الفصل الخامس عشر : إلى اللّقاء!
قبل القراءة لا تنسوا الدعاء لإخواننا في غزة الحبيبة، اللهم ارحم شهداءهم والطف بهم واربط على قلوبهم وثبتهم وعوضهم خيرا يارب، لا تنسوا الدعاء على اليهود المعتدين، اللهم شتت شملهم ودمرهم واجعل تدبيرهم في نحورهم وانصرنا نصرًا مبينًا يارب
_________________
في اليوم التالي قضيتُ نصف يومي مع براء وقرأنا الكثير من الكتيّبات التي أهدانيها الشيخ خبّاب، تعلّمتُ بعضًا من الأذكار الأساسية وبعضًا من السنن كذلك. قضينا الوقت نهتمُّ بما زرعنا ونسقيها حتى تنمو بسرعة.
الجوّ بات لطيفًا في الأيّام الأخيرة لم يكن باردًا ولم يكن حارًّا كان معتدلًا؛ إذ كان فصل الربيع قد أقبل وبدأت الزهور العطرة بالتّفتُّح والتألّق في الحدائق، وصارت تنشر عطرها النديّ في الجوّ حيث كانت ترفرفُ الفراشات بهيّةُ الألوان.
جميلٌ هو فصل الرّبيع!
يُشعرني بالدفء والسعادة
يذكّرني بذكرياتي مع أمي و
أخي وأختي حين.... كانوا معي
« بمَ تُفكّر؟ » أتاني صوت براء الذي كان جالسًا بجانبي على المقعد يُحدّق بالزهور والنباتات التي تزيّنت بها أرض الحديقة
تنهّدتُ بينما أجيبه دون أن أُزيح عيناي عن السماء :
« في... الذكريات؟ ربما... »
تنهّد براء بدوره وهو يجيبني :« نعم... الذكريات تترك بداخلنا أثرًا مهيبًا، وجرحًا... صعب الالتئام »
ألقيتُ نظرةً حزينةً عليه ثم همهمتُ وعدتُ لمطالعة السماء ثانيةً بهدوء.
نعم يا براء....
الفقد صعب....
« عليّ أن أذهب الآن، لديّ بعض الأعمال التي عليّ أن أقوم بها قبل أن تبدأ مناوبتي » تحدّث براء بينما ينهض من على الكرسيّ.
نهضتُ بدوري وأنا أبتسم له قائلًا :« للأسف، الأوقات الجميلة تنقضي بسرعة، حسنٌ إذن... نلتقي غدًا ؟! »
ضحك براء وهو يجيبني بابتسامته الجميلة التي عهدتها :« لكنّها تظلُّ هنا يا عُميْري » قال بينما يُشير على أيسر صدره، فابتسمت وهو يكمل قوله :« نعم، إن شاء الله، إن كان لنا عمرٌ نلتقي هنا، أو في بيتي أيًّا ما تُحبّ، والآن أستودعك الله يا عُمير » اختتم كلامه بينما يمدُّ كفّه؛ ليصافحني.
طالعتُ كفّه بهدوء ومددت كفي سريعا أُصافحه وجذبته إليّ أُعانقه بشوق، ولا أعلم لمَ تسلّل ذاك الشعور السيّءُ لفؤادي وأنا أقول له :« أستودعك الله يا برائي العزيز، سأشتاق لك »
ابتعد عنّي براء وهو يضحك بخفّة قائلًا :« لا تقلق، سنلتقي غدًا إن شاء الله، ولكن استيقظ باكرًا؛ حتى نقضي اليوم من بدايته معًا، هناك الكثير من الأمور التي سنفعلها سويّةً! »
ابتسمتُ له وأجبته :« إن شاء الله سآتي باكرًا »
تبسّم لي واستدار مُتّجهًا لسيّارته، ولا أعلم لم شعرتُ بانقباضٍ في صدري فورما أدار لي ظهره، لا أعلم...
شعورٌ.....غريب...
خوف....
قلق...
ربما اشتياق...
مشاعر سيّئة داهمت فؤادي فجأةً....
ولا أعلم لمَ!
« إلى اللّقاء... يا براء ! »
ناديتُ وأنا أُلوّح له فاستدار لي مُلوحّا وقد زيّنت ثغره تلك الابتسامة المُطمئنة الهادئة الودودة التي تخبرني دومًا أنّ الأمور ستكون على ما يرام.... حتى لو
لمْ..
تكن...
كذلك...
بعدما ودّعتُه توجّهت أنا الآخر لمنزلي، كانت الشمس قد مالت عن كبد السماء وقد قارب العصر على الإقبال. وصلتُ لمنزلي وأخرجتُ المفتاح ثم أقحمتُه في القفل وقبل أن أفتح الباب جذبت انتباهي تلك الأصوات التي وصلت لمسمعي، أبي ليس من عادته أن يحضر أصدقاءه للمنزل! إذًا من قد يكون معه بالداخل؟!
فتحتُ الباب وولجتُ للداخل أُطالع من تواجد في المنزل باستغراب، كان والدي جالسًا يحتسي القهوة مع شخصّ ضخم البنية كثّ اللّحية تعرّفتُ عليه فورًا. ذاك القدّيس الذي كنتُ أراه في الكنيسة حين كنتُ أرتادها مع والدي، ولكن آخر مرّة رأيتُه فيها كان منذ فترة ربما من سنة أو سنتين، لا أذكر تحديدًا، ولكن منظرهما وهما يُطالعانني بابتسامةٍ مُريبة لم يكن مريحًا البتّة، وألفيتُ ذاك الشعور المزعج ثانيةً يحوم في جوفي ويُنذرني بشيءٍ سيء.. ولكنّي لا أعلم ما هو!
« أبي؟! العمُّ مكاريوس؟! » نطقتُ بتعجّبٍ فور التفات والدي لي. تبسّم والدي وأجابني :« مينا ! كنا ننتظرك، تعالَ يا بنيّ، ألن تُرحّب بضيفنا الفاضل؟! »
« مينا ! أهلا ! أهلا ! لقد كبرتَ حقًّا واشتدّ عودك ! لقد أحسن والدك عمله فعلًا ! كيف حالك أيّها اليافع؟! » تكلّم ذاك القدّيس ماكاريوس وهو يعبث بلحيته الكثّة البيضاء.
تقدّمتُ منهم وأخذت أُصافح أبي و العمّ مكاريوس الذي اكتفى بالابتسامة عندما صافحته.
« أنا بخير، كيف حالك عمّي؟! » قلتُ بنبرةٍ هادئة في حين بدأتُ أقلق من ذاك الجوّ المُريب الذي ران على المكان.
قهقه القدّيس مكاريوس لسببٍ أجهلُه ثم أجابني وهو يعبث بقلادته الذهبية التي تدلّت أسفل عنقه والتي حملت رمز الصّليب :« أنا بخير يا مينا، بخير، لكن... أخبرني يا ولدي... لمَ توقفت عن زيارتي في الكنيسة؟ لقد اشتاق ألفريد لك كثيرًا، لم تعد تأتي لزيارتي مع والدك، ما السبب يا تُرى ؟! »
أيُّ كذبةٍ تلك ؟! ألفريد ! ذاك الولد الغبيّ يشتاق لي؟! طالما كنتُ مع خلافٍ معه ولم نتّفق يومًا منذ طفولتنا، كنتُ ألقاه كلّما أذهب للكنيسة مع والدي، كان ألفريد يتواجد هناك مع والده دومًا، وحينما كبرنا انقطعت أخباره وانقطعت علاقتنا معًا؛ حيث أنّي لم أعد أرتاد الكنيسة منذ زمن.
بدأت أشعرُ بالتوتر والقلق من حديثه ولا شعوريًّا نظرتُ لوالدي الذي كان يحتسي قهوته بهدوء بملامح جامدةٍ جدًّا.
يا الله !
هل علمَ والدي بالأمر؟!
هل أحضر ذاك القدّيس لأجل ذاك الأمر؟!
ابتلعتُ تلك الغصّة التي علقت بحلقي وأخذ نابضي يخفق بتتالٍ في جوفي وأجبتُه بنبرةٍ بدا التوتر جلّيًا بين ثنياتها :« لقد... كنتُ... مُنشغلًا هذه الأيّام بعملي، لذا لم يتسنّ لي الوقتُ »
همهم مكاريوس وهو يُطالع والدي بنظرةٍ جهلتُ معناها، لكن والدي تحدّث بعد ذلك بنبرةٍ غريبة :« صحيح! لم أخبرك يا مينا، لقد تحدّثتُ مع... صاحب المتجر المُجاور اليوم، أتعلمُ بمَ أخبرني ؟! »
شعرتُ بالخوف يطرق فؤادي وودتُ لو أركض لأيّ مكان لأحتمي ممّا هو قادم؛ لأنّي قد أدركت أنّي مقبلٌ على شيءٍ سيّءٍ للغاية.
« أخبرني بأنّك لا تعمل عنده يا مينا ! » قال والدي بينما ينهض مقتربًا منّي. بدأت أتراجع بخطواتي للخلف علّي أصيب الباب فأخرج ولكنّ والدي باغتني بتلك الصفعة التي وجّهها لخدّي ثم اقترب منّي مُمسكًا بياقة قميصي وهو يتحدّث بهدوء مريب :« كذبت عليّ !واستغفلتني ! ألم آمرك أن تبتعد عن ذاك الشاب؟! ألم آمرك؟! أتخالني لم ألحظ ما تخفيه؟! أتخالني غبيًّا؟! أتستغفلني يا مينا؟! أتستغفلني ؟! » أنهى والدي كلامه مُسددًّا لكمةً قويّة لوجهي طرحتني أرضًا واصطدم ظهري بالجدار بقوة فانكمشت ملامحي بألمٍ وأنا أنظر لوالدي بصدمةٍ كبيرةٍ وقد آلمني قلبي بفعله وأنا أتحدّث بصوتٍ خفيض :
« تمهّل يا والدي، سأشرح لك، لم أستغفلك ولكن__»
« بدليل تواجد هذه في غرفتك؟! » تحدّث مكاريوس بينما يدنو منّي وهو يحمل الكتب الإسلامية في يده.
يا ربّي!
لقد اكتشف أبي الأمر بِرُمّته!
« اممم، ما هو الإسلام؟! » قال مكاريوس ثم قهقه وشرع يُمزّق تلك الكتب فانتفضتُ من فوري ونهضت وقد أغضبني فعله حدّ الانفجار، دفعتُه بكلّ قوّتي ودافعتُه لآخذ الكتب من يده ولكنّه كان مُتمسّكًا بها، وحين انتبهت لحمله للمصحف الكريم اندفع الدم في عروقي وسحبته منه بسرعةٍ بعدما لكمته في وجهه وأنا أصيح به :« إيّاك ومساس مُصحفي ! سأدفنُك حيًّا حينها ! »
طالعته بمَقت وأنا أحتضن مصحفي، وتناهت ضحكاتهما الهازئة لمسمعي، التفتُّ لوالدي فوجدتُه يضحك بسخريةٍ منّي!
« لمَ يا أبي؟! لمَ ؟ لمَ تخذلني دومًا؟! لم تترك يدي في الوقت الذي أحتاجك فيه؟! أودُّك أن تعلم شيئًا وحيدا فقط، لقد أرشدني الله لطريقه الصحيح بعد عناء طويل ورحلةٍ ملئيةٍ بالصعاب خُضتها، ولن أبرح ذاك الطريق حتى ألقاه، مهما فعلت لي يا والدي.. فكن على ثقةٍ أنّ ذلك لن يؤثّر عليّ ولن يحرّكني من مكاني قيد أُنملة! »
ازدادت ضحكاتهم وتقدّم منّي مكاريوس ذاك ثم طالعني بمَقت وهو يقول :« بل ستفعل يا عزيزي! ولن ترى النور حتى يعود لك عقلك! ثقْ بي لقد عالجت الكثير من أمثالك على يديّ هاتين! »
« لا تقلق يا سيد نسيم، أؤكّد لك أنّ ولدك سيعود كما السابق تمامًا بل أفضل! فقط اترك الأمر لي ! » قال مكاريوس بينما يُحادث والدي وهو يقبض على قلادة الصليب بكفّه. في تلك اللّحظة أدركت خطورة الأمر وأخذ قلبي يطرق صدري طرقًا كأنّما يستغيث بي للهرب. اندفع الأدرينالين في دمي وتحرّكت بسرعةٍ تجاه الباب وقبل أن تمسّ يدي المقبض، شعرت بجسدي ينتفض بقوّة، وأحسستُ بنبضات قلبي تتباطأ، ثقل جسدي وخارت قواي وخررتُ أرضًا أُصارع ذاك الألم الذي تفجّر في جسدي كلّه. بالكاد كانت أنفاسي تخرج وأنا أنظر لأبي وهو يحمل بيده صاعقًا كهربائيًّا متبسّمًا. ثم نظر لي مكاريوس وهو يضحك قائلًا :« إليك أوّل قاعدةٍ من قواعدي أيّها اليافع! إذا حاولت الفرار فستُقتل دونما تردّد! »
نظرت إلى والدي الذي بدا سعيدًا وأخذت أُحدّق بيده التي صعقتني بذاك الجهاز وتمتمتُ بصوتٍ خفيض بالكاد ظهر : « ألهذه...الدرجة ...يا أبي أهون... عليك؟! »
لم يبدُ أنّه سمعني أساسًا وهو ينحني إليّ متبسّمًا وقد بدت نواجده :« نسيت شيئًا! ماذا كان اسمه الجميل؟! أوه أجل! براء! كُن على ثقةٍ أنّك لن تراه مُجدّدًا في حياتك! لأنّه لن يرى النور ثانيةً! »
صحتُ بما أملك من قوّة :« لا! هو... لم يفعل... شي... شيئًا... أرجوك يا أبي... »
قهقه والدي ثانيةً وهو يتجاهلني بينما يُحادث مكاريوس الذي تبسّم له :
« إن لم يعد كما كان! فلتجعلهُ يلحق بوالدته أو بصديقه ! أيّهما أقرب ! ستفرح به أُمّه كثيرًا ! مصيرهما متشابه على أيّة حال ! »
لم أستطع سماع الباقي فقد ركّزت على تلك الجملة التي أخذت ترنّ في أذنيّ ولم أستطع أن أجد تفسيرًا لها
« فلتجعله يلحق بوالدته أو بصديقه! »
أمّي؟!
براء!
صديقي سيؤذونه! براء!
سيقتلونه!
لكن ما علاقة أمّي بالأمر؟!
ولمَ يتحدّث والدي عنها بمَقت هكذا؟!
لم أستطع التفكير أكثر حينما شعرت بجسدي ينتفض ثانيةً وعاد ذاك الألم المُبرح يطرق جسدي وشعرتُ بالشّلل والخدر يسريان في جسدي، لم أستطع الحديث! لم أستطع الحركة! جُلّ ما أحسستُ به هو تلك الدمعة الحارّة التي فرّت من عيني.
لم أكن خائفًا على نفسي!
لم أكن آبهًا بشيء!
ولم يشغل بالي وفؤادي سوى شخصٍ واحد!
براء!
صديقي العزيز!
انجُ بحياتك!
أحسستُ بجفوني تثقل ولم أعد أرى بوضوح وأغلقت جفوني على القذى ولم تصدر من شفتاي سوى كلمتان لا أكثر :« يارب! احفظه! »
يتبع.....
ما رأيكم في الفصل؟ كيف كان بصدق؟ ✨
توقعاتكم؟
آرائكم؟
وإلى لقائنا القادم دمتم بخير ❄️🌌
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top