيح، حينما جئت إليّ من تلقاء نفسك تعلمني برغبتك في اعتناق الإسلام شعرت كأنّ الروح دبّت في فؤادي وشعرتُ ببهجةٍ ما شعرتُ بمثلها في حياتي؛ ذلك أنّي قد أرشدت روحًا ضائعة لربّها..

حينها تذكّرتُ والدي، معاذ، أمي، تذكّرتُ لحظاتنا الجميلة، أخذت ذكرياتنا السعيدة تنهال عليّ حتى رسمت البسمة على وجهي فحملتُ فرشاتي ونفضتُ عنها التراب وشرعتُ أنفّذُ وعد أخي العزيز وأنا أتمتم له بكلماتٍ أثق أنّها ستصله : لا تقلق يا معاذي، أخي الأكبر، سندي الغالي، ستظلُّ فرشاتي تضرب اللّوحات بهمّة ونشاط وتلطّخها بشتّى الألوان البهيّه وأعدك أنّي لن أدع السواد يمسّها ثانيةً ستظلُّ ترسم لوحاتٍ بهيجة لتذكّرني بكم دائمًا، سأرسمُ شروق الشمس الذي كنّا نُشاهده سويّةً بعد عودتنا من صلاة الفجر في المسجد، سأرسم الحدائق التي كنّا نذهب للتّنزُّه فيها، سأرسمُ الشطائر اللّذيذة التي كانت تُعدّها لنا أمي كلّ يومٍ، سأرسم شجرة اللّيمون التي زرعناها سويّةً حين تنمو يا عُميْر، أشكرك يا عُمير على كلّ ما فعلته لأجلي، فوالله لم أقابل صديقًا مُخلصًا مثلك، أشكرك يا عُمير وأرجو أن تظلّ بجانبي على الدّوام وأن أرسم البسمة على وجهك دومًا، وأدعو الله أن يُديم صحبتنا الصالحة ويجمعنا على طاعته دومًا »

التمعت عيناي بالدموع وطفقت تسكب ماءها سكبًا على وجنتاي وعانقتُ براء بشدّة وأنا أحمد الله من كلّ قلبي أن منّ عليّ بلُقياه، وبهدوء همست في أذنه :« أشكرك ،أشكرك ؛ فحين التقيتُك يا براء، وجدتُ
الطريق! »

« وأنا كذلك صدقًا يا عُميْر! أشكرك فقد كنتُ بحاجةٍ للبوح بما يعتمل به صدري، لكم أحبّك يا عُميْر! تذكّرني دومًا بأخي... معاذ رحمه الله »

« أحبّك أكثر والله يا برائي، رحمة الله عليه، أنا واثقٌ أنّ معاذ سعيدٌ جدا الآن وفخور بك، فأنت شابٌّ قلّ أن يجود الزمان بمثله، ويالسعد من يكون لك أخًا
وصديق! »

في ذلك اليوم أكلمنا رسم اللّوحة معًا ولطّخنا بعضنا بالألوان واتسخت الأرجاء، وتعالت ضحكاتنا وملأت المكان، ولكن لم يكن هذا مهمًّا فقد رسمنا أجمل لوحةٍ تشاركنا فيها.

« عُميْر ماذا تفعل؟! لقد أفسدت توقيعي! » صاح براء مُتذمّرًا بعدما خططت بالفرشاة حرف العين وقد تداخل وتشابك مع توقيعه.

« إنّها حقوق الطبع يا عزيزي! » قلت بينما أقهقه عاليًا وسرعان ما انضمّ براء للضحك معي وأخذنا نطالع رسمتنا التي أبدعنا فيها بفخر ونضحك على الفوضى العارمة التي أحدثناها سويّةً.

أهداني براء لوحتنا في النّهاية كتذكارٍ بأنّ هذه أوّل رسمة رسمتها مع براء ولتحمل بين ثناياها بصماتي وبصماته التي تضمّ بين تعرّجاتها ألوانًا بهيّة تعبّر عن ذكرياتنا وأسرارنا التي تشاركناها سويّةً، وأوقاتنا السعيدة التي قضيناها معًا منذ أن التقينا. عُدت لمنزلي سعيدًا وأوّلُ شيءٍ فعلته هو تعليقي للوحتنا الجميلة على جدار غرفتي لتزيّنها وتعبّقها بأجمل ذكريات ولحظات قضيتها مع أجمل وأعزّ شخصٍ على قلبي.... براء....

يتبع.....

إذًا... كيف كان الفصل؟ 🙈🙃 ✨ أتمنى ألا تكونوا شعرتم بالملل؟

هل أتقنت حبك ماضي برائنا في رأيكم ؟ 🥺🥹

بصدق هل استطعتم فهم براء أكثر؟ هل ساعد ماضيه في ذلك؟ 🥀🌼

توقعاتكم؟ 🥀

وإلى لقائنا القادم دمتم بخير💗✨🍃

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top